حرب الاغتيالات
صلاح حميدة
منذ سنوات ووسائل الاعلام والسياسيين يتحدّثون عن الحرب الاسرائيلية القادمة، هل هي ضد إيران، أم ضد سوريا، أم ضد حزب الله، أم ضد حماس في غزة، أم ضدهم جميعاً وفي وقت واحد أو متدحرجة، و لا زال أصحاب كل وجهة نظر يؤكدون على رأيهم من خلال معطيات وتصريحات ومناورات تجريها الدولة العبرية بين الفينة والأخرى.
منذ قيام الدولة العبرية، وهي تعتمد إستراتيجية غزو العدو في أرضه، وجعل أرضه هي الساحة المفترضة للمعركة، واعتماد أسلوب العمليات الخاطفة قصيرة الأمد، والتي تحقق المفاجأة والردع، والأهداف السياسية المرتجاة، إضافة إلى أسلوب العمليات الخاصة، عن طريق ذراعها الاستخباراتي المسمى ب (الموساد) أو نظيره المحلي (الشاباك).
بعد العدوان على لبنان عام 2006م، تأكد للدولة العبرية أن إمكانية القيام بالحرب الخاطفة، وحصر المعركة في أرض العدو، وإبقاء الجبهة الداخلية الاسرائيلية بمأمن من الرد، أصبح من الماضي، وأنّ تحقيق عنصر المفاجأة، وبدء الحرب وإنهاءها بقرار إسرائيلي، إنتهى أيضاً إلى غير رجعة، وتأكّدت هذه القناعة بعد الحرب على ما اعتبر الخاصرة الضعيفة لحلف الممانعة (قطاع غزة)، وتبين لصناع القرار أنّ أسلوباً قديماً متجدداً في الحرب على أعدائهم هو الأجدى في هذه المرحلة، وانقسم هذا الأسلوب إلى طريقة رئيسية وأخريات فرعية.
بدأت هذه المرحلة بعدة أساليب للحرب، و انقسمت بين الحصار والحرب الاعلامية وتحشيد الحلفاء، من العرب والعجم، ومنحهم وكالة الحرب نيابةً عن ومشاركةً مع الدولة العبرية، إضافةً إلى الضربات الجوية، في الأماكن التي من الممكن فيها ذلك بلا ردة فعل، مثل الضربة الجوية لقافلة السودان، وللمفاعل النووي السوري.
أما الجزء الرئيسي من الحرب الحالية، فهو سلاح الاغتيالات، للكوادر المستهدفة من أعداء الدولة العبرية في كل مكان، فالأكثر شهرةً وشعبيةً في الدولة العبرية، ويحظى بالرضى الحكومي والشعبي والاحتفاء الاعلامي، هو رئيس (الموساد) مئير داجان، الذي يتم تقديمه بصورة ( الخبير في جزّ رأس العربي عن جسده) ويتم التمديد له لفترات عديدة، لتميّزه في هذا المجال، وتأكيداً على طبيعة المرحلة، والحرب الحالية على أعداء الدولة العبرية، وهو ما لا تغفله العين، فضلاً عن العقل.
من الواضح أنّ التلويح بالحرب الشاملة يراد منه تحويل النظر والالتفات عن العمل الرئيسي، والجهد الحقيقي الذي يتم بصمت في العديد من العواصم العالمية، والمؤمّل منه أن يركن العديد من هؤلاء القادة إلى السلوك الروتيني، ويخففوا عنهم الحراسة، تحت لافتة أنّ الاعداد يتم لحرب شاملة، وليس حرب إغتيالات، أو حرب أدمغة، إضافةً لاعتبار بعض القادة العسكريين والسياسيين في المنطقة أنّ ( الكلب الذي يعوي كثيراً لا يعض) وهو ما صرف النّظر عن قدرته على الغدر والاغتيال على حين غفلة.
الحرب الخفيّة تجري على قدم وساق، وجرت في السابق ضد فصائل المقاومة الفلسطينية في أوروبا، وضد العلماء النوويين العراقيين والمصريين، وقتل العديد من خبراء التسلح العرب، ورجال المقاومة وقادتها، وهذه سياسة قديمة جديدة، إحترفها الصهاينة، في جزّ رؤوس العرب والفلسطينيين، وقتلهم بأبشع الطرق وأكثرها ساديةً.
فقد تم توريد معدات مزيفة لايران تخصّ مشروعها النووي، تسببت بانفجار قتل علماء بارزين لها، ثم اغتيل عالم آخر، واختطف قبله علماء وطلبة متخصصين ابتعثوا إلى الخارج، و ثم اغتيال جهاد جبريل، وعز الدين الشيخ خليل، وعماد مغنية، وضابط سوري كبير، و تمت محاولة لاغتيال أسامة حمدان قتل فيها اثنين من حرّاسه، وتم في النهاية اغتيال محمود المبحوح، بعد فشل محاولات سابقة لقتله.
الاغتيال هو السلاح الفعّال والأكثر خطورةً، في الحرب القائمة بين المقاومة ودول الممانعة من جهة، وبين الدولة العبرية وأدواتها الاستخبارية من جهة ثانية، وتهدف الدولة العبرية من وراء الاغتيالات، إلى القضاء على قادة المقاومة الفاعلين، الذين يلحقون الأذى بها، ويؤرّقون نومها، ولذلك يوضع هؤلاء على رأس قوائم الاغتيال لأجهزتها، يضاف إليهم العلماء النووين وخبراء التسليح في الدول التي ترفض ربط قرارها السيادي بيد حلفاء الدولة العبرية، ويشكل هؤلاء الخبراء رأس حربة برامج التسليح في تلك الدول، ولذلك يشكل هدف اغتيالهم أولوية الأولويات لهذه الدولة، ونقل عن رئيس الموساد الاسرائيلي، عندما تولّى مهام منصبه، قوله :-
( سنجعل علماء إيران النوويين يندمون على تعلمهم للفيزياء، و سنجعلهم يتمنّون لو أنهم بقوا مدرسين في المدارس الابتدائية).
أما رجال المقاومة الفلسطينية وغير الفلسطينية، فاستهدافهم لم يتوقف، ومستمر منذ بدأ الصراع، السياسييهم وعسكرييهم على حدّ سواء، وهناك العديد من القصص عن الاغتيالات التي تمت، والأخرى التي فشلت، ولكن من الواضح أن الحرب الحالية، تركّز على استهداف رجال المقاومة المختصين بالدعم اللوجستي في الخارج، والذين يديرون شبكة إمداد المقاومة الفلسطينية واللبنانية بكل ما تريد، و أصبح اغتيالهم على سلّم أولويات الدولة العبرية.
فالحرب الاستباقية على شبكة الامداد من خلال الضربات الجوية، والعمليات البحرية، والجدران الفولاذية، والحرب الاعلامية والسياسية، كل ذلك لم يعد كافياً، وكان لا بد من ضرب من يعتبرون ( دينمو) شبكات الدعم، الذين يديرون تلك الشبكات في الخارج، ولذلك كان اغتيال جهاد جبريل، ثم عز الدين الشيخ خليل، وعماد مغنية، ومن ثم محمود المبحوح، والذي كان واضحاً من خلال الجهد الاسرائيلي الذي بذل لاغتياله، ومن خلال رد فعل حركة حماس، أنه من القيادات البارزة في هذا المجال.
تهدف هذه الاغتيالات إلى إرباك كافة خطط المقاومة، وبث حالة من الترقب والخوف بين عناصرها، وشل حركتهم وفعاليتهم، وإجبارهم على إعادة ترتيب كافة أوراقهم من جديد، كما أنّ هذه العمليات تعطي الدولة العبرية صورة الدولة ذات الأذرع الطويلة التي تقتل أعداءها أينما حلّوا، وتعيد الثقة لمواطنيها وسياسييها، بعد التراجع الكبير والهزائم المتكررة لمشروعهم الاستيطاني في المنطقة، وعجزهم عن تحقيق إنجازات إستراتيجية في المواجهة المباشرة مع قوى المقاومة في المنطقة، كما يهدف هذا الاغتيال إلى إعطاء روح جديدة لعملاء هذه الأجهزة حتى يستعيدوا ثقتهم في الدولة العبرية، بعد الضربات الكبيرة التي تعرضت لها شبكاتهم في بعض الدول العربية، مما أدى لحالة من الرعب والارباك في صفوف هؤلاء العملاء.
من الواضح أنّ المنطقة تعيش في حالة من الانتظار والتحفّز للقادم المجهول، فالمشاريع المتصارعة لا زالت لم تصل لمرحلة القدرة على حسم الأمور لصالحها، ولا زالت حالة فك الاشتباك والتحضّر لقادم الأيام مستمرة، ولا زال الاستعداد والاعداد مستمراً بوتيرة عالية، والجميع يخبّىء المفاجآت للآخر، ولذلك قررت الدولة العبرية وحلفائها نقل المعركة إلى ساحة الآخرين الأعداء، ولكن بطريقة مغايرة، تدار خلالها حرب إعلامية مضللة، وحصار ومتابعة وقرصنة، فيما تشنّ حرب اغتيالات وعمليات خاصة خلف الحدود بصمت وتكتم شديد، ويكاد يجزم عدد من الخبراء والمحللين، أنّ هذه الحرب تتم بشكل مشترك بين الدولة العبرية وعدد من الدول الأخرى، ومن ضمنها دول عربية، تشاطر الدولة العبرية عداءها لتلك القوى، حتى أن كاتباً من أبواق أحد الأنظمة العربية، وعلى صدر صحيفة حكومية، كتب مقالاً يمتدح فيه رئيس ( الموساد) مئير داجان، ويمتدح قدراته في قتل رجال المقاومة اللبنانية والفلسطينية والعلماء الايرانيين، وبالتأكيد ما كان لهذا البوق أن يتجرّأ على فعلته هذه - في الوقت الذي اغتيل فيه العالم النووي الايراني، و اغتيل فيه محمود المبحوح - لولا أنّ هناك من أومأ له بكتابة مقال الاحتفالية بتلك الاغتيالات، ممّن من الممكن أنّ لهم يداً في مساعدة الموساد في عملياته تلك، إمّا بالمشاركة، أو بالتّصفيق والتشجيع والاحتفال.
بات من المؤكد الآن أنّ هذه الحرب التي يقف (الموساد) على رأسها، تدار من مجموعة من الأجهزة الاستخبارية في العالم، و أصبح من المؤكد أيضاً أنّ هناك من يحاول ولم ينجح حتى الآن بصد هذا النشاط الكبير ضد قوى المقاومة، ولكن المؤكد أيضاً أنّ هذه الحرب، فرضت على قوى المقاومة - حركات ودول- معادلة جديدة للصراع، تحت ضغط ( ردّ الصاع بصاعين) فهل ستشهد المرحلة المقبلة حرب أدمغة واغتيالات وعمليات خاصة، من قبل قوى المقاومة ( دولاً وتنظيمات) ضد القوى المعادية لها في مرحلة قد يطلق عليها حرب الاغتيالات.