من كواليس ملتقى اسطنبول
من كواليس ملتقى اسطنبول
د.إبراهيم حمّامي
قبل أيام انفض ملتقى القدس العالمي والذي عقد في مدينة اسطنبول التركية بمشاركة أكثر من 5000 شخصية حضرت من 65 دولة، لتقول كلمتها وترفع صوتها أن القدس لنا، وأنها ليست سلعة بيد من يريد أن يفرط بها، وفي أجواء نادرة من التفاعل البناء والحرص كل الحرص على انجاح ملتقى القدس ليليق بما اجتمع لأجله هؤلاء.
الحضور كانوا من كل الأطياف، من مسلمين ومسيحيين، من اليمين واليسار، علمانيون وقوميون، كبارا وصغار، عرب وعجم، ومن كل الألوان والمشارب، اتفقوا جميعاً والتقوا على مدى ثلاثة أيام وخرجوا ببيانهم الواضح بأنه لا تنازل عن القدس.
هذا ما كان في القاعة الرئيسية وفي ورش العمل المختلفة، وهذا ما ابرزته وسائل الاعلام وتحدثت عنه، وهذا ما أُشبع كتابة وتغطية، لكن في كواليس الملتقى وفي ممراته وأروقته، كانت هناك فعاليات من نوع آخر، منها الايجابي الجميل، ومنها المخزي كأصحابه الذين أبوا إلا أن يمارسوا دورهم المعتاد في الافساد، ومن كواليس الملتقى البعيدة عن التغطية، ومن أروقته الخلفية اسمحوا لي أن أنقل لكم بعض الصور والأحداث التي عايشتها شخصياً، ربما لتكتمل صورة هذا الملتقى الرائع ومن جوانبه وزواياه المختلفة.
مَخزّي في كلتا الحالتين!
محمود عبّاس الذي يصر على محاربة أي مؤتمر أو تجمع جماهيري، كما فعل بمؤتمرات روتردام وبرشلونة في أوروبا، وبيروت ودمشق، حالو وقبل يوم واحد من بدء أعمال الملتقى ومعه شمعون بيريز الضغط وبكل الوسائل لإلغاء الملتقى فاجتمع مع رئيس الوزراء التركي وهاتف الرئيس الأمريكي، واجتمع مع اللجنة التحضيرية للمؤتمر برئاسة معن بشور، والذي حاول أن يقنعه أن المؤتمر هو عن القدس وللقدس وأنه مدعو لحضوره!
في ليلة الافتتاح سرت شائعة عبر بعض المواقع المحسوبة على حكام المنطقة السوداء في محمية رام الله أن عبّاس سيحضر الملتقى، فسرت بين من يتهيأون لحضور الافتتاح مشاعر الغضب، وبدأت استعدادات لمواجهة زعيم البائعين والمسمسرين في القدس، لكنه طبعاً لم يحضر.
حقيقة أن ما فكرت به أن وجود رئيس سلطة اوسلو في ذات المدينة التي يعقد فيها أضخم ملتقى عن القدس وعدم حضوره لهذا الملتقى هو أمر مخزٍ بكل المقاييس، فما بالكم وهو يحاول مع شريكه بيريز افشال والغاء الملتقى؟ لكن وللأمانة فإن حضوره كان أمراً أكثر خزياً بعد أن استعد الجميع ومن كافة الأطياف لمواجهته بالانسحاب من القاعة على أقل تقدير، فكان عبّاس وبسبب مواقفه وأفعاله الأكثر خزياً من هذه وتلك كمن وقع في نار المخازي سواء حضر أو لم يحضر!
زعران بين الأعيان
رغم عدم حضوره الشخصي غير المرحب بها اصلاً، أرسل عبّاس أفضل من يمثله من زعران وبلطجية يرأسهم معمم وللأسف الشديد، فقاموا بواجبهم على أفضل وجه، فكانوا خير من يٌطبق مثل"هيك مزبطة بدها هيك ختم" فمن يمكنه أن يمثل سلطة الزعران غير الزعران، وحتى لا اتهم أنني أبالغ أو أتهجم سأذكر لكم بعضاً من الأحداث التي يشهد عليها القاصي والداني وكل من حضر الملتقى:
في جلسة الافتتاح هاج وماج الزعران يتزعمهم زياد أبوعين صاحب دعاوى القتل والسحق والاستئصال في شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام 2006، هاجوا وتقافزوا وتصايحوا وصرخوا: أين كلمة الامام الأعظم والحبر الكبير مفتي الديار العباسية العالم العلامة محمد حسين والذي عينه كبيرهم عبّاس مفتياً للقدس بعد رفض سابقه الشيخ عكرمة صبري اصدار فتاوى تؤيد خطوات الكبير صيف عام 2006.
لم يلتزموا ببرنامج الكلمات والتي أعطيت فيه كلمة القدس لأهل القدس العاملين الصابرين من مسلمين ومسيحيين ممثلين بالشيخ رائد صلاح والمطران عطا الله حنا، فاتهموا منظمي الملتقى بالتآمر على الوفد الرسمي والإنحياز لجهة فلسطينية دون أخرى، وحقيقة لم أكن أعرف أن الشيخ والمطران أصبحوا جهة سياسية واحدة اللهم إلا ان كان القصد أنهم مع القدس وللقدس وهذا ما يفخرون به ولا يعيبهم.
أخلاق الأعيان فازت على ممارسات الزعران، وبكل تواضع قام الشيخ رائد صلاح من مكانه وأجلس محمد حسين مكانه، وألقى الأخير كلمته، فأثبت من خلالها أنه يليق بهكذا سلطة يمثلها، فجاءت كلمته مليئة بالكراهية والتحريض من نوعية أنه عنوان القدس، وأن المؤتمرات يجب أن تكون من تحت امرتهن وأن التبرعات يجب أن توجه فقط لهم، وبكل صدق أقول أن الجميع بدون استثناء نظر له ولأبو عين ومن معهم من زعران السكك نظرة ازدراء، وهم لا يستحقون غيرها.
حليمة وعادتها القديمة
لم تكن هذه نهاية القصة مع الوفد الرسمي الذي أرسله عبّاس بعد ان فشل في افشال الملتقى، فقد استمر زياد أو عين بالتحريض المقيت والتحرك في كل مكان بغرض التشويه وترويج أكاذيب السلطة ضد كل من يختلف معه، واستمر المعمم محمد حسين بنفس الوتيرة فكانت له كلمة في حفل الاختتام انتزعها تماماً كما فعل في جلسة الافتتاح، خصص معظمها للتمجيد بالسلطة وعرفات، وعندما سأله أحدهم أين الوحدة الوطنية والحوار والمصالحة في كلمتك، كانت اجابته أنا لست هنا للحديث عن هذه الأمور، معه حق هذا المعمم فهو في الملتقى لأسباب واضحة ومحددة ليس أقلها توجيه الزعران واثارة الفوضى والتعدي على الآخرين، وتمجيد من لا يستحق التمجيد.
اكتملت الصورة بموقف محافظ القدس جميل عثمان ناصر الذي وقف في اليوم الأخير ليتهم رئيس اللجنة المنظمة معن بشور باختلاس 34 مليون دولار! ومعن بشور بالمناسبة ليس اسلامياً أو من اللون الواحد الذي أشار اليه المعمم، بل قومياً عربياً، فأي مواقف تلك التي رسمها أعضاء الوفد العباسي الرسمي بقيادة معممهم؟ وأي صورة طبعت في أذهان المشاركين عن هكذا اشخاص كنا نعرفهم ولا يعرفهم غيرنا، فبات الجميع اليوم يعرفهم؟
رسائل من الخارج والداخل
ليست كل الأمور هكذا سلبية، لكني أحببت أن أنقل بشاعة ما يفعله هؤلاء، والذين ينبري البعض للدفاع عنهم ومهاجمة الآخرين يقودهم تعصبهم وعمى البصر والبصيرة، وحقدهم الشخصي، في جوقة وزفة كاذبة مخادعة، ففي كواليس الملتقى كانت هناك مواقف جميلة كثيرة وكثيرة جداً، لا ينقص منها انحراف وزعرنة وفد عبّاس، ولا يمكن بحال حصرها، لكن لا بأس بذكر بعضها، ليعرف القاريء أهمية هكذا لقاءات تجمع الأحباب وتكشف اللئام، وأسرد عليكم مواقف شخصية مباشرة:
· من سجون الاحتلال كانت رسالة النواب الأسرى والذين غيبهم مع السجن النسيان، فاستوقفني محام لهم ليقول، لا تنسوا نوابنا الأسرى، خاصة أن ما ينتظرهم هو سبع سنوات سجن على أقل تقدير، لم أعرف بما أجيب! قلت: "الله المستعان"، ونعم بالله لكن هل هذا يكفي، انهم أمانة في أعناقنا جميعاً، وعلينا أن نبقي قضيتهم حاضرة في كل مكان وزمان.
· رسالة أخرى طلبت التركيز على فساد "سفارات" أوسلو، وتطوع أحدهم بارسال وثائق تدين ممارسات بعض عمّال عبّاس في احدى العواصم، قال وذكر وأسهب بمرارة وألم، وعدته بنشر ما يصلني طالما أنه موثق وعليه الدليل والحجة، ومن هنا أطالب الجميع بفعل ذات الشيء، علنا نطهر تلك الآوكار من العصابات التي تحتلها.
· رسالة ثالثة من عمق المعاناة، من مخيمات اللجوء الجديدة على الحدود العراقية استوقفني سؤال: لماذا لا يهتم بهم أحد؟ وأين الجميع من معاناتهم؟ وزاد آخر كنت في لبنان لماذا لم تزر مخيم نهر البارد، فتذكر الأول سبق وأن زرت مخيم التنف العام الماضي فأين أنت اليوم؟ كانت أسئلة كالسكاكين، معهم حق في كل كلمة وسؤال، أين نحن؟، لكن السؤال الأصح والذي لا يعفينا من المسؤولية: أين من يدعون تمثيل الشعب والحرص على مصالحه، أين أدعياء الشرعية والتمثيل الشرعي والوحيد؟ كان الله في عون شعبنا اينما وجد، وبعونه تعالى وكما وعدت وبشكل شخصي سأكون في نهر البارد والتنف والوليد في أقرب فرصة ان شاء الله
· موقف آخر تذكرت فيه الخليفة العادل عمر الفاروق، حين استوقفتني أخت فاضلة من جزيرة العرب، لتقول أنها تتابع ما أكتب لكنها عاتبة عليّ عندما طالبت في احدى المرات بوقف استيراد ملابس الرجال والاكتفاء بملابس النساء لزمرة أوسلو لأنهم فقدوا رجولتهم، لتقول إلى متى تبقى النظرة للمرأة نظرة "دونية" بمعنى أنه اذا سقط أحد الرجال أصبح بسقوطه امرأة؟ أوضحت لها أن هذا لم يكن أبداً القصد، ثم بعدها تذكرت أني كتبت يوماً عن حرائرنا في بيت حانون تحت عنوان: "عز النساء وعار الجبناء"، لكن وبصدق أقول أن هذه الأخت الفاضلة نبهتني وبشكل واضح أن أكون أكثر حذراً ووضوحاً فيما أكتب، وأقول لها كما قال الفاروق العادل، مع فارق الموقف والشخوص والمكانة: أخطأ أبو عمر وصدقتي يا أخية.
كان هذا جانباً من تجربتي الشخصية في ملتقى القدس العظيم، ومن خارج القاعات الرئيسية، والمواقف والأحداث كثيرة وكبيرة لا يسعني حصرها، لكن تبقى الرسالة الأهم التي خرجت بها وأنا أرى هذه الحشود من كل بقاع الأرض تأتي من كل فج عميق لتؤكد أن القدس لنا، تبقى الرسالة: مهما تآمر المتآمرون، ومهما تكالبت علينا الأمم، فقضيتنا بإذن الله لن تموت، وحقنا لن يضيع، ووعد الله نافذ لا محالة.