كلمة الحق لا تقطع رزقاً و لا تقربُ أجلاً

كلمة الحق لا تقطع رزقاً و لا تقربُ أجلاً

د. عاصم قبطان

رغم محدودية العمل السياسي المتاح في هذا الوطن و حصره ضمن أطرٍ انطلقت من الأعلى للأسفل، حيث إذا استثنينا حزب البعث ( قائد الدولة و المجتمع ) بحسب المادة الثامنة من الدستور المعتمد منذ النصف الثاني من القرن الفائت ، و يبدو أن المتاح من العمل السياسي في سورية من الناحية النظرية ، لا يمكن أن يتجسد إلا من خلال الإنضواء تحت لواء الجبهة الوطنية التقدمية ، و إذا انتهجنا الواقعية و الشفافية فإن الكثيرين يعتقدون أنها باتت هيكلاً مفرغاً من محتواه ، و كثيرونَ يعتقدون أن المشاركين في هذه الجبهة ، لا يمثلون سوى أرقامٍ متواضعة فيما تبقى لهم من تواجد على أرض الواقع في حقيقة العمل السياسي ، و كثيرون يعتقدون دون مبالغة ، بأنه قد عفا عليهم الزمن و أصبحوا في عداد المومياء السياسية و لم يتبق لهم من قواعد حقيقية سوى سياراتٍ فارهةٍ يركبونها و ربما سائقٌ أو مرافق تقدمه الدولة ، و قد لا نجانب الحقيقة إذا تصورنا أنهم لا يمثلون إلا عبئاً على القيادة السياسية التي تنادي بالواقعية و الشفافية ، و ضمن المتغيرات التي حملها القرن الواحد و العشرين بما فيها من تناقضات و تحديات في ظلَ القطبية الواحدة و الدعوات الأمريكية الكاذبة للحرية و الديمقراطية و ما يرافق ذلك من التآمر على سوريا شعباً و نظاماً ، قد نكون منصفين إذا قلنا أن هذا الترافق ما بين القيادة السياسية السورية و تطلعاتها من جهة ، و مفردات العمل السياسـوي المنضوية ضمن الجبهة الوطنية التقدمية التي اعتـُمدت خلال العقود الأربعة الماضية ، لم تعد قادرة على القيام بالدور المناط بها ، حيث أنها ترهلت فعلاً ، و فقدت فاعليتها من حيث الشكل و المضمون تلك التي لم تستطع أن تجسدها يوماً على صعيد الحقيقة و الواقع ، و لم تتميز إلا بالإذعان على مر العقود .

و يبدو لنا كمراقبين أن الإصرار على هذا الأسلوب من الممارسة السياسية ، هو ما أدى لتحفيز التطلعات السياسية لجماعات المعارضة التي تدعو للحرية و الديمقراطية و المشاركة الحقيقية في بناء المستقبل لهذه الأمة و إرساء مبدأ التعددية السياسية الحقيقية في هذا الوطن ، من خلال المعارضةِ الوطنية و تجاوز الجبهة الوطنية التقدمية التي فقدت مصداقيتها في تمثيل شرائح المجتمع و التي تراجعت في عديدها و كان جلُ اعتمادها على الدعم القادم من تحشيد المصفقين كيفما كان أثناء الندوات و المؤتمرات كي لا تظهر كقيادات بلا قواعد ، و يبدو لنا إذا أردنا أن لا نجانب الحقيقة أن المعارضة الوطنية كانت موجودةً في كلِ زمانٍ و مكان و لم تتلاشى في يومٍ من الأيام بل بقيت صامدة لعوادي الزمن ، و بعين المراقب يبدو أن الظروف الموضوعية ، و طبيعة العصر ، و الحرص على الإمساك بالحق الضائع ، هو ما دعا هذه المعارضة الوطنية لانتهاج العلنية في السنوات القليلة الماضية ، بالرغم من غياب قانونٍ عصريٍ للأحزاب و الذي ما زال قيد الدراسة حسبما يتردد في الأوساط الإعلامية ، و بالرغم من انه بات حاجةً ضروريةً ، و لكنها مؤجلة ، و لا نحسب أنه ضاع في زوايا النسيان .

مما تقدم فإن التربة أصبحت ممهدةً لظهور جماعاتٍ معارضة وهي في أسوأ الظروف ظاهرةٌ صحية في أي بلد ، فكيف إذا كانت في بلدٍ تُرسَمُ و تحدد فيه أساليب العمل السياسي ، و في هذه المرحلة ، و تجاه التحديات التي واجهت سوريا ، يبدو أن القيادة السياسية أدركت ضرورة وجود المعارضة الوطنية السياسية و اعتبارها علامةً صحية ، وهو ما سمح بهامش ضيق من الفاعلية ، و من خلال التغاضي عن نشاطات المعارضة الشريفة كما سماها السيد الرئيس بشار الأسد ، وبنفس الوقت مضى أصحاب القرار في التعامل مع المعارضة على مبدأ العصا و الجزرة .

و قد يكون من الواقع أن إحجام القيادة السياسية عن عدم اعتماد التعددية السياسية وعدم التعامل مع المعارضة الوطنية الشريفة بالرغم من مواقفها الصريحة ، و المعلنة ضد أمريكا و أعداء الأمة ، و رفضها القاطع الإستقواء بالخارج ، أدى إلى إحباطات لدى الكثيرين ، مهدت لظهور فيروسات جديدة طفت على صعيد الممارسة السياسية للمعارضة في سورية و سعت إلى انقسامها إلى معارضةٍ وطنيةٍ مخلصة للبلد و معارضةٍ أخرى كان من المؤمل مصداقيتها إلا أنها في رأي الكثيرين انخدعت في أحسن الظروف بشعارات الديمقراطية الأمريكية ، أو ارتضت لنفسها أن تكون في خدمةِ الأمريكان دعاة الشرق الأوسط الجديد و سدنة الصهيونية تحت شعار محاربة الاستبداد ناسـيةً أن محاربة الاستبداد لا تعني تسليم البلد إلى أعدائه ، و من المؤسف أن هذه المعارضة الفيروسية استطاعت في غفلةٍ من الزمن ... خداع المعارضة الوطنية الشريفة و التلاقي معها لفترةٍ قصيرةٍ في عمرِ السياسة ، و لحسن الحظ فإنها غدرت بها في الوقت المناسـب غباءً منها عندما تولد لديها الشعور الكاذب بأنها كادت تسيطر على الموقف و أن لها جماهيرها فجاءت خطواتها التصعيدية التي انكشفت فيها على حقيقتها .

لا شك أن القراءة التحليلية لما تواتر من أخبار خلال الأسابيع الماضية و التي تناقلتها الصحافة و المواقع الإلكترونية العديدة عما اصطلح بتسميته إعلان دمشق تدعونا كمراقبين من بعيد إلى محاولة رصد هذا البيان و ما يعنيه و ماهيةِ مكوناته و ماهيةِ الأسس التي بني عليها .

لقد بات واضحاً لدى الجميع أن إعلان دمشق ولدَ ميتاً لأنه كان يفتقر إلى أقل القواسم المشتركة التي يمكن أن تجمع أية مجموعات تدعوا إلى الحرية و العدالة و الديمقراطية و الولاءِ للوطن ، و من المؤكد أن كافة المؤمنين بحرية الوطن لا يمكن لهم اللقاء مع من ظلموا الجماهير و انتهكوا حرماتها ، و أنه من المستحيل قبول التعايش و التعامل مع الذين كانوا رأس الحربة في قمع الأمة و سلبها حريتها و التآمر عليها و سرقة مقدراتها و التلاعب بثرواتها و أخيراً انتقالهم من خندق الاستبداد للتلاقي مع أمريكا و الصهيونية ، هؤلاء لا يمكن أن يكونوا في عداد المناضلين من أجل الحرية و الديمقراطية ، ناهيكَ عن الآخرين الضبابيون الذين تماهوا مع تلك الفئة المارقة و التقوا معها خارج سوريا ، علماً بأن المعروف من مواقفهم المعلنة غياب أية قواسم مشتركة تجمعهم مع سدنة الاستبداد و القمع ، هؤلاء الذين لا يمكن ترجمة مواقفهم إلا بالعهرِ و النفاق حيث لا مواقف حقيقية لهم ، أو قل إن مواقفهم في أحسن الظروف لا تجسدُ عقيدتهم و قد تختلف من قطرٍ لآخر و قد تتعارض ما بين قطرٍ و آخر . ثم ماذا نقول عن الذين غيروا جلدتهم التقدمية 180 درجة و ذهبوا ليتكسبوا البراءة من السفارات الأمريكية ، هل يمكن قبول هؤلاء ضمن المخلصين و أصحاب المواقف الثابتة ؟ ، لسنا بحاجة للحديث عن المنتفعين الذين ظنوا أنهم ممثلين للشعب و كانت أماكن إقامتهم و ارتباطاتهم المعروفة هي التي أدت بهم للجلوس تحت قبة المجلس في غفلةٍ من الأمة ، و من المؤكد أن تغيير مواقفهم لم يكن لتكفير ذنوبهم تجاه الأمة ، و لكنهم توهموا أن عليهم استغلال رياح التغيير التي صُوِرَ لهم أنها قادمة إلى سوريا بعد احتلال العراق فأرادوا أن يجدوا لهم مكاناً بين النعال التي تخدم الأمريكان قبل فواتِ الأوان ، لقد استمرؤوا العمالة و التحقوا بركب الرابع عشر من آذار ليثبتوا عمالتهم و انسلاخهم عن أمتهم و تاريخها و حضارتها ، و بكلِ وقاحةٍ ، فهم يصرون على أن معارضة أمريكا و الاحتجاج على مواقفها الصهيونية خط ٌ أحمر ، و أكثر من ذلك ، لقد طالبوا أمريكا بمحاربة سورية و الضغطِ عليها ، و ارتموا إلى الأبد في أحضان الصهيونية و الصهيو أمريكية ، و يفاجئنا اليوم هؤلاء المارقون بلقائهم مع الأحمق بوش الذي يبارك خطاهم ، لا ندري كيف سيعلل لنا رئيس إعلان دمشق و رئيس ما اصطلح على تسميته بالمجلس الوطني لإعلان دمشق ، الخطوة الخيانية باللقاء مع الأحمق بوش الإبن ، الذي ما فتئ يطلق تهديداته الجوفاء لسوريا و يعمل على تفتيت لبنان من خلال تشجيعه لعملائه غربان الرابع عشر من آذار كي ينتخبوا رئيساً لهم بأكثرية النصف + واحد ، و هل من التقى ببوش يمثل هذه الأمة أو يمثل نسخة عن جلبي العراق الذي طواه الزمن.

هناك حقيقة ٌ واحدةٌ ؟ ، هؤلاء و من سبقهم و من سيأتي بعدهم من العملاء لا يتعلمون الدروس و لا يأخذون بالعبر ، و لهم في جيش لبنان الجنوبي و سعد حداد الذي نسـيه التاريخ خير مثل ، و لهم في الجلبي خيرُ مثل و لهم في جماعة الرابع عشر من آذار و ما انتهوا إليهِ خير مثل الذين ما زالوا يلهثون خلف دافيد وولش لكي يعطيهم قبلة الحياة ،ها هي أمريكا و إسرائيل كما تخلت عن السابقين ، ستتخلى عنهم عاجلا ً ، تستعملهم ثم ترميهم في مزابل التاريخ ، حيث تكونُ دائماً نهاية العملاء و الفاسدين ، و لن يكون مصير هؤلاء و مكافأتهم من أمريكا أقل من ذلك .

كلمةُ حقٍ يجبُ أن تقال ؟ ، كثيرونَ عاتبون على سليلة ِ البيت الوطني من حماة إبنة أكرم الحوراني الذي كان من الداعين إلى الوحدة العربية و الموقعين على وثيقة الوحدة و الذي كان له شرف إشغال موقع نائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة في العقد السادس من القرن الماضي و الذي ضيع في لحظةِ ضياع تلك المناقبية بتوقيعهِ على وثيقة الانفصال نتيجةً لعقدته المركبة تجاه الراحل جمال عبد الناصر و الناصرية و الناصريون رواد الوحدة العربية ، كثيرونَ يربأوون أن تمتد يد الدكتورة فداء حوراني لتصافح المهرولين إلى مجا رير البيت الأبيض حيث تنتهي هناك أحلامهم .

بعد كل ذلك هل من الممكن أن يلتقي الشرفاء مع العملاء ، للأسف لقد كان خطأً جسيماً التعامل مع أمثال هؤلاء ، و كان لا بد من التصحيح و لو جاءَ متأخراً ، فخيرٌ للجميع اكتشاف الحقيقة الآن و اتخاذ المواقف الجذرية الآن على أن تكون المهادنة و الانتظار و التمني لعل الأمور تكون أفضل . كان لا بد من هذه الوقفة التي باركها كل المخلصين في هذه الأمة الذين كانت لهم رؤيةٌ باكرة في عدم جدوى مثل هذه التحالفات من أجل الوطن و الأمة.

كلمةٌ أخيرة لا بدَ أن تقال ، أن هذا الشرق كانَ و سيبقى موقعاً يُتآمَرُ عليه ،و إن الخطر القادم سيحيقُ بالحكامِ و المحكومين ، و لن يتحقق الانتصار إلا بتلاقي الجميعِ على كلمةٍ سواء ، فالوطن للجميع .

لقد آن الأوان لكي يتصافح الجميع و أن تتصافح أيدي المخلصين للوقوفِ صفاً واحداً ضد أمريكا و الصهيونية وصولاً إلى الحرية و الديمقراطية و العدالة و لتكن سوريا مثالاً يحتذا لكل العرب في وحدة شعبها و صمودها .

لن يفرط المخلصون للوطن بذرة من ترابه مهما كان عشقهم للحرية و الديمقراطية و الوحدة وهم يسعون بكل شرف و إباء لبناء الوحدة الوطنية ،و لن يكون عشقهم للحرية و الوحدة و الديمقراطية دافعاً لأن يضحوا بترابِ الوطن و كرامته .