حادثة هايتي نقمة أم نعمة

يعقوب أحمد

[email protected]

لم تتوانى كبريات الدول والمنظمات في مد يد العون إلى تلك الجزيرة المنكوبة التي حل بها الزلزال والذي أودى بحياة الآلاف من سكانها. ومن المفترض أن تكون جملة التحركات والمبادرات التي قامت بها الأطراف المختلفة بعد الواقعة، إنسانية بحتة بعيدة عن كل المصالح والجشع والمطامع، هذا ما يجب أن يكون، ولكن هناك علامات استفهام حول نوايا وتحركات تلك الجهات.

وإن كانت النوايا في بادئ الأمر أخذت طابعا إنسانيا، إلا أنها في ما بعد بشكل عفوي أو مخطط  أخذت تنتهج سياسة " مصائب قوم عند قوم فوائد". وإن كنت قد أخطأت في تحليلي عن الحدث، وتفسيري له بناء على الحدس، فإن هناك ما يؤيد ذلك التحليل، انطلاقا من التساؤلات الآتية: أين هؤلاء أوقات البرد القارس وأيام الصيف القائظ أو في يوم ذي مسغبة؟ أم قبل الزلزال لم يتم اكتشاف الوسائل الإعلامية التي تنقل الأخبار أو الأقمار الصناعية؛ في الحقيقة إنها سياسة الدول المستعمِرة، تجد في المصائب والفتن ملاذا وذريعة لتحقيق أهدافها تحت مظلة المساعدة والإنقاذ.

ما حدث في هايتي يعد غاية في الفظاعة والدمار، آلاف من البشر تموت دفعة واحدة وأسأل الله أن يولي أهالي المفقودين الصبر. تعال لنجري مفاضلة بين ضحايا سببتها أحد الجمادات التي لا عقل له وهي الأرض بأمر من الخالق عز وجل، وبين ضحايا خلفها إنسان يعقل ويميز. فالذي جرى بأرض فلسطين قرابة قرن أكبر وأضخم، وموجع،  فالأطفال والنساء والأبرياء والأشجار دون تمييز حصدتها الدبابات والبنادق والقنابل الفوسفويرة، التي هي أشبه بالمنجل الذي لا يفرق بين رديء وجيد. أليسوا بشر، يحسون ويألمون ويجوعون؟ أم أنهم خلقوا من حديد؟ ذاقوا مرارة التجويع وعمليات الحصار طوال حياتهم. فأي من الجهات المعنية التي تسعى الآن جاهدة لإنقاذ هايتي بادرت بإرسال ولو مثقال ذرة من القمح أو الملابس التي تقي الأطفال من البرد ، أو الأدوية غير المنظمات المنصفة؟ فالمتمعن في القضية يرى سيناريوهات غريبة وساذجة ، تترك انطباعات في ذهن الإنسان العاقل فتصيبه بخمول. وهذا بيان لدعم ومساندة الغرب للعمليات العدوانية الصهيونية القائمة ضد فلسطين بشكل عام وأهالي غرة بشكل خاص، فكأن عين الكاميرا بعيدة ولا ترى ما يحصل بغزة ولكني أعتقد  أن عين الكاميرا لا تكذب. كم من مشاهد دمار وقتل مروعة تفوق  ما حل بتلك الجزيرة ولم تتحرك لها تلك الجهات. إذاً يبدو أن الجنود المجهولون في الإعلام الغربي والإسرائيلي سيطروا على ميدان الحرب من خلال علميات القمع والاعتقال التي قاموا بها بحق الصحفيين والمذيعين، فحجبوا المشاهد ومنعوا بثها في القنوات الغربية. أتساءل مرة أخرى أين الصحف الغربية والإذاعات التي تنادي بالحرية وغيرها وقتئذ؟ أم أنها لم تنشأ في تلك الفترات؟ بينما فكر الآن وانظر لم تخل صحيفة أو مجلة غربية أو عالمية إلا وتناولت أحداث هايتي وبشكل يومي. فإننا نتحدث عن كم وكيف التغطية بين الحادثتين وما مدى المصداقية التي حظيت بها كل حادثة.

فالحقيقة تقال في كل مكان، فحادثة هايتي فعلا مروعة وموجعة، زلزال يقتل في لحظة ما يفوق ألاف الأشخاص، وخاصة في شعب فقير وعاجز عن حصول قوت يومه، وهذه هي سنة الحياة، فالله يفعل ما يشاء، ونسأل الله أن يصرف عن الأمة كل أنواع المصائب. ويجب على كل دولة مسلمة أم كافرة تمتلك إمكانيات مادية أو معنوية  زائدة باستطاعتها التحرك أن تتحرك، بغض النظر عن جنس أو عرق أو عقيدة تلك الشعوب وذلك من منطلق "وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا" وقد بادرت دول عربية في إرسال مساعدات إنسانية.

فالزلزال شكل نقمة وابتلاء بالنسبة لسكان هايتي، ونعمة لمن يرونه نعمة، فهو بالنسبة إليهم مفتاح من دونه يصعب إنجاز المهمة، فكأنهم يريدوا بسط أيديهم في ما لا يملكونه، فهذه الجزيرة تخضع في الأصل لاستعمار فرنسي والتي تعد ضمن مجموعة جزر خاضعة لاستعمار عدة دول كأمريكا واسبانيا وفرنسا، ومعروف أن استعمار فرنسا يهتم بالجانب الثقافي ولكنه مقصر وسيئ في الجانب العمراني والاستثماري، ولا يريد التقدم لأي دولة تخضع لسيطرتها سياسيا أو اقتصاديا حتى تظل تحت قدميها إلى قيام الساعة. ويتجلى ذلك في قارة إفريقيا، لا زالت كل الأمور بدائية، التعليم والاقتصاد والمعمار. وكل من يتجرأ من حكام تلك القارة السمراء إجراء علميات تحسين أو تطوير فإن نهايته يكون مهددا بالاغتيال. ومع ذلك فإن فرنسا خافت من الوجود الأمريكي هناك، واحتجت لذلك، فعلا تحتج لأننا في قضية إنقاذ ولسنا في حالة تأهب واستعداد لخوض حرب، وذلك لاصطحابها بعض الأسلحة. وبالرغم من وجود اتفاقيات وعهود بين تلك الدول إلا أن الطمع يتجلى في وجوهم وتحركاتهم. لأن مثل هذه الجزر أو غيرها من الدول الإفريقية ثرية وتخبئ في بواطن أراضيها معادن قيمة، لذا ترى النسور تحوط وتحلق في السماء تحدق من مسافات بعيدة فريستها وتحتفل وتغني نِعمَةً بينما  تبكي وتندب أقرباء الجثث وتشق الجيوب وتلطم الخدود حزنا ونقمة لفقدان الأحبة.