ولم لا يعذّب المصريون في الخارج أيضا ؟!

ولم لا يعذّب المصريون في الخارج أيضا ؟!

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

قيل إن وزارة الخارجية المصرية استدعت القائم بالأعمال في سفارة إحدى الدول العربية للاحتجاج على تعذيب اثنين من العمال المصريين بسكب ماء النار على جسديهما ، فضلا عن الضرب والإهانة ، والسبب كما قيل مخالفة قوانين الإقامة !

شكر الله سعي الوزارة والحكومة والشعب جميعا ، فقد قاموا بالواجب وزيادة ، من أجل عاملين بسيطين لا يمثلان أهمية للنظام البوليسي الفاشي الذي يحكمنا ويطعمنا ويسقينا ، ويسهر على راحتنا في البر والبحر والمنافي وأماكن الغربة والهجرة ، حتى بلاد الواق الواق ..! ماذا نريد أكثر من ذلك  ؟  إننا طماعون وجشعون ، ولا يعجبنا العجب ولا الصيام في رجب..نبحث عن النكد بسن إبرة !

والأمر يا سادة ليس مجرد تعذيب اثنين من العمال المصريين ضاقت بهما السبل في بلدهما الذي يملك خيرا كثيرا ، فخرجا يبحثان عن المزيد في بلاد أخرى ، وكان أن تعرضا لما يتعرض له كل البشر من متاعب ومصاعب ؛ لم يسع الأخوة المضيفون إلى حلها بالتي هي أحسن ، ولكنهم انطلقوا من مقولة أن المصري لا قيمة له في وطنه ، وأن النظام البوليسي الفاشي في بلده يعذب الناس في أقسام الشرطة والسجون والمعتقلات حتى الموت (احمدوا ربنا أن بقى العاملان على قيد الحياة ولم يموتا بماء النار!) ، ومن ثم فلا غضاضة أن يمارس الأشقاء العرب وغير العرب التعذيب أيضا اقتداء بالسنة الحميدة التي سنتها وزارة الداخلية المصرية العريقة ، وهي التعذيب حتى الموت ! أليست هي الرائدة والقائدة والشقيق الأكبر ؟

قبل شهور ، وفي هذا البلد نفسه تم ضرب دبلوماسي  مصري وسحله وتمزيق ملابسه في احتفال رسمي وعلى رءوس الأشهاد ، ومع ذلك لم يحدث شيء ، فقد انتهى الأمر بأن الدبلوماسي غلطان هو والذين خلّفوه والشعب المصري كله ! ويجب على المصري حين يهان خارج بلاده أن يشكر الذين أهانوه وضربوه وسحلوه عملا بمبدأ : " ضربك شرف يا أفندينا "! ونحن كما رأى بعض الكتاب المصريين شعب من العبيد ، وزاد بعضهم إننا شعب لا يصلح إلا بالكرباج !

وقبل أيام تم الاعتداء على إمام مسجد في بريطانيا العظمى اسمه الشيخ محمد السلامونى ، وفقد بصره تقريبا نتيجة للعدوان ، ومع ذلك فقد كان أول من اهتم به السفارة السعودية في لندن ، وليست السفارة المصرية ، لدرجة أن أعلنت أنها ستعالجه على حساب المملكة ، وبعدها غار رئيس الوزراء المصري فقال : لا ، بل نحن الذين سنعالجه ! أرأيتم الشهامة ؟

وقبل ذلك اختفى السفير " إيهاب الشريف " في بغداد ، ولم يعثر على جثته حتى اليوم ، ووزارة الخارجية الموقرة كانت تعلم جيدا أن بغداد بلد الرشيد تفتقد الأمن والأمان ، ومع ذلك أرسلته وآخرين إلى هناك ، لأن المصري رخيص الثمن ولو كان دبلوماسيا ممثلا للسلطة الحاكمة ، بل لو كان أعلى من ذلك منصبا ومكانة !

وفى بلد عربي آخر حدث خلاف بين العاملين المصريين وصاحب العمل على الأجر ، فقامت قبيلتان بحرق الأخشاب والأدوات التي يستخدمها المصريون في أعمال المعمار  ، وأطلق أفرادهما عليهم الرصاص فأصابوا العشرات وهرب المئات من البائسين المصريين إلى الحدود وإلى داخل البلد العربي المضياف !

وهذا البد العربي المضياف كريم لدرجة أنه يرحل ضيوفه المصريين وحدهم دون سابق إنذار إلى الحدود المصرية ، ولا مانع لديه أن يضعهم في القلابات التي تقذفهم هناك في العراء ، وهو يعلم أن الحكومة المصرية ستقدم له الشكر ، ثم تخرج وزيرة القوى العاملة لتنفى حدوث أي شيء بالمرة ، كما نفى مسئول في الخارجية المصرية أن ما حدث من إحراق لأخشاب المصريين وإطلاق النار عليهم غير صحيح ، وأنه لم يتم ترحيل غير عدد محدود جدا من المخالفين للإقامة !

وفي بلد عربي ثالث قبض على العشرات بسبب التهمة التقليدية ، وهي مخالفة قوانين الإقامة ، وحاول الضحايا الاتصال بالسادة الأشاوس والنشامى القائمين على أمر القنصليات أوالسفارة في البلد الشقيق ، ولكنهم أخفقوا أو فشلوا في الاتصال بأحدهم ، وحين اتصلوا ببرنامج تلفزيوني مصري اتصل بدوره بواحد من الأشاوس والنشامى الدبلوماسيين المصريين ، قال – لا فض فوه – إنهم لا يتبعون قنصليتي ! فطلب منه المذيع أن يتصل بزملائه في القنصلية المعنية ، ولكنه راوغ في الإجابة ، وقال كلاما نيئا لا يُؤكل ، ولا يُشبع ، والمذيع يرجوه ويستجديه ، ولكن صاحبنا ملتزم باختصاصاته التي لا يريد أن يتجاوزها !

وأينما يمّمت وجهك ؛ وجدت المصري في بلاد الله  ، خلق الله ، مستضعفا ذليلا ، لا يسأل عنه أحد ولا يهتم به أحد ، وقد أدرك العالم ذلك فصار يمارس الاستضعاف والإذلال ضد المصري دون أن يخشى ملامة أو رد فعل باهت أو صاعق ، بل إن الغرباء حين يدخلون مصر يتصرفون وكأنهم أصحابها أو أكبر من أصحابها ، وما بالك بكلاب الأجانب التي تعقر المصريين دون أن يهتز لأصحابها جفن ؟ بل يجدون من المصريين من يدافع عنهم ، ويثنى عليهم ويمدحهم بمطولات غير شعرية نظير ما يطعمونه ؟

عشرات الحالات ‘ بل مئات ، بل آلاف الحالات من العدوان على المصري البائس في الدول العربية الشقيقة ، والأجنبية غير الشقيقة ، ولا أحد يتحرك  في الخارجية الموقرة ‘ ولا وزارة العمل ، ولا التضامن الاجتماعي ( يعنى إيه تضامن اجتماعي ؟) .. والنتيجة أن المصري لا قيمة له ولا يحزنون !

رأيت في بعض البلاد العربية سفيرا عربيا لدولة عربية صغيرة لا تتجاوز مساحتها محافظة المنوفية ؛ يطارد المسئولين الذين يمثل حكومته لديهم من أجل عشرات العاملين من بلاده في هذه الدولة . هذا يريد أن ينتقل إلى المكان الفلاني ، وهذا يعاني من مديره ، وذاك في خصومة مع الكفيل ... مما اضطر المسئولين في هذا البلد أن يصدروا أوامرهم لبني وطنهم بعدم التعرض لهؤلاء العاملين ، وتحقيق الراحة لهم حتى لا تصدر منهم شكوى أو احتجاج !

إذا أردت في المقابل أن تبحث عما يفعله الدبلوماسيون المصريون في الخارج من أجل بني جلدتهم ، هالك موقفهم وسلوكهم ، وإن كنا نستثني أقلية ضئيلة من أولاد الناس ، فإن الأغلبية الساحقة لا يعنيها أمر المصريين ولا مشكلاتهم . إن الذي يعنيهم هو أمر التسوّق ، وتوفير أكبر قدر من العملة الصعبة ، وإرضاء أهل البلد الذي يمثلون مصر لديه حتى يرضوا عنهم ، ويكتبوا إلى الخارجية المصرية للتمديد لهم ، والاستمرار في مهمتهم الدبلوماسية !

لقد رأيت بنفسي من يهرول وراء المسئولين في بعض البلاد العربية في بعض المناسبات بما لا يتفق ووقار المنصب وأهمية البلد الذي يمثله ويتكون اسمه من ثلاثة حروف أولها ميم وآخرها راء ووسطها صاد .. وللأسف فقد انتقل المذكور إلى القاهرة ليكون مساعدا لوزير الخارجية بعد التمديد له طبعا ، حتى أحيل على التقاعد ، وصار خبيرا في الفضائيات ويتحدث في الأحداث الجارية والواقفة !!

لن أتكلم عن اهتمام بعضهم بكتابة التقارير الأمنية عن العاملين في الخارج ، وخاصة من يعملون في المجالات الفكرية والثقافية والتعليمية ، وإرسالها إلى القاهرة ، ورحم الله بعض من عرفت من خيرة علمائنا الذين ألغيت عقودهم وعادوا إلى الوطن التعيس في خلال أربع وعشرين ساعة ، وسألنا عن الأسباب فلم يعطنا أحد إجابة شافية ، ولكن الدلائل كانت تشير إلى هذه التقارير اللعينة !!!

إن السفارات والقنصليات المصرية في الخارج ، ترى أن مهمتها تهيئة الزيارات الرسمية للمسئولين وتوفير سبل الراحة لهم من أجل الاستمرار في بعثاتهم ، أما المواطنون الغلابة الذين يكدحون من أجل دراهم قليلة ، فهؤلاء غير مرغوب فيهم وفي حل مشكلاتهم ، ولعلنا نذكر ذلك السفير الذي أغلق بالسلاسل بوابة السفارة في بغداد أيام كان العراق يرسل النعوش الطائرة إلى مطار القاهرة دون أن يدرى أحد ما يجرى للمصريين هناك مما اضطر رئيس الدولة إلى استدعائه وإعفائه من منصبه!

هل العيب في أهل الخارج أم في الحكومة المصرية أم الشعب المصري ؟

أرى العيب في الشعب المصري ، فقد سمح لنفسه أن يكون عبدا لحكامه ، ورضي لنفسه الدنية  ,وصفق لجلاديه ، بل دافع عنهم ، وهاهم كتاب لاظوغلى على سبيل المثال ، يقدمون وصلات ردح وهجاء لمن يتكلمون عن التعذيب الذي يفضى إلى الموت ، ويرون أن في ذلك إهدارا لهيبة الشرطة ، ويفضلون هذه الهيبة على إهدار حياة الناس في الأقسام والمعتقلات ..

لقد صار الإنسان المصري رخيصا بفعل يده ، وليس بفعل الآخرين ، صحيح أنه تعرض للقهر سنوات طويلة ، وعومل بوحشية غير مسبوقة في التاريخ ، وهو الشعب الوحيد في العالم الذي تحكمه الطوارئ أكثر من نصف قرن ،ويعيش التمييز العنصري والطبقي في أبشع صوره وخاصة في العقود الأخيرة ، ولكن هذا لا يعفيه من المقاومة ، التي تقوم على الرفض لعبادة الفراعنة من دون الله ، والفرعون يبدأ من رئيس العمل والمدير حتى الخفير والوزير، والرفض للنفاق الرخيص ، والرفض للفساد ، والرفض لشهادة الزور في الانتخابات والاستفتاءات ، والرفض لمقولة : من يتزوج أمنا نقول له يا أبتاه ..

وحتى ذلك الحين نقول : لم لا يعذب المصريون في الخارج أيضا ؟

ولا حول ولا قوة إ لا بالله العلى العظيم !