متى.. وكيف.. وأين

متى.. وكيف.. وأين؟

صلاح حميدة

[email protected]

غضب شديد ساد  حركة "حماس"  والمتعاطفين معها في  العالم، بعد اغتيال القيادي في الحركة محمود المبحوح، فصفة ودور المبحوح، يوضحان بما لا يدع مجالاً للشك سبب هذا الغضب، وكذلك يبينّان سبب الاحتفال والارتياح الذي يسود الدولة العبرية في نفس الوقت.

إعتبر البعض  أنّ مرحلة جديدة في الصراع قد بدأت بين المقاومة الفلسطينية والدولة العبرية، و  أنّ مرحلة حرب الاغتيالات كالتي سادت في السبعينات والثمانينات ستعود بقوة بين المقاومتين اللبنانية والفلسطينية وداعميهما من جهة، وبين الدولة العبرية وداعميها الدوليين والاقليميين من جهة أخرى.

حافظت حركة "حماس" على استراتيجية عمل مقاوم - منذ تأسيسها - تمتنع عن  الإحتفاظ بتشكيلات عسكرية في الخارج، وترفض القيام بعمليات عسكرية  ضد أهداف إسرائيلية وغير إسرائيلية خارج فلسطين المحتلة، واقتصر نشاطها الخارجي على العمل السياسي والدّبلوماسي و الاعلامي، والتمويل والدعم اللوجستي للمقاومة الفلسطينية في الداخل، وبالرغم من المحاولات الحثيثة لجر الحركة إلى هذا المربع، عبر اغتيالات أو محاولات اغتيال، أو فبركات أمنية - إعلامية عربية، بقيت الحركة على موقفها واستراتيجيتها السابقة.

يرفض الكثير من المحللين فكرة تغيير حركة "حماس" لتوجّهاتها العملياتية، وحرفها للعمل الخارجي على الطريقة التي كانت سائدة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، ويرى هؤلاء أنّ حركة "حماس" ليست في وضع يمكّنها من القيام بمثل هذا النّشاط في الخارج، فيما يرى بعضهم أنّه (من المرفوض القيام بهذا النشاط أملاً بأن  يتم الاعتراف بحركة "حماس" كحركة سياسية فلسطينية، تحظى برضى ما يطلق عليه المجتمع الدولي، وحتى لا تلصق بنفسها صفة الارهاب، و حتى لا يتم عمل عمليات من غيرها وتفبرك لحركة "حماس" وتجر عليها ما لا تحتمل)  وهذا رأي الكاتب غسان شربل في الحياة اللندنية.

يرى آخرون أن "حماس" إن فعلت أو لم تفعل، لن تحظى بالاعتراف الدولي والعربي، وأنّ كل ما مضى من سياسات ضد الحركة منذ تأسيسها، وانتهاءً بالحصار  بكل أشكاله الذي تتعرض له الآن، وحرب الإفناء التي تشنّ عليها، وخيار اللاخيار الذي توضع أمامه، يثبت بما لا يدع مجالاً للشك، بأنّ رأسها هو المطلوب، وبالتالي لن تخسر شيئاً فيما لو وطأت قدمها هذه الساحة، عبر حرب مدروسة، تتم بالتعاون والتنسيق مع حلفائها في إيران وسوريا وحزب الله والحركات الفلسطينية الأخرى، إضافةً إلى أنّ الحركة أعلنت عبر رئيس مكتبها السياسي بأنّها ( تبحث عن الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، لا الاعتراف بها).

لكن هناك من يرى أنّ دخول "حماس" ساحة الحرب الخارجية، أمر لا تستطيع الدولة المضيفة لها تحمّله، وهي سوريا، فواقع الحال اليوم ليس كسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، فقد كانت التنظيمات الفلسطينية المسلحة، تحظى بأراض وقواعد شبه خاضعة لها تماماً في الأردن ولبنان وغيرهما، وكان هناك عدد كبير من القوى والدول، توفّر لهم كل ما يريدون من تسهيلات لعملياتهم الخارجية، وأنّه لولا هذا الدعم اللا محدود، ما كان لهذه العمليات أن تنجح. أمّا الآن، فالقليل من الدول -أو النّادر منها - سيقبل أن يخوض هذا المعترك، كما أنّ هناك شبه تحالف دولي وإقليمي بين العديد من الأجهزة الاستخبارية، منها العربية والاسرائيلية والدولية، كلها تتعاون ضد قوى المقاومة والممانعة في المنطقة، وما يتم من اغتيالات واختطافات هو ثمرة لهذا التعاون، ولذلك فلا إمكانية لقبول الدولة المضيفة لمثل هذا النشاط، لأنه سيفتح عليها أبواباً لا تستطيع تحمّلها، إلا إن أرادت هي الدخول في هذا الصراع، من باب أنّها هي أحد ضحاياه،  بسبب العمليات والاغتيالات التي تمت على أرضها، واستهدفت منشآت وأفراد، وهذا خيار من المستبعد أن تختاره سوريا.

وهناك من يرى بأنّ حركة حماس لا تمتلك بنية تحتية من أشخاص مدرّبين ومؤسسات وقواعد، ووسائل تغطية، والكثير من الاحتياجات التي تلزم للقيام بمثل هذه الحرب، فحزب الله المزوّد  بالكثير من الامكانيات التي يحتاجها، لم ينجح حتى الآن في الانتقام من الدولة العبرية لاغتيالها عماد مغنية، وهذا عائد - حسب حزب الله - إلى عامل الاستنفار الأمني عبر العالم لحماية أمن الدولة العبرية، ويدلل على ذلك إلقاء القبض على العديد من الخلايا للحزب في أذربيجان وتركيا وغيرهما، أثناء محاولتها النّيل من مؤسسات أو أشخاص تابعين للدولة العبرية.

ولذلك هناك من يرى أنّ هذه الحرب بلا إدارة مركزية لها، تعمل على طريقة "الموساد" وبتنسيق وتسهيلات  من كافة مؤسسات  المحور المعادي ل "إسرائيل" وأمريكا، وعمل صامت ومؤذي بلا آثار أو تصريحات إعلامية، هو العمل الناجح، على نمط ما تم في الأرجنتين، وغيرها من العمليات الغامضة، أي كما قال أحد المحللين المصريين على إحدى الفضائيات:-  " عايز تلعب مع الموساد، إلعب معه بطريقة الموساد".

يتبين مما سبق، أنّ الرد في الخارج صعب، ويحتاج لإعداد جيّد، وتنسيق عالي، وإدارة مركزية، وأجواء دولية مواتية، وهذه كلها تقريباً غير متاحة، وتحتاج لإرادة سياسية وقرارات إستراتيجية. ولذلك يرى بعض المحللين أنه لا خيار أمام "حماس" إلا أن تذهب لتوقيع ورقة المخابرات المصرية، وتقبل بها حتى (تحصّن نفسها داخلياً من إمكانية عدوان شامل) ويرى هؤلاء أنّ "حماس" ستدفع ثمناً غالياً إذا انتقمت من الدولة العبرية على الاغتيال، وسوف تعطيها - ما اعتبروه- ذريعةً لحرب شاملة على قطاع غزة، أو أنّ ردها سيشعل شرارة حرب إقليمية، في منطقة تقف على شفا بركان.

الرافضين لهذا الرأي، يعتبرون أنّ أصحاب هذا المنطق في التفكير، يريدون قطف الثمار السياسية للاغتيال والحرب والحصار، باستسلام شامل لحركة "حماس" بتوقيع الورقة المصرية، و التي يعتبرون أنها - عملياً - إغتيال جماعي لحركة "حماس" بكل بناها، ولا يستبعد هؤلاء أنّ تدبّ الحياة الآن في حوارات وجدليات حول ما يطلق عليه الورقة المصرية، تستنزف جهود "حماس"  وقدرتها على الاستثمار الصحيح والتفكير السليم  واتخاذ القرار المتوازن لطبيعة الرد المفترض على الجريمة التي تمت في دبي، وتمنع صوغ إستراتيجية جديدة للتعامل مع أطراف المعادلة المحلية والاقليمية والدولية،  مثلما حصل بعد معركة غزة، عندما تم إيهام حركة "حماس" أنً المصالحة خلف الباب، وتبيّن أنّ هذا الباب دوّار وليس له مخرج، وانتهى بما عرف بالورقة المصرية، وأعاد كل شيء إلى نقطة الصفر، وبحصار وبهجوم أكبر وأشدّ من سابقه.

ولذلك يحذّر أصحاب هذا التحليل قيادة حركة "حماس" من  مخطط عربي ودولي،  لعملية تفريغ ممنهجة لمضامين وجوهر الحركة، ينفّذ من قبل بعض الأنظمة السياسية و أجهزة المخابرات العربية، التي أخذت على عاتقها هذه المهمة، ويعتقد هؤلاء أنّ حركة "حماس" تحتاج  ل ( جردة حساب ) داخلية، لتقييم ما تم منذ اتفاق القاهرة وحتى اليوم، حتى تستطيع تقييم خطواتها السابقة فيما عرف بمرحلة  (الحوار الوطني) تلك  المرحلة التي تخللها  انتخابات وحكومة وصراع داخلي واتصالات دولية، وعلاقات عربية، وحوار داخلي لم يفضي إلى أي نوع من التوافق، حتى ولو بالحد الادنى. و يعتبر هؤلاء  أنّ ما يجري هو عملية مخططة لبتر أذرع  المقاومة الفلسطينية بشكل تدريجي، ومحاولة لتدجينها واحتوائها وإخضاعها، وانتهاءّ بإبادتها ووأدها، فالمطلوب باختصار كما يقولون:-  ( أن تنهي المقاومة نفسها بنفسها، وتسهّل لهم عملية استئصالها وإبادتها).

ولذلك يؤيد أصحاب هذا الرأي قيام حركة" حماس" بالرّد على جريمة دبي، ولكن داخل الأراضي الفلسطينية، رد يأتي في سياق المشروع المقاوم للاحتلال، ويرفضون العمل العسكري في الخارج، لأنّه يشتت الجهود عن القضية الرئيسية للمقاومة، وهي مقاومة الاحتلال على أرض فلسطين.

إذاً، كيف السبيل إلى الرد على الاغتيال؟ وكيف تستطيع الحركة تمتين علاقاتها الفلسطينية والعربية؟ وكيف تستطيع الجمع بين منهجها المقاوم، وبين رد الضربة للاحتلال، وبين تمتين علاقتها مع من يجب أن يكونوا عمقها الاستراتيجي؟.

من الطبيعي أن ترد حركة "حماس" على عملية الاغتيال، وقد يكون الرد بطرق كثيرة، كالتي عهدناها من قبل من جهازها العسكري، وقد تكون بطرق غير معهودة، وهناك مطالبات كثيرة من أنصار الحركة عبر الاعلام بالرد، أمّا إعلان "حماس" أنها سترد في الوقت والمكان المناسبين، فقد فتح الباب أمام تكهنات كثيرة، خاصة وأنّ محللين ومسؤولين إسرائيليين اعتبروا أنّ ( التهديدات جديّة، خاصة أنّ حركة حماس عمدت في السنوات الأخيرة للقيام بعمليات كثيرة لم تعلن عنها إلا بعد فترة، وقد يكون هناك أخرى لم يعلن عنها، و قد تنفّذ عمليّات بدون الاعلان عنها في المستقبل).  كما اعتبر المحلل السياسي الفلسطيني عبد الباري عطوان، أنّ ( القسام إذا قال فعل)  أما المحلل الأمني د. فايز رشيد، فقد دعا حركة "حماس" للرد  على جريمة الاغتيال (بالعمل بصمت، و بلا كلام وبلا تصريحات) و أكّد على الإمتناع عن ( التصريح لوسائل الاعلام، والبعد عن التصريحات العاطفية).

 الرد وطبيعته  ومكانه - حسب الكثير من المحللين - يخضع للحسابات الاستراتيجية العامة للمقاومة الفلسطينية، وللظرف الميداني، ومن المؤكد أنّ ما جرى من اغتيالات ومحاولات للإغتيال  في غزة و بيروت ودمشق وطهران ودبي، فتح نقاشات كبيرة في دوائر صنع القرار هناك، لأنه من الواضح أنّ شهية  ( داجان)   ل(جزّ رؤوس العرب) والمسلمين تزداد بعد كل نجاح، وبالتالي هذا شكّل ويشكّل تحدياً كبيراً لصنّاع القرار السياسي والأمني، ولم يعد ممكناً - كما يقال- غضّ الطرف عن هذا النّشاط، أو التعامل معه وكأنه غير موجود. ولذلك يستطيع المحلل التقدير، بأنّه لا نقاش الآن حول ( هل نرد أم لا؟ ) ولكنه يدور حول ( متى وكيف وأين؟) ولذلك يعتبر هؤلاء أنّ الاعلان الأمريكي عن نشر منظومة صواريخ في دول خليجية ( تحسّباً من ضربة إيرانية)!!   والتصعيد الاعلامي لإيهود باراك  عن إمكانية  اندلاع حرب مع سوريا، وأنّ هذا ينتظر شرارة ما، والتحليق المكثّف للطيران الحربي في سماء قطاع غزة، ما هو إلا عملية مدروسة، تهدف لدفع صنّاع القرار في المحور المستهدف من الاغتيالات، لزيادة الحسابات، والامتناع عن اتخاذ قرارات تقود إلى ما يقال أنّه (الهاوية)  ودفعهم للتفكير والتقرير في جو نفسي وحالة تشعرهم  أنّهم وصلوا إلى حافتها، وبالتالي  لا بدّ من التّهدئة وعدم الرّد، وانتظار الاغتيال القادم، أو العملية القادمة، أو ربما القصف القادم.

هناك من يرى أنّ حركة "حماس" ستتعرض لضغوطات كبيرة في هذه المرحلة، حتى لا تردّ على جريمة الاغتيال، بل هناك من يعتبر أنّ المرحلة الحالية ستشهد زيادة في الضغوطات على الحركة عبر العديد من الأساليب، ويرون بإعلان حكومة دبي رفضها إشراك حركة "حماس" في التحقيق وامتناعها عن إطلاعها على نتائجه، إنّما هو مشاركة في الجريمة، بل مساهمة في التغطية على المجرمين، خاصة وأنّ هناك تقارير إعلامية تقول أنّ فريق الاغتيال دخل الامارات في طائرة الوزير الاسرائيلي عوزي لانداو الذي زار الإمارات،  و أنّ القتلة غادروا معه في نفس الطائرة، ولحق بهذا التقرير تقارير صحفية تقول أنّ الامارات ستعزّز من علاقاتها مع الدولة العبرية بعد الاغتيال؟! وهذا يثير تساؤلات كثيرة، فلماذا ترفض الامارات إطلاع حركة حماس على نتائج التحقيق؟ ولماذا ترفض إشراكها فيه؟ ولماذا أدى الاغتيال لتعزيز العلاقات مع الدولة العبرية بدلاً من توتيرها على الأقل؟.

كما يرى آخرون أنّ الفبركات الاعلامية - الأمنية العربية ستزيد هذه الأيام، فالإعلان عن إلقاء القبض على  شبان مصريين، قيل أنّهم خططوا لتفجير مزار يهودي في محافظة البحيرة، وقيل أنه عثر بحوزتهم على رؤوس صواريخ "قسام" كالتي  تنتجها حركة "حماس"؟! في الوقت الذي يعتقل مدير شرطة خانيونس من قبل الأمن المصري في معبر رفح، والتهديد المباشر من مسؤول مخابراتي مصري لرئيس المجلس التشريعي قبل أيام في رام الله، يثير هذا كله تساؤلات عن طبيعة الضغوطات التي ستتعرض لها الحركة، والتي يخمّن الكثيرون أنها ستكون أشدّ وطأةً  من سابقاتها، بهدف إجبارها على الذّهاب صاغرةً ذليلة إلى القاهرة، للتوقيع على ورقة إعدامها هناك، كما يقولون.

قد تكون هذه المرحلة هي المرحلة الفاصلة بين المقاومة الفلسطينية وحلفائها من جانب، وبين من  يخاصمونها ويعادونها من جانب آخر، وقد تشهد إعادة تقييم شاملة لكل شيء، وقد تخطً  فيها إستراتيجيا جديدة، تتجاوز إخفاقات الماضي، وعراقيل المستقبل، مرحلة لا مكان فيها لإحسان النوايا، مرحلة تخاطب كل طرف بما يستحق، وتسير بخطىً ثابتة، يسبقها تفكير وتخطيط عميق، مرحلة حبلى بأحداث جسام، يختلط فيها المعلوم بالمجهول، مرحلة تكثر فيها التساؤلات، وتندر فيها الاجابات، ويبقى  الجميع يتساءلون، متى.. وكيف.. وأين؟.