من تشرين "وعد بلفور" إلى تشرين "أنا بوليس"

من تشرين "وعد بلفور" إلى تشرين "أنا بوليس"

د. محمد المناصير

[email protected]

بعد مأزق سياسي مستمر وعنف متبادل بين الفلسطينيين واسرائل منذ سبع سنوات اتجهت الانظار منذ ايام الى اللقاء الخريفي الذي عقد في "انا بوليس" عاصمة ولاية ميريلاند الاميركية، في الساحل الشرقي للولايات المتحدة الاميركية، والمشهورة بالسمك الحلو، والتي كانت ذات يوم عاصمة للولايات المتحدة الاميركية في عام 1783 عقب توقيع معاهدة باريس التي انهت حربا ثورية ضد بريطانيا .

انعقدت قمة شبه دولية في انابوليس سعيا لاحياء عملية السلام لمعالجة قضية دوخت الدنيا في تشعباتها وابعادها حتى ان جميع المؤتمرات واللقاءات والاتفاقات والمشاريع السابقة لم تتوصل الى حل في القضايا المطروحة على النقاش من كامب ديفد الاول عام 1979 والثاني عام 2000 واوسلوا وواي ريفر وخارطة الطريق الى انا بوليس.

فالرئيس الاميركي جورج دبليو بوش يهدف من اللقاء الدولي لتحريك ما يسمى بـ "عملية السلام" على المسار الفلسطيني .

رغم ان حصيلة خمسة عشر عاماً من المفاوضات مع إسرائيل بعد توقيع اتفاقات أوسلو كانت لم تسفر الا عن المزيد من الاستيطان وفرض الحصار والعزل والتجويع وارتكاب جرائم الحرب والتدمير والاغتيال والاعتقال وتشييد جدار الفصل والتوسع لنهب ومصادرة الأرض وتمزيقها وتهويد القدس، ومحاولة فصل القضية الفلسطينية عن بعدها العربي.

فقد سبق ان وصل رهان أوسلو إلى فشله المحتوم في مفاوضات كامب ديفيد عام 2000 لتشتعل انتفاضة الأقصى التي لم يستغلها النظام العربي، فيما تجاهل فريق أوسلو مغزاها السياسي عبر القبول بخارطة الطريق كخطة اميركية لتصفية الانتفاضة والمقاومة وتعميق الارتهان للإرادة الاميركية .

فمنذ أن تم عقد اتفاقيات أوسلو والساحة الفلسطينية انقسمت إلي قسمين وفق الرؤية النظرية للانقسام، الفريق الأول أصحاب أوسلو والواقعية السياسية المتوافقة مع الواقعية الدولية بعد انهيار القطب الاشتراكي، وتنامي القطب الرأسمالي وسيطرته على القرار الدولي ومنظمات الفعل الدولي المتمثلة بالأمم المتحدة ومؤسساتها، وعدم قدرة أي طرف من الخروج من تحت سطوة هذه القطبية الأحادية، والفريق الثاني هو الفريق المعارض لأوسلو الذي تمثلت جبهته في القوي الوطنية والإسلامية التي شكلت محوراً أسمته الفصائل العشرة واتخذت من دمشق مركزاً للاجتماعات التي اتخذت الصفة الحميميه فأقصي ما خرجت به أو نتج عنها بيان استنكار لم يقرأه ربع الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج .

واليوم بعد أن وصلت الرهانات الخاسرة إلى طريق مسدود ، فقد بات واضحا ان الادارة الاميركية الحالية التي اوشكت شمسها على الافول بعد نحو 14 شهرا؛ فهي تريد ان تثبت الوجود الاسرائيلي المهدد بعد عدوان تموز على لبنان ، وفشل اسرائيل في الحسم العسكري .

واليوم تتجدد الرهانات الخاسرة مرة أخرى ، وتواجه الحقوق والمصالح الفلسطينية والعربية وتطلعاتها مخاطر الاجتماع الدولي ، الذي دعا اليه الرئيس الاميركي بوش ، والذي سترأسه وزيرة الخارجية الاميركية كوندايزا رايس ، التي كانت قد بشرت العرب أثناء العدوان الصهيوني على لبنان في تموز العام الماضي ، بأن المنطقة تشهد مخاضا لميلاد شرق أوسط جديد .

إن توقيت انعقاد المؤتمر يرتبط بسعي الرئيس الاميركي للتغطية على المشاكل الكبرى والأزمة الشديدة التعقيد التي تعيشها الإدارة الاميركية في العراق ، والتي انتقلت إلى الداخل الاميركي وباتت أحد العناوين الرئيسية للانتخابات الرئاسية الاميركية المقبلة.

ولا شك في أن صورة الإدارة الاميركية والرئيس بوش في العالم أجمع أصبحت تعني الحرب والقتل والدمار ونشر الفوضى والفشل ، الأمر الذي أدى إلى انخفاض شعبية الرئيس الاميركي إلى أدنى مستوى حيث لم تتجاوز نسبة التأييد له الـ31 % وهذا سيؤثر بكل تأكيد على الحزب الجمهوري في الانتخابات الاميركية القادمة ، ولذلك تسعى الإدارة على ضوء الفشل إلى محاولة تحسين صورتها داخلياً وخارجياً في حملة علاقات عامة وعقد اجتماع تحضره 40 دولة كي تصور إدارة بوش للعالم أنها ليست إدارة تشعل الحروب والأزمات فقط ، بل هي تسعى لصنع السلام .

وربما تحاول الادارة الاميركية تفريغ "مبادرة السلام العربية" مِن مضمونها ، والالتفاف عليها عبر اختزالها في بند استعداد الأطراف العربية للتطبيع مع إسرائيل ، حيث وجهت الدعوةلـ(16) دولة عربية لحضور الاجتماع الدولي وقد حضروا .

وهو الهدف الذي كان الإسرائيليون وما زالوا يحلمون به، ويسعون باستماتة لتحقيقه، وفقاً لقاعدة "التطبيع اولاً"، وليس مقابل انسحابهم مِن كامل الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة منذ عدوان حزيران 1967، واقامة دولة فلسطينية مستقلة، و"ايجاد حلٍ عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين الفلسطينيين وفقاً للقرار الدولي 194"، كما ورد في "مبادرة السلام العربية".

ويستهدف مؤتمر بوش من جديد محاولة الحصول على تنازلات فلسطينية جديدة ، وخاصة قضية اللاجئين الفلسطينيين ، فقد أعلنت وزيرة الخارجية الاميركية رايس أن القيادة الفلسطينية لن تستطيع تقديم تنازلات جوهرية ما لم يتم إسنادها من الجانب العربي ، وخاصة بالنسبة لموضوع حق عودة اللاجئين الفلسطينيين. وهذا من أهم أهداف السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط ، فضلا عن أن الإدارة الأمريكية ترى في نجاحها بهذا المسعى انه من المكن ان تقوي فرص الحزب الجمهوري في الاحتفاظ بالمكتب البيضاوي في البيت الأبيض لسنوات أخرى جديدة ، وتثبت ان نهج الإدارة الجمهورية بالتعاطي مع الأزمات الدولية وفي مقدمتها قضية محاربة الإرهاب هو الأنجح والأجدى ، وبذا تحبط مساعي الديمقراطيين من استثمارالفشل في العراق كنقطة انطلاق للهجوم عليهم وتغير المعادلة السياسي بالانتخابات الرئاسية القادمة.

اما الفلسطينيون فانهم يريدون التوصل إلى إعلان يعالج قضايا الحل النهائي وهي‏:‏ الحدود‏ ،‏ والقدس ‏،‏ واللاجئين ‏،‏ والمستوطنات‏ ،‏ والمياه ‏،‏ والأمن‏،‏ ويسعون بكل قوة للحصول على مكاسب حقيقية من هذا المؤتمر مع ضمانات بالتنفيذ ورقابة دولية وجدول زمني تحدد فيه مراحل التنفيذ عند كل مرحلة من المراحل ومسقوفة بسقف زمني أيضا. بينما يرغب الإسرائيليون في إعلان مبادئ فضفاض عبارة عن وثيقة عامة ، متعددة الوجوه ، يستطيع كل طرف قراءتها كما يشاء ‏،‏ ويسعون إلى عدم مناقشة القضايا الشائكة داخل المؤتمر‏،‏ وتفريغه من مضمونه الحقيقي‏ ،‏ وبالتالي عدم الاتفاق على أجندة واضحة للوثيقة المشتركة التي ستصدر عن الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في نهاية المؤتمر‏، علاوة عن التهرب من تحديد جدول وسقف زمني تهربا من أية التزامات يفرضها الاتفاق.‏

وإزاء هذه المواقف المتناقضة لكل طرف من أطراف العملية السياسية‏،‏ فإن المؤتمر مهدد بالفشل‏ من قبل توجيه الدعوة اليه ،‏ ويستلزم إعدادا جيدا ‏،‏ وتوفير الضمانات اللازمة لنجاحه نظرا للتداعيات السلبية التي يمكن أن تنجم عن عدم عقده ‏،‏ أو ربما تأجيله كما يتردد الآن .‏ ان لقاء الخريف" اكان لقاء دوليا واقليميا من حيث عدد الدول المدعوة لحضوره ، التي وصلت الى 40 دولة ، ولكنه ليس دولياً لا في صلاحياته ولا في مرجعيته ، فدور هذا الحشد الدولي هو المصادقة على ما يمكن أن يتوصل اليه الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي مِن "بيان" أو "اعلان" أو "وثيقة" عبر مفاوضات ثنائية تسبق عقد هذا اللقاء ، كذلك فإن رئاسة اللقاء لن تكون مِن نصيب هيئة الأمم التي ستكون مجرد طرفٍ مِن بين اطراف ، بل ستتولى الإدارة الأمريكية ممثلة بوزيرة خارجيتها رايس رئاسة هذا اللقاء.

فقد قالت رايس: " ان الرئيس (بوش) ملتزم بدفع العملية قدما قدر المستطاع ".. واضافت :" ونحن نرى ان الوقت الحالي هو الوقت لتأسيس دولة فلسطينية. ونحن نعتقد ان الطرفين يريدان حقا ان يحقّقا تقدما في ذلك.. " .

كما ادلت وزيرة الخارجية الاسرائيلية ليفني بدورها بوضعها شرط اعتراف السلطة بيهودية الكيان الصهيوني ، مما يعني الامعان في انكار الصهاينة لمبدأ حق العودة الذي اقرته الامم المتحدة عبر القرار 194 العام 1948 من جهة والاقدام على طرد اكثر من مليون وثلاثماية ألف فلسطيني من الأرض المحتل اما فيما يتعلق بالقدس فقد تم وضع شروط من الصهاينة تطال الفلسطينيين وحكومتهم حيث اتخذ الكنيست الصهيوني قرارا رفع بموجبه موافقة الكنيست بأغلبية الثلثين (80) عضوا على أي اجراء يمكن ان يتم بموجبه أي تنازل في القدس كما شن اليمين الصهيوني حملة ضد تنازل حكومة اولمرت عن الاحياء العربية في القدس هذا إضافة الى تكثيف الحفريات تحت المسجد الأقصى وحوله في الوقت الذي يتم فيه التحضير للملتقى.

اما الفلسطينيون الرسميون فمتفائلون بما سيسفر عنه لقاء "انا بوليس" فعباس يرى ان المؤتمر يشكل " فرصة تاريخية لفتح صفحة جديدة في تاريخ الشرق الاوسط ، اساسها قيام دولتنا الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف ، واستعادة الاراضي الفلسطينية والعربية المحتلة في 1967 ، وتحقيق الامن والسلام لنا وللاسرائيليين ولدول وشعوب المنطقة.

فهل هناك عامل مشترك بين التفاؤل الفلسطيني والتشاؤم الاسرائيلي ؟؟ وهل يحق لنا ان نتفاءل مع الجانب الفلسطيني ؟ فلم يبق سوى ايام ويلتئم لقاء " خريف انا بوليس " فربما تتساقط اوراق الظلم والعدوانفاسحة المجاتل لنمو اوراق السلام ، وتتجدد اوراق العدل والانصاف والسلام وتقوم الدولة الفلسطينية " الرشيدة " كما وصفتها رايس على ارض كنعان ، مقابل اول دولة تقوم على اسس دينية في العالم ، فهذا هو شرط ساسة اسرائيل ان تكون اسرائيل " دولة للشعب اليهودي" . كما تعمل الادارة الامريكية على مواجهة القوى الدولية التي تعارض سياساتها في المنطقة والعالم (دول شنغهاي والبحر الاسود) ومجريات الاحداث وتطوراتها في باكستان ما يعني ان المواجهة مع سياسات الادارة الامريكية تمتد من بحر قزوين الى إفريقيا.

ولنا ان نتساءل امام الأوضاع الإقليمية والدولية التي ينعقد في ظلها الملتقى وأمام الأهداف الامريكية الصهيونية والشروط المشتركة التي يضعها كل منهما هل نستطيع إطلاق اسم ملتقى سلام على انابوليس ام انه ملتقى الامعان في خلق المشاكل والاقتتال والانقسامات بين الاخرين؟ وهل من كانت عقيدته قائمة على الحرب والقتل والبطش والارهاب يمكن ان يعمل من اجل السلام؟ وهل من قاد الحروب في العراق وافغانستان ويهدد بالحرب النووية ضد ايران وينتهج سياسة خلق الفتن والانقسامات في العراق وفلسطين ولبنان والصومال والسودان ويمارس الحصار على سورية يمكن ان يعمل من اجل السلام؟

لنراقب ونرى ما سيحدث في قاعات الاكاديمية البحرية الشهيرة في انا بوليس ، فهل ستسفر اجتماعات انابوليس عن نتائج ايجابية ملموسة ام ستترك الامور لسياسة القوة التي نجحت اكثر من الدبلوماسية في قلب الموازين في الشرق الاوسط ؟.

وما بين تشرين وعد بلفور باقامة وطن لليهود في فلسطين على اساس عرقي وتشرين انابوليس بوعود عربية للاعتراف بدولة يهودية على اساس ديني في فلسطين ما بينهما الف سؤال وسؤال.