ومن يحمي شعبنا من جرائم النفاق

ومن يحمي شعبنا من جرائم النفاق ؟!!

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

لم يظهر النفاق أيام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا في المدينة؛ لأنه لم يكن هناك داعية تدفع الكفار في مكة إلى المنافقة.

وقد ظهر النفاق في المدينة بعد أن هاجر إليها، فحرم بذلك عبد الله بن أبي بن سلول من أن يكون ملكًا عليهم، وهو لن يستطيع أن يحارب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ أو يعاديه عداءً صريحًا؛ لأن كل الناس أو أغلب الناس في المدينة، انضووا تحت لوائه.

ولن يستطيع أن يبقى كافرًا؛ لأن ذلك يعزله اجتماعيًّا عن أقرب الناس إليه كابنه المسلم عبد الله.

ولكنه يستطيع أن يغدر ويخون ويضرب ضربات خاطفة في الوقت المناسب حتى يطئ نار الحقد، والغيرة التي تضطرم في أعماقه.

 وحتى يتمكن من ذلك لا بد أن يكون "مسلمًا" ... مسلمًا بالاسم، منافقًا في الحقيقة، وهذا الخمار الإسلامي مكنه هو ومن معه من المنافقين أن يضرب عدة ضربات في أوقات حرجة خيبها الله كلها. وقد رسم القرآن الكريم ملامح صورة المنافقين في دقة ووضوح، كما نرى في الآيات التالية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)) (البقرة: 8ـ 16).

ولجأ المنافقون بالغدر والحيل ينفذون مخططهم متبعين أحط الوسائل وأخس الأعمال، وأبعدها عن الحد الأدنى من الإنسانية، ومن ذلك (في إيجاز شديدً جدًّا):

1 ـ محاولة إشعال الفتنة بين المهاجرين والأنصار، بإثارة النعرة القبلية الجاهلية.

2 ـ الإساءة والتشهير بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأهل بيته، فهم أصحاب حديث الإفك، والبهتان الذي جاءوا به على أم المؤمنين عائشة.

3ـ الغدر والخيانة لإضعاف الجبهة العسكرية المسلمة انتصارًا للكفار على ما هو معروفٌ في السيرة النبوية.

4ـ موالاة أعداء الإسلام من اليهود والكفار.

5ـ اتخاذ مسجد للتآمر والفساد والإيذاء، وهو مسجد الضرار الذي أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحرقه.

6ـ محاولة اغتيال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حادث مشهور هو حادث العقبة بدفع ناقته وهو يمتطيها من فوق مرتفع في الظلام الدامس، على ما هو معروف في كتب السيرة.

***

 وخطورة النفاق ترجع إلى أن المنافقين يظهرون الود والإسلام، ويبطنون الكفر، ومن ثم لا يستطيع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يقاتلهم أو يقتلهم؛ لأن القاعدة في الإسلام هي: "لنا الظاهر وعلى الله السرائر".

 كما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أربعٌ من كن فيه كان منافقًا، وإن كانت خصلة منهن فيه كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر". (أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان. وقال حديثٌ حسنٌ صحيح، وإنما معنى هذا عند أهل العلم: نفاق العمل، وإنما كان نفاق التكذيب على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. هكذا روي عن الحسن البصري شيءٌ من هذا أنه قال: النفاق نفاقان: نفاق العمل، ونفاق التكذيب). ومعنى هذا أن القدر المشترك بين نوعي النفاق هو إظهار خلاف ما يبطنه المنافق، وهذا يعني أن النفاق تتطور مفاهيمه بتقدم الزمن وتغير البيئات.

وأشهر صور النفاق في وقتنا الحاضر هي مجاملة الحكام، وتوثنيهم، وكأنهم من طينة غير طينة البشر، مع التهوين من شأن أعداء الحكام، وأنهم أمام عبقرياتهم وقوتهم لا شيء، والنتيجة معروفة إنما هي الهزيمة المنكرة ـ لا للطاغية فحسب ولكن للأمة التي نافقته ـ ولم تضرب على يده ولم تعرفه حقيقته، وقد صدق خليل مطران إذ قال:

من يلمٍ نيرونَ؟ إني لائم

             أمةُ  لو  قهرته  ارتد  قهرًا

كل  قوم  خالقو  نيروهم

             قيصر قيل له أو قيل كسرى

 وينقل لنا التاريخ أن نيرون كان ذكيًّا عادلاً، حسن السلوك مستقيم المسيرة، ولكن النفعيين الحريصين على الدنيا أخذوا يجاملونه، ويآلهونه إلى أن طغى وتجبر، بلا توقف وهو معروفٌ بأنه حرق روما، إظهارًا لقوته، وتغذية لغريزته المتآلهة.

***

 ومن أشهر وقائع النفاق أنه عندما دخل نابليون بحملته مصر سنة 1798م، خرج مراد باشا ـ الحاكم العسكري لمصر ـ وعسكر بجنوده المماليك في إمبابة لقتال نابليون وحملته.. كان يعتقد أنها "نزهة عسكرية"، وأن الفرنسيين لن يصمدوا أمامه إلا ساعة، أو بعض ساعة، وهنا جاء دور المنافقين الذين تقربوا إليه، وضخموا في نفسه هذه الفكرة الغالطة، حتى قال له بعضهم: "أيها الأمير.. إن هؤلاء الكفار لا يستحقون شرف الموت بسيفك، هلا أرسلت بعض عبيدك ليأتوك برأس "بونابرطة" دون أن تلوث سيفك بدمه".. والباقي معروف: بدأت المعركة.. وهزم المماليك هزيمة مخزية بشعة نكراء، وفر مراد إلى الشام، تاركًا وراءه مصر تحترق بنيران الفرنسيين، ونابليون "بونابرطة".

***

 ولما قامت الميمونة سنة 1952م وتولى عبد الناصر حكم مصر، أخذ النفعيون يكيلون له من كلمات النفاق، ما جعله يطغى ويتجبر، ولا يقبل معارضة حتى أنه ألقى بعشرات الآلاف من معارضيه في السجون، وشنق بعضهم , كل ذلك مع التهوين من شأن أعدائه حتى إنه حينما قال لمراسل أو مراسلة إنجليزية قبل حرب يونيو 1967م: "أنا مش خرع زي إيدن" , تناول المغنون والمنشدون هذه الجملة وصنعوا منها أغاني، ومن هؤلاء: محمد طه، الذي بدأ أغنيته بقوله:

أنا مش خرع زي إيدن قالها ريسنا.

أنا مش خرع زي إيدن قالها ريسنا ...إلخ.

 **********

 وعاش السادات لا يقبل نقدًا، بل يتخذ موقفًا شديدًا ضد من ينقده ولو كان على حق، ولا ننسى أنه في عهده كتب مصطفى أمين في فكرة (15/8/1978م) أنه كان يتمنى ألا يهرول النواب أعضاء مجلس الشعب للانضمام إلى الحزب الوطني، الذي أعلن السادات ميلاده فجأة حتى يقرءوا برنامج الحزب الجديد. بعدها مُنع مصطفى أمين من الكتابة وهاجمه السادات، ووزير الإعلام عبد المنعم الصاوي بشدة. وهنا يظهر المخرج حسام الدين مصطفى ليكتب في الأخبار بتاريخ 17 / 8 / 1978م مهاجمًا مصطفى أمين زاعمًا أنه لا حاجة لبرنامج مكتوب "لأن السادات نفسه بعظمته وبطولته هو برنامج الحزب الجديد".

***

 وفي عهد مبارك زاد النفاق وفاض بصورة لم يحفظ التاريخ مثلها. ومن أمثلة النفاق ما كتبه ذات يوم المستشار محمد مجدي مرجان في أهرام الأربعاء 3/3/2005م تحت عنوان "مبارك يا مصر" ... ومما جاء في مقاله "منذ إعلان الخطوة التاريخية (تعديل المادة 76)، والمزايدون في ذهول، فقد أفقدهم الرئيس مبارك الوعي، فسحب البساط من تحتهم، وأفلست تجارتهم، وانصرف الناس عنهم، بعد أن ألقمهم مبارك حجرا، وقفز إلى أبعد مما كان يتصوره أو يحلم به أحد... إن ما فعله مبارك ابن مصر البار لأمه الحبيبة ولأبنائها خلال العقدين الماضيين لم يحدث منذ مئات السنين، وعشرات الأجيال، ولو تدفقت الدماء في الشوارع أنهارًا...".

كل ذلك يا سيد مرجان من أجل تعديل مادة في الدستور، وهو تعديل غارق في القيود والشروط المستحيلة.

 ودخل علماء دين هذا المضمار البغيض فوجدنا أحدهم يمدح مبارك بنص ديني وهو "مبارك الآتي باسم الرب". ولجأ هذا الرجل ـ الوقور جدًّا ـ إلى تزوير النص الديني وهو "مباركٌ شعبي مصر" ومبارك في العبارة السابقة خبر ـ خبر مقدم ـ وشعبي مبتدأ مؤخر، ومعناه: أن شعبي مصر شعبٌ مبارك، أي باركه الله.

زيف الرجل النص وعرضه بالصورة الآتية: "مباركُ شعبِ مصر" وبذلك تكون مبارك مضاف وشعب مضاف إليه، ثم علق وقال: إن هذه مشيئة الله، إذ جعل أو خص الشعب المصري بمبارك من أيام أن كان جنينًا.

 وإذا نظرنا إلى أعضاء (مدرسة المستنقع) رؤساء تحرير ما يسمى الصحف القومية، لوجدناهم أشد الناس نفاقًا، وأحرصهم على المنصب، والمرتب الفلكي , والمقام يطول لو رحنا نقدم نصًا لكل واحد من هؤلاء. ولكنا نكتفي بكلماتٍ كتبها ممتاز القط في عدد من أعداد أخبار اليوم الأخيرة تحت عنوان "صفر على عشرة": "ما الذي فعلته الدولة في مواجهة جماعات الردة والضلال، التي تتمسح في الدين، وتستغل بساطة وطيبة وأخلاق أبناء شعبنا الطيب، الذي يستهويه الشعور الديني. وذلك لدعم تواجدها وفرض إرادتها؟!.

للأسف الشديد، المواجهة بالشرعية والقانون، كانت تسير على طريقة الرقص على السلالم، وترك الساحة خالية أمام ثعابين الظلام، التي تنفث سمومها وأحقادها على مرأى ومسمع من القانون والقائمين عليه.

هناك حساسية مفرطة للغاية، ولا يوجد أي مبرر لها في تعاملات الدولة مع قلة قليلة من القضاة، لا يزيدون على أصابع اليد الواحدة، قضاة طلبوا منحهم جنسية موريتانيا، في واحدة من أفظع مقالات الذل والاستكانة والهوان. قضاة أصبحوا نجومًا في القنوات الفضائية، التي تخصصت في الهجوم علىمصر، ومحاولة النيل من إنجازاتها، وذلك استجابة لقوى دولية تحتل دولهم، وتسير أمورهم، وتتحكم في كل صغيرة، وكبيرة داخل قصورهم التي ينتشر في جنباتها الفساد والرذيلة.

قضاة يستخدمون ألفاظًا سوقية ممجوجة، لو قالها أحد المواطنين لحكموا عليه بالسجن، ولكن هم معصومون من الخطأ!! هم فوق القانون!! عفا الله عما سلف، والصلح خير، حتى لو كانت "الشتيمة" قد تمت في سوق، وأمام مسمع ومرأى الملايين، وأما الصلح فتم في "شاليه".

ما الذي فعلته الدولة تجاه صحافة المرتزقة الجدد، الذين تجاوزوا كل الحدود، فعاثوا فسادًا وإفسادًا، لا يردعهم قانون، أو خلق، ماذا فعلت الدولة تجاه صحف تحمل كل العناوين الرئيسية المغرضة، التي تضر بالأمن القومي، ومصالح الوطن والمواطنين...".

وواضحٌ ما في هذا الكلام من كذب وافتراء وحرص على تدليك عواطف الحكام. وإني أسأل يا قط: هل القضاة الذين وقفوا في صف الحرية لا يزيدون على أصابع اليد الواحدة؟ اتقِ الله يا قط، ولا "تحك انتفاخًا صولة الأسد".

 *****

وكلنا يعرف أن أربعة من رؤساء تحريرصحف مستقلة ومعارضة حوكموا؛ لأنهم "جسموا الشائعات، وأساءوا إلى رموز الحزب الوطني" مما أحدث بلبلة بين المواطنين ؟؟!!.

وإذا صح هذا فمن حقنا أن نقول " إن النفاق أشد وأضرى مما فعل هؤلاء " :

1ـ فالنفاق كذب على الله، وكذبٌ على النفس، وكذبٌ على الأمة، وتزييفٌ للواقع، أي أنه عملية خسيسة غير أخلاقية.

2ـ والنفاق إفسادٌ لشخصية الحاكم، تدفعه إلى أن يسير في طريق النرجسية والتوثين.

3ـ والنفاق غشٌ تدفع الأمة ثمنه، لما فيه من مغالطات وأكاذيب، ثم تفاجئ الأمة بنقيض ما يدعي المنافقون.

4ـ والنفاق ردة إلى الجاهلية الأولى، فالإنسان السوي يحرص على أن يكون صريحًا، مجابهًا بالحق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيد الشهداء حمزة، ورجلٌ قام إلى إمام جائر ونهاه، فقتله".

وهناك من الحكام الطغاة من رفض أن ينافقه أحدٌ من الرعية، ولعلنا نذكر زياد بن أبيه، الذي خطب خطبته البتراء " في غرة جمادى سنة 45 هجرية " في أهل البصرة وقد ولاه معاوية عليها، وكانت شديدة كلها تهديد لأهل العراق. وقف أحدهم وأراد أن ينافقه فقال: "أيها الأمير لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب" فصاح في وجهه بقوة "كذبت، ذاك نبي الله داود صلوات الله عليه". وبذلك قضى هذا الوالي على النفاق من بدايته، على الرغم من ظلمه وشدته.

ولخطورة النفاق على الأمة أراني أدعو إلى "تجريم النفاق" بقانون، على أن تشكل لجنة محايدة ..... مجموعة ممن شهد لهم بالعلم والفقه والنزاهة والشرف والضمير والموسوعية، لإنزال العقاب اللائق بالمنافق مهما كان مركزه، وموقعه في المجتمع.

إنه مجرد أمل، أو مجرد حلم، فهل يتحقق في عصر الكروب، والخطوب، والفقر، والمرض، والنهب، والهبش، والرشوة، والمحسوبية، والتسلط، والتزوير، والتدمير، والظلم، والظلام ؟؟