دعني أقتلك... لكي أحميك
دعني أقتلك... لكي أحميك
أ.د/
جابر قميحةكان شعبنا المسكين المطحون في مصر المحروسة ينتظر - علي أحر من الجمر - الأيام الباقية علي شهر مايو 2003, ليوارَى المدعو" قانون الطوارئ " مثواه الأخير غير مأسوف علي شبابه وكهولته وشيخوخته, ولكن شعبنا الطيب فوجئ - قبل نهاية أجل المجحوم ببضعة أسابيع - بموافقة الأشاوس: نواب الحزب الوطني.. حزب الأغلبية (!!) علي تمديد العمل بهذا الطارئ الدميم الذميم لمدة ثلاث سنوات أخري . لماذا ياسادة? قالوا: «نظرا للظروف الخطيرة التي تعيشها المنطقة في وقتنا الحاضر, ولمواصلة القضاء علي المخدرات والإرهاب, والقضاء علي تجار المخدرات والإرهابيين, أي أنه قانون لابد منه لحماية الشعب.وما زال المجحوم سيد الموقف والحياة المصرية حتى يومنا هذا . مع أن مصر فيها قانون واف لمواجهة الإرهاب من سنة 1992 . نشربالجريدة الرسمية في العدد 29 مكررا بتاريخ 18 7 1992 . ولكن حكومة – أو حكومات – الحزب الوطني أهالت عليه التراب والحجارة . واعتبرت قانون الطوارئ ضرورة حياة وبقاء وحماية واسقرار وسلام .
إذن فقد سقط في «بئر الغلط والخطيئة» حكومات المغرب والبحرين ولبنان وموريتانيا , وبقية الدول التي لا مكان «للطوارئ» فيها, وتعيش تحت مظلة الديمقراطية, ويحاكم المدنيون فيها أمام القضاء المدني!!, وهل أجرم تشرشل حينما رفض أن يعلن الأحكام العرفية أثناء الحرب العالمية الثانية, وقال - عندما اقترحوا عليه ذلك - «إنني أُجٍرم في حق شعبي إذا جمعت عليه نار الحرب ونار الأحكام العرفية».
دعني أقتلك لكي أحميك!!
وما زال الكبار جدا يزعمون أن قانون الطوارئ ما ولد, وما جدد, ومامُدّ إلا لمصلحة الشعب وحمايته حتي يعيش في أمن وسلام ووئام. يا عجبًا يا كبار جدًا !! كيف يحمي الشعبَ سيفٌ مصلت علي عنقه? كيف يشعر المواطن بالأمان وهو مهدد «بزوار الفجر» في «تجريدة إرهابية» للقبض عليه ومصادرة كتبه وكتب أطفاله, وأجهزة الكمبيوتر والدسكات و.. و.. بدعوي التخطيط والإعداد لقلب نظام الحكم, أو كراهية الحكم الحاضر أو اختراق الجماهير.. أو ..أو.
ورحم الله جمال الدين الأفغاني (1839-1897 ( لما رأي المستعمر الإنجليزي يستبيح أرض الهند ومصر وغيرها بحجة حماية شعوبها من أعدائها فزرع في قلوب الناس الرعب, واستنزف الثروات, ونشر الفساد والسقوط, كان يقول لتلاميذه إنه كالجارية الدميمة الكالحة التي كانت تحمل الوليد الرضيع - ابن سيدها - وتسير به بعد الغروب فأخذ يبكي فتحتضنه, وتقربه من وجهها القبيح الكالح, وتقول له في حنان: لا تخف من الظلام با بني, فأنت معي. يقول جمال الدين: ولو أبان هذا الرضيع في الكلام لقال: «أنا لا أخاف من الظلام, ولكن أخاف من وجهك الكالح الدميم». ودلالة الحكاية لا تحتاج إلي توضيح.
والمواطن المصري تأخذه الغصة والأسي حينما يسمع ويقرأ التصريح «الأمريكاني» بأن «حكومة الولايات المتحدة تنظر بعين القلق والأسف لمد الحكومة المصرية العمل بقانون الطوارئ بصفة دائمة , فهذا يتعارض مع مبادئ الديمقراطية!!!.
وليقرأ نواب الحزب الوطني الأشاوس ما نشرته الأهرام الصادرة في 2/3/2003 تحت عنوان «البرلمان التركي يرفض انتشار 63 ألف جندي أمريكي في البلاد..» هذا وقد أكد رئيس حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان «أن عملية التصويت كانت ديمقراطية تماما, وربما جاءت نتيجتها لمصلحة البلاد... خارج المجلس تظاهر خمسون ألف مواطن يرفعون الشعارات ضد أمريكا وإسرائيل وانتهت دون تدخل من الشرطة.. وأكدت السفارة الأمريكية في أنقرة أن العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا لن تتأثر بالقرار, ووصفت عملية التصويت بأنها ديمقراطية, وستحظي باحترام واشنطن.
***************
إن إصرار حكومة الحزب الوطني بوزرائها ونوابها علي تجديد العمل بقانون الطوارئ ليدعو للعجب والأسف إذا نظرنا إلي «كمّ» المد - بصرف النظر عن مضمون القانون, وذلك لأسباب متعددة من أهمها : ما يحمله هذا التمديد الزمني المستمر من الإعلان مقدما - صراحة أو ضمنا - من أن الحكومة أعجز من أن تقضي علي المخدرات والإرهاب وفي ذلك ما فيه من الإساءة - لا للحكومة فحسب - بل لسمعة مصر ذاتها مما يؤثر على دخلها السياحي. وكيف يخاطر السائح بالحضور إلي بلد مازالت حكومته عاجزة عن القضاء علي الإرهاب?
دلالات مؤسفة مخزية
وإصرار الحكومة علي فرض هذا القانون, ومد العمل به يعد حكمًا علي شعبنا بأنه شعب «قاصر» غير رشيد, وهو دون الشعوب الأخري - التي تحكم بالقوانين العادية - فهما وإدراكا وشعورا بالمسئولية , مع أن شعبنا - كما كان السادات يكرر في خطبه –
" شعب واع .. شعب حضارة عمرها سبعة الاف عام " . وهو الشعب الذي عاش فائقا في العلم والفن والهندسة . وهو الشعب الذي هزم الهكسوس والصليبيين والتتار والإنجليز , وهو الشعب الذي صنع الثورة علي الفرنسيين سنة 1801, 1803, والثورة العرابية سنة 1882م, وثورة 1919. وهو الشعب صاحب الأزهر منارة العلم والجهاد, وهو الشعب الذي انطلقت منه قوافل العلم والتعليم - ومازالت تنطلق كل عام - للتدريس في المدارس والجامعات بآسيا وأفريقيا وغيرهما. وهو الشعب الذي خرج منه أحمد عرابي, ومصطفي كامل, ومحمد عبده, وحسن البنا, وعبد الرازق السنهوري , وسيد قطب .
شعبنا يا سادة عاش - ومازال - مصنعًا للعلم والقيم والرجال, وبهؤلاء مازالت القاهرة هي قلعة العرب, ومرجع المسلمين.
فكيف يحكم هذا الشعب بقوانين لا تصلح إلا للشواذ, وناقصي - بل عديمي - الأهلية?!.
***********
وإصرار الحكومة علي تمديد العمل بهذا القانون يعد - كما ألمحت من قبل - اعترافا منها بالفشل الذريع في القضاء علي الإرهاب والمخدرات ؛ لأن حكومة تكتم أنفاس الناس, وتزرع في قلوبهم الرعب, وتهدر من عمر الأمة قرابة ربع قرن بدعوي القضاء علي الإرهاب والمخدرات, وتحقيق الأمن والسلام والرخاء للناس ولم تحقق هدفها هذا المعلن.. لهي حكومة حققت قصب السبق في الضعف والفشل والإخفاق. وهي بذلك تعطي الشعب المبرر العادل لإسقاطهابالثُّلث.
**************
وهذا المدُّ - من ناحية أخري - يصم نواب الحزب الوطني بالتزوير .. تزوير إرادة المواطنين الذين اختاروهم لتمثيلهم في مجلس الشعب, فالمفروض أن يكون هذا التمثيل صادقًا نبيلاً, أي يكون النائب لسان صدق, يعبر بأمانة عن الإرادة - الظاهرة و الباطنة - لمن انتخبوه , وأعتقد أن الغالبية الساحقة - أعني المسحوقة -- من الشعب ترفض هذا القانون الشاذ. ومن ثم كان انحياز نواب الحزب الوطني لقانون الطوارئ انسلاخا من الالتزام الوطني والخلقي الذي يعني أن اعتبار المصلحة الوطنية فوق أي اعتبار حزبي . ولو أن هولاء النواب الذين وافقوا علي التمديد قد راجعوا دوائرهم لوجدوا منهم رفضا مطلقًا لهذا القانون الآثم الذميم.
ومن عجب أن نقرأ في الأهرام للسيد وزير الداخلية قوله «إن العالم كله يحكم بقوانين طوارئ - فلماذا يوجه النقد إلينا بالذات?» . ولاشك أن هذا الحكم بهذا التعميم الخطير يتجاوز خط الحقيقة والواقع إلي أبعد حد. وحتي لو صح فإني أسأل: لماذا لا نتمثل بهؤلاء إلا في «الطوارئ» ? لماذا لا تتمثل بهم في النظام, والتقدم الاقتصادي, والتقني, وارتفاع المستوي المعيشي للمواطنين?
وفي مجال الحريات لا أسألكم أيها الحكام أن نكون مثل سويسرا, والسويد, والنرويج, ولكني أدعو الله أن نكون في مجال الحريات, ومصداقية الانتخابات وسياسة الحكم, ومراعاة كرامة المواطن مثل بلاد سبقناها - من آلاف السنين - في العلم والحضارة والمعرفة والنظام . نعم أدعوه أن تكون مصر المحروسة مثل السنغال , وكينيا, وجنوب أفريقيا ., ,وموريتانيا..... يارب.