أرض بلا شعب
صلاح حميدة
ثارت ضجة واسعة بعد القرار الإسرائيلي البدء بتنفيذ ترحيل عشرات آلاف الفلسطينيين من الضفة الغربية باتجاه قطاع غزة وخارج فلسطين المحتلة، واعتبر الكثير من المحللين والسياسيين أنّ لهذا القرار أسباب عديدة، يتعلق بعضها برغبة إسرائيلية بزيادة الضّغط و التّكدّس السكاني في القطاع المحاصر، ورغبةً بالفصل النهائي بين القطاع وما تبقّى من الضّفة الغربية، ومنهم من اعتبره جزءاً من سياسة عامة تهدف لتهجير الفلسطينيين من أرضهم، بينما اعتبر غيرهم أنّ هذه السياسة ناتجة عن حكومة يمينية متطرفة تسعى لفرملة أي تحرك سياسي على أرض الواقع، وأنّ هذه الخطوة تأتي لتعلن الوفاة النّهائية لاتفاقية أوسلو التي تنص على أنّ الضفة والقطاع وحدة جغرافية واحدة، ولتردّ على تصريحات سلام فياض الذي نقل عنه أنه تنازل عن حق عودة اللاجئين لأراضيهم المحتلة منذ العام 1948م، وحصر العودة إلى الوحدات السكنية التي ستبنى في الضفة الغربية، وبهذا يعلن الساسة الصهاينة أنه لا عودة أيضاً للضفّة الغربية، بل تهجير منها وبعشرات الآلاف، وتقول بكل جلاء أنّ من يقرر في الضّفة الغربية هو الحاكم العسكري الاسرائيلي، وما عداه فلا صفة تقريرية له.
مهما اختلف المحللون والسياسيون حول طبيعة وتفسير الخطوة الاسرائيلية، إلا أنّ السياسة الصهيونية على أرض الواقع، ومنذ بدأ الصراع على أرض فلسطين تتحدث بالوقائع ولا تحتاج لكثير تحليل وتعليق، فقد قامت الفكرة الصهيونية على قاعدة أنّ ( فلسطين أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض) وهي فكرة عنصرية فاشية، لم تكن لتختلف في جوهرها عن الفكر العنصري الاستعماري الكولونيالي الغربي، الذي مارس التطهير العرقي والابادة الجماعية والتهجير والتقتيل في كل من أمريكا الشمالية واستراليا وجنوب أفريقيا وغيرهما من المناطق في العالم.
ولتحقيق هدف الترحيل، وترجمةً للفكرة الصهيونية القائمة على نفي الآخر من الوجود وسرقة أرضه، كان لا بدّ من تطبيق مجموعة واسعة من السياسات تفضي في نهايتها إلى ترحيل أصحاب الأرض الأصليين من بلادهم، وتوطين العنصريين مكانهم، والتّمتّع بخيرات أراضيهم، ولتحقيق هذا الهدف قام العنصريون ومن يدعمهم بخطوات لا حصر لها.
فقد قاموا بتفعيل واستغلال كافّة الأدوات السياسية والدّبلوماسية والاقتصادية عبر القارات لخدمة هذا الهدف وتحقيقه بأقل الأثمان أو بأغلاها إن تعقّدت الأمور، ولذلك نشطت الدّبلوماسية الصّهيونية لشراء ورشوة مسؤولين في الدولة العثمانية لتحقيق هذا الهدف، وفيما بعد سعت للسيطرة على كافة مفاصل تشكيل وصناعة الرأي العام والسياسة في العالم، لتؤثّر على صناع القرار بما يخدم أجندتها المعلنة للسيطرة على فلسطين خالية من الفلسطينيين، وتوّج هذا بما عرف بوعد بلفور، الذي تعهدت بموجبه الامبراطورية البريطانية بتحقيق الفكرة الصهيونية على أرض فلسطين، وهو ما يعني تلقائياً تفريغها من أهلها الأصليين، وإحلال الغزاة مكانهم قصراً.
حالياً، ينشط الصّهاينة من خلال حلفائهم وأدواتهم في العالم أجمع- وبعضهم من العرب والمسلمين- من خلال تسويق مبادرات ومشاريع، تهدف في مجملها إلى إعادة تهجير من هجّر من الفلسطينيين إلى مناطق أبعد عن بلاده الأصلية، خدمةً للهدف الرئيس للمشروع الصهيوني، وأملاً بالقضاء على أيّ أمل أو إمكانية للمهجّرين بالعودة إلى أراضيهم التي تم ترحيلهم منها، وتسعى هذه الأطراف مجتمعة لفرض هذه المشاريع على القيادات السّياسية الفلسطينية عبر الترهيب والترغيب.
عمل الصّهاينة ولا زالوا على شراء الأراضي والعقارات من أهل البلاد الأصليين، مثل قلة قليلة من ضعاف النّفوس، أو من خلال بعض الملاك من غير الفلسطينيين، مثل عائلة سرسق اللبنانية، وبعض الكنائس مثل الكنيسة الأرثوذكسية التي يسيطر عليها اليونانيون، الذي أدّى لثورة عارمة من أبناء الطّائفة الأرثوذكسية العربية لوقف هذا السيل من التّسريبات العقارية للمستوطنين.
استمرت السياسة الصهيونية من خلال القتل والتهجير المباشر، وهو ما قامت به العصابات الصّهيونية قبل إقامة دولة الاحتلال وبعد قيامها، وهي سياسة قائمة على المجازر والتقتيل للفلسطينيين فرادى وجماعات، ولم تتوقف هذه السياسة منذ بدء الهجرة الصهيونية وحتى اليوم، وهي تمارس على مدار السّاعة، ولا يستطيع البحّاثة إحصاء وحصر الكم الهائل من المجازر والقتل الذي ارتكب بحق الضّحايا الفلسطينيين لكثرتها.
ترافق ويترافق مع عمليات القتل والتّهجير سياسة قذرة أبدع فيها العنصريون الصّهاينة، وهي سياسة اختلاق القوانين العنصرية التي تهدف إلى مصادرة الأراضي الفلسطينية، ومن بينها قوانين المصادرة لما يطلق عليه بالمنفعة العامة، واستغلال أراضي الدّولة، والمصادرة لأهداف عسكرية، وقانون أملاك الغائبين، وجيّرت وتجيّر هذه القوانين بطريقة تخدم فقط الجهد الاستيطاني الإحلالي، وتضييق المساحة التي تشكل التوسّع الطّبيعي للفلسطينيين على أرضهم، بينما تصل الأسلاك الشّائكة والجدران الاسمنتية حتى أبواب بيوت الفلسطينيين.
أمّا سياسة هدم بيوت الفلسطينيين فهي سياسة قديمة جديدة، وهي موجودة منذ العام 1948م، حيث تم العمل بها بشكل واسع جداً، مسحت من خلالها قرى وأحياء مدن بأكملها عن وجه الأرض، بل تعدى هذا ليصل فيما بعد إلى المساجد والمقابر، واستمرت هذه السّياسة تحت عناوين عديدة، مثل الهدم الممنهج للبيوت والمصانع والمساجد والمؤسسات في ما عرف بالحروب المنظّمة التي يشنها جيش هذه الدّولة، ومن خلال الادعاء بعدم الترخيص للبناء، وبالطّبع شروط البناء والترخيص شبه مستحيلة للفلسطيني، وبالتالي إما أن يرحل أو أن يبني بلا ترخيص من الاحتلال، ثم بعد أن ينتهي من البناء، يتم إجباره على هدم بيته بيده إمعاناً في القهر وتحطيم المعنويات، ودفعاً له بالجبر إلى الرحيل.
بعض الفلسطينيين، فوجىء بالمستوطنين يدعمهم جيش الاحتلال يقتحمون بيته ويرمونه خارجاً ويسكنون في مكانه، ويصبح بين ليلة وضحاها نزيل الرصيف المقابل لبيته، وفي هذه الحالة إما أن يبقى على قارعة الطّريق يسكن خيمة يتم هدمها بشكل دوري من قبل قوات الاحتلال، أو أن يرحل، وهذا ما جرى مع عائلة الكرد وجيرانها في حي الشّيخ جراح في القدس على سبيل المثال.
وفي قرية فلسطينية قضاء رام الله، فوجىء أهلها بقوات الاحتلال تخطر بعض أهلها القاطنين في مبانيها القديمة، بأنّ عليهم مغادرة بيوتهم لأنّها منطقة أثرية، وممنوع عليهم السّكن فيها، بينما تمّ إخطار آخرين بأنّ بيوتهم الجديدة سوف تهدم بالرغم من أنّهم قاموا بترخيص البناء؟!.
و من أجل الاسراع في التّهجير يعمل الاحتلال على تضييق سبل العيش الكريم على الفلسطينيين، وحصرهم في جيتوهات ضيّقة يتكدّس فيها آلاف السّكان، ويمنعهم من الوصول إلى أراضيهم الزّراعية عبر سياسة الجدران التي تتم حالياً، والمناطق الحرام، أو ما يطلق عليها الحزام الأمني حول المستوطنات وقرب الجدار الفاصل في الضّفة والقطاع على حد سواء، ولا يسمح لهم بزراعة هذه الاراضي، بل يمنعون من فلاحتها.
كما يضيّق على الفلسطيني في عمله وفي تجارته وفي صناعته، ولا يتم كل هذا النّشاط الاقتصادي إلا وفق قيود الاحتلال وشروطه التعجيزية. يضاف إلى ذلك كله قيام المستوطنين وبحماية الجيش بقطع أشجار الفلسطينيين وحرق محاصيلهم وسياراتهم وبيوتهم والاعتداء عليهم وقتل بعض الفلاحين وسرقة ثمارهم، بل سرقة أراضيهم وفلاحتها ومنعهم من الاقتراب منها تحت تهديد القتل والاعتقال، إضافة إلى السيطرة على ينابيع المياه والآبار الجوفية، ومنع الفلسطيني من حفر الآبار إلا بموافقة الاحتلال وبعمق محدد، وإذا حفر بئر يخالف المواصفات التي يحددها الاحتلال يتم ردمه، بينما يمنع الماء عن الفلسطيني للشرب ويقطع عنه أسبوعياً لأيام، بينما يتمتع غالبية المستوطنين ببرك للسباحة والاستجمام والرّي وغيرها.
يتم التّنغيص على حياة الفلسطيني بشكل يومي وعلى مدار السّاعة، عبر عدد كبير من الحواجز العسكرية والسدود الترابية والاسمنتية، ووقت الفلسطيني ورفاهيته والتزاماته لا تقع ضمن اهتمامات الاحتلال، فعلى الفلسطيني أن ينتظر لساعات أو ربما لأيام حتى يسمح له بعبور حاجز أو ربّما لا يسمح له، ومن الممنوع عليه أن يحتج أو يتأفف، بل عليه أن يتقبّل ذلك، وربّما إذا ابتسم أو احتجّ أو ناقش أو حتى نسي أن يبرز بطاقته أو أن يطفىء مصابيح سيارته ليلاً، أو كان مزاج الجندي الاسرائيلي متعكّراً، فحينها من الممكن أن يضرب أو يعاد إلى نهاية الصف الطويل من الناس في ظل برد قارص أو حر لاهب، وإذا ساءت الأمور، فربما يقتل الفلسطيني بالرصاص أو يموت قهراً أو مرضاً، وربما تلد الفلسطينية على هذا الحاجز طفلاً ميّتاً، أو ربما تكتب له الحياة في ظل بندقية وحاجز.
يرهق الاحتلال الفلسطينين بالضّرائب والرّسوم والجمارك والغرامات المالية الباهظة، التي تجبره على دفع ما يملك وما لا يملك، وتدفعه للدّين حتى يسدد ما يجبره على دفعه الاحتلال، فمن خلال إفقار الفلسطيني، يدفعه الاحتلال دفعاً للبحث عن مصادر رزق بديلة، لا تتوفر للفلسطيني على أرضه بفعل سياسة الاحتلال العنصرية، وبالتالي يرحل بلا صخب.
كما يتم كل فترة اختراع قوانين تهدف الى سحب حق الاقامة للفلسطيني من أرضه، مثل سحب الهويات المقدسية من المقدسيين الذين يحملون جوازات سفر أجنبية، أو الذين يقيمون في المناطق التي تصنّف على أنّها مناطق ضفة غربية، وبالتالي يصبح هؤلاء ( بدون) ولا يملكون سوى خيار الرّحيل، ويدخل القرار الاسرائيلي الأخير بالترحيل ضمن هذه السياسة التي تسعى في جوهرها لتهجير الفلسطينيين من أرضهم.
تنشط العديد من الدّول الغربية لتسهيل هجرة الفلسطيني من أرضه، فالفلسطيني لو توجّه لتلك الدّول لوجد أنّ أبوابها مفتوحة له على مصراعيها، وتنشر بعض الدّول إعلانات بشكل دائم للفلسطينيين للتقدم للهجرة إليها، بينما تنشط أخرى لطلب الخريجين الفلسطينيين للعمل فيها، وتحقيق أحلامهم على أراضيها، وبالتالي توطينهم فيها مع عائلاتهم. وعندما يتم الربط بين التنغيص والقهر والتضييق والطرد والحصار والتّشريد والقتل الذي يتعرّض له الفلسطيني على يد الاحتلال، وبين سياسة الباب المفتوح التي تنتهجها هذه الدّول لاستقباله، يصل المرء إلى قناعة بأنّ هذه كلها عبارة عن سياسة متكاملة تهدف لتهجير الفلسطيني وتفريغ أرضه، حتى يتسنّى للاحتلال ابتلاعها بلا مقاومة.
السياسات العنصرية التي تهدف لتهجير الفلسطينيين تأخذ أشكالاً متعدّدة تلتقي على هدف واحد، وهو تفريغ فلسطين من أهلها، وهي سياسة مستمرة ما بقي الاحتلال، لأنها تعتبر ماء حياته، ولا علاقة لها بيمين ولا يسار صهيوني، ولكن الشّعب الفلسطيني بغالبه تمسّك ويتمسّك بأرضه، وكلما تصاعدت الهجمة ضده زاد تشبّثه وتجذّره في أرضه عبر تطوير آليات جديدة للمقاومة، وبالرغم من ندرة النّصير، إلا أن الفلسطينيين بقوا يشكّلون غصّة في حلق العنصريين الصّهاينة، ولا زال المسؤولين الصهاينة - منذ جولدا مائير وحتى اليوم- مرتعبين من خصوبة الفلسطيني وقدرته على البقاء والتّوالد والتّكاثر على أرضه، بينما وجود العنصريين مهددّ على الأرض التي اغتصبوها بالرغم من كل سياسات التّهجير للفلسطينيين، والهجرة الصهيونية إلى فلسطين.