التغيير والتجديد وإستراتيجية تجاوز التبعية
التغيير والتجديد وإستراتيجية تجاوز التبعية
رؤية جديدة للباتولوجيا السياسية
و دور الوساطة السياسية في علاجها ووقايتها
علجية عيش
صحافية من الجزائر
"إن أخطر ما يتعرض له المناضل الحقيقي اليوم هو الميوعة السياسية، فقد أصبحت الصورة النضالية داخل الحزب تلفها الكثير من الضبابية و في حاجة إلى الكثير من التوضيح..، فالكثير من الأحزاب السياسية في الجزائر اليوم أمام امتحان عسير للبحث عن مناضلين حقيقيين يؤمنون بالحزب و أفكاره، و يناضلون من أجل الحزب لا من أجل المسؤولية أو تحقيق أغراض شخصية آنية، بعيدا عن كل المناورات و المراوغات التي أصبحت لا تجدي شيئا، وهي باثولوجيا سياسية تحتاج إلى تشخيص دقيق من طرف محللين سياسيين.."
صراعات سياسية حزبية تنظيمية تحدث في الساحة السياسية في الجزائر، في الوقت الذي تعيش فيه هذه الأحزاب و التنظيمات أجواء التحضير للانتخابات المحلية و هي أخر مرحلة بعد التشريعيات الأخيرة ، فيها يختار الشعب الجزائري من يمثله محليا و من يسهر على مشاريعه و يحل مشاكله اليومية، و ما زاد في حدة الصراعات و التطاحنات داخل هذه الأحزاب و التنظيمات و تصدع جدرانها دون أن تشعر هذه الأخيرة بالخطر المحدق بها إذا تأخرت عن أداء واجباتها التاريخية و الإسهام الفاعل في دعم المسار الديمقراطي الذي يبني الجزائر، و كان الهدف من هذه الصراعات " تأزيم الجزائر" و إبقائها في بؤرة الصراع ، و هي غاية تخدم بعض الأطراف الذي يريدون استغلال خيرات البلاد و ثرواتها، و هو السؤال الذي ينبغي طرحه على قادة الأحزاب السياسية الكبرى في الجزائر : ماذا يُراد بالجزائر؟ بعد المآسي التي مرت بها ، إن الإجابة على هذا السؤال بالذات قد يعيد الكثير من الحسابات، لأن المنظومة السياسية و التنظيمية تغيرت في فهم و استيعاب الواقع الاجتماعي للمواطن، و غاب عن قاموسها الفكري و السياسي، العمل و طرق تبليغ رسالتها و برنامجها في تحقيق المطالب الوطنية التي ارتفعت زمن الكفاح الثوري، من أجل إقامة مؤسسات دستورية يعتمد عليها، وأصبحت هذه الأحزاب و التنظيمات لا تقدم ما هو مطلوب منها، و اتضح الأمر أنها مجرد هياكل خالية من المضمون، أي أنها لم تتبنى القضايا المشتركة، لاسيما فيما تعلق بالإرهاب و الفساد المالي و الأخلاقي، و خلق "المناضل" الحزبي الجيّد والمواطن الصالح..
و بدلا من أن تكون داخل هذه الأحزاب و التنظيمات أحادية التفكير والتنظيم في رد الاعتبار الجاد لدور المؤسسات سواء داخل الحزب كما في داخل الدولة، فقد تبنّت هذه لأخيرة ما يسمى بـ "إستراتيجية إلغاء الآخر" في اعتقادها أنها تسعى إلى إحداث التغيير و التجديد ، و أصبحت المعركة الحقيقة في كيفية الحصول على الكرسي و الوصول إلى المسؤولية و لو على حساب الآخر، دون أن تعمل القيادات الحزبية على تنظيم الحياة الحزبية و ممارسة السياسية على مستوى قواعدها، هذه الأخيرة التي همشت من طرف قادة الأحزاب و زجت بها في صراعات مصلحيه ضيقة هي بريئة منها..، و السؤال يطرح نفسه هل التجديد أو التغيير كما يحلو لهذه الأحزاب و التنظيمات أن تسميه يعني إلغاء الآخر..؟
لقد انقسمت أحزابنا السياسية من داخلها إلى فرق و مذاهب حزبية ، فئة تتهافت على السلطة فجعلت من المناضل النزيه ورقة مربحة بالوعود الكاذبة ، و ما إن تصل إلى هرم السلطة حتى تغير من خطابها و جلدها، و هو ما يصدر من العديد الذين أعطاهم الشعب صوته، فأول شيء يقوم به هو تغيير "هاتفه النقال" حتى لا يزعجه أحد، وفئة لا تكاد أن تذكر أسماؤها على الألسنة لقلة عددها و هي الفئة المخلصة للحزب و مبادئه، و يكفي نتائج الإنتخابات التشريعية الأخيرة و امتناع المواطن الجزائري عن الإدلاء بصوته لدليل كاف على فشل التعددية السياسية و الحزبية في الجزائر، و فشل الأحزاب في ترسيخ فكرة النضال و أخلقته في أذهان مناضليها..
غياب الثقافة السياسية والثقافة الحزبية في الجزائر نتج عنها تعددية حزبية داخل الحزب نفسه، و قد أدت هذه التعددية الداخلية إلى انقسامات و تشتيت داخل الحزب فنشأ ما يمكن أن نطلق عليه "حزب في حزب" سواء كان الحزب وطني ، ديمقراطي أو إسلامي، مثلما ما هو موجود في حزب جبهة التحرير الوطني، أو حزب التجمع الوطني الديمقراطي، و حتى حركة الإصلاح الوطني..
فما يحدث على مستوى هذه الأحزاب لا صلة له بأخلاقية النضال، و نضرب على سبيل المثال، فقد سبق في بعض الأحزاب و أن قدم بعض " أشباه المناضلين.." بطاقات مزورة من أجل الترشح و الوصول إلى كراسي المسؤولية وقوبل ملف هذا المناضل بالرفض من طرف القاعدة الحزبية ، لكن لتتفاجأ القاعدة بورود اسمه في قائمة المرشحين المقبولين، و هذا يعني أن القيادات الحزبية لا تأخذ بقرارات قواعدها، وحول هذه الأخيرة حدث و لا حرج، بعضها يقودها مناضلون أميون لا لشيء إلا لأن المال هو شهادة هؤلاء، وقد سبق و أن تشاجر أحد المناضلين الأكفاء مع عضو "أمّي" و كان تدخل المسؤول سوى قول: "لا تنس أنه هو الذي يدفع لنا فاتورة الكهرباء.." و هذا ما يدل على أن أحزابنا و تنظيماتنا لا تهتم بمسالة الكيف بقدر ما يهمها الكم، "أعطني عددا كبيرا من المناضلين و لا يهم كيف يكونون.."
الانقلاب السياسي على الشيخ عبد الله جاب الله، رئيس حزب "حركة الإصلاح الوطني"، أكبر كتلة برلمانية معارضة بالجزائر، كان عبارة عن اتهامًا ضمني للسلطات بعرقلة خوض حزبه للانتخابات التشريعية بدأ بصدور قرار من وزارة الداخلية يمنع فيه تسليم استمارات الترشيح للانتخابات التشريعية، لاسيما و هذا الحزب يحتل المرتبة الثالثة من حيث عدد المقاعد البرلمانية، ويتمتع بجماهيرية كبيرة، يأتي هذا في الوقت الذي خرج فيه إلى الوجود السياسي "الحركة الموازية" لحركة الإصلاح الوطني و التي يقودها محمد بولحية الغريم الوحيد لجاب الله، كذلك التصريح الذي خرج به رئيس الوزراء عبد العزيز بلخادم، أن "الأحزاب التي لم تعقد مؤتمراتها، وتقدم تقاريرها الأدبية والتنظيمية والمالية خلال العام المنصرم، ستمنع من دخول الانتخابات"، و هو ما اعتبره جاب الله في مؤتمر عقده في بداية السنة الجارية أنه خال من الصفة الدستورية لتعارضه مع جوهر النظام السياسي الجزائري، و القائم على التعددية السياسية..
نفس الانقسامات عاشها بيت التجمع الوطني الديمقراطي، و ما تزال آثارها موجودة ، فبظهور الحركة الإصلاحية "للأرندي" أثرت هذه الأخيرة على سمعة الحزب وأحبطت من معنويات المناضلين النضالية، و نشبت عن هذه الانقسامات حرب بيانات بين الإخوة الأعداء، عبر صدور قوائم بعشرات المناضلين المستقلين من الحزب، مما أوجب على أعضاء الحركة المطالبة بفتح تحقيق عاجل ودقيق حول الموضوع، وإطلاع الرأي العام الوطني بنتائجه..
النزيف داخل بيت الأرندي بلغ هو الآخر حدته بعدما تقدم أحد المناضلين للترشح بشهادة إطار دولة "مزورة" رغم أن الجميع يعرف مستواه الدراسي و الفكري، و فشل رؤساء المكاتب الولائية للتجمع الوطني الديمقراطي في تسيير الحزب و تطبيق أفكاره ، و نتج عن هذا لانشقاق و النزيف داخل التجمع الوطني الديمقراطي ما يسمى بـ "اللجوء الحزبي" أي انسحاب الكثير من مناضلي الأرندي و لجوئهم إلى الأحزاب الأخرى بعدما تحصلوا على "تأشيرة الهجرة السياسية"..
هذه المشاهد الغريبة داخل الأحزاب السياسية الجزائرية، فتحت الأبواب أمام أحزاب أخرى يطلق عليها بـ " المجهرية" من أجل الصعود ومنافسة أحزاب كانت تدعي أنها "كبيرة"، وقضت على "غرور" بعض هذه الأحزاب..، و بكل موضوعية تأخذنا قضية الأحزاب المجهرية و تدفع المتأمل منا أن يطرح السؤال التالي، هل يوجد هناك حزب ولد كبيرا..؟ ما يمكن اعتقاده هو أن يوجد حزب "جاهز" أي حزب " بشنبات " كما قيل في ذلك عن الأرندي ، فقد خرج هذا الحزب من رحم "حزب جبهة التحرير الوطني" و هو الحزب الذي كان في يوما ما "جبهة ثورية" يقودها رجال أبطال خاضوا معركة كبيرة من أجل نيل الجزائر استقلالها، و كانت جبهة التحرير الوطني بديلا لمجموعة من الأحزاب أظهرت فشلها سياسيا و عسكريا في الحقبة الإستعمارية، ولم تتحول " الجبهة" إلى حزب إلا بعد الاستقلال..
وها هي اليوم تشكل القوة السياسية الأولى في البلاد لاسيما بعد استحواذها على أكبر المقاعد البرلمانية في تشريعيات 2002 و 2007 ، و إعادة هياكلها القاعدية رغم ما يشوبه من خلافات داخلية و هي آثار خلفتها المرحلة الحرجة من رئاسيات 2004 ، و ما تزال الكرة السياسية دائرة بين الجناحين، و هي سياسة أرادتها بعض الأطراف حربا لا متناهية، و كاد أن يكون لها ما تمنت، لولا تدخل بعض الرجال المخلصين لجبهة الشهداء و المجاهدين، و الذين انطلقوا في تفعيل الواقع و الحاضر انطلاقا من قيم و مجهودات الماضي الذي صنع ثورة عظيمة أصيلة بأصالة رجالها..
حمس ذات الانتماء الإخواني جعلت من جهتها الإسلام ورقة رابحة في كسب معاركها الانتخابية مستغلة في ذلك ظروف المجتمع الجزائري الذي كان يئن و يعاني من آلام المأساة الوطنية التي مرت بها الجزائر، و استطاعت أن تأخذ لها مكانا في الساحة السياسية، خاصة بعدما أصبحت طرفا في التحالف الرئاسي، كما استغلت عثرات الأحزاب الأخرى وزلات زعمائها وخاصة الإسلامية منها، و على رأسها حركة الإصلاح الوطني التي يقودها عبد الله جاب الله، بعدما واجهت قبلها الجبهة الإسلامية للإنقاذ..
تلك هي ثلاثة أحزاب قوية في الجزائر كان عليها أن تضرب المثل في الممارسة السياسية ، لكنها راحت تبحث عن مناضلي المصالح بدلا من البحث عن رجال النضال، و هو المفهوم الذي ما زال يشكل نوعا من الطابوهات، و أصبح الحديث عن النضال إلا في الحملات الانتخابية..
وما يحدث في التنظيمات الثورية في الجزائر هو نفسه ما يحدث داخل هذه الأحزاب، ثلاث تنظيمات تطغوا على الساحة السياسية في الجزائر من بين العديد من التنظيمات ذات الطابع الحكومي و الغير حكومي، هذه التنظيمات هي المنظمة الوطنية للمجاهدين منظمتي أبناء الشهداء و أبناء المجاهدين و هي منظمات معترف بها ومعتمدة من طرف الداخلية الجزائرية، غير أنه المنظمات تعيش حالة انسداد نتيجة الخلافات و الحسابات الضيقة حول الحزب الذي يمكنه الاستحواذ على المنظمة ، فالصراع الحالي قائم بين الحزبين القويين في الجزائر و هما حزب جبهة التحرير الوطني و حزب التجمع الوطني الديمقراطي، بحيث يسعى أمناء هذه المنظمات البقاء على رأس المنظمة دون إحداث أي تغيير أو تجديد في الهياكل، ففي الوقت الذي يسعى فيه الطيب الهواري وهو من التيار الأفلاني أن يبقى الزعيم الوريث لأبناء الشهداء، يحاول أمبارك خالفه و هو من تيار الأرندي أن يكون الزعيم على رأس منظمة أبناء المجاهدين، و إن بادر هذه الأخير في إعادة هياكل المنظمة لكنه اقتصر على بعض المكاتب دون الأخرى..، دون أن يأخذ هؤلاء في اعتبارهم أن مفهوم النضال و أخلقته و دمقرطته لابد أن يؤخذ له مجالا واسعا في فلسفة الأحزاب السياسة والمنظمات و في نقاشاتها و أحاديثها ، حتى لا تفشل في بناء مجتمع سياسي بالمعنى الدقيق للكلمة، و ذلك بالانتقال بها من الشعارات والعموميات والتعبئة إلى التجسيد الفعلي الميداني..
إن النضال المثالي والمطلوب هو الذي يرتكز على مجموعة من الأخلاقيات التي بوجودها يكون النضال مشروعا وواجبا، حتى لو لم يكلل هذا النضال بالنصر ولم يحقق أهدافه المنشودة، فأخلاقية النضال تتطلب منا توحيد الكلمة، و جمع الشمل و إشاعة المودة ، وتعبئة كل الطاقات و الكفاءات دون إقصاء أو تهميش، فإذا قامت القيادة الحزبية لكل مؤسسة حزبية بهذا الدور الريادي فإنها لا محالة سيكون لها تأثير قوي على المستوى القاعدي، لكن يحدث العكس تماما، فمعظم الأحزاب السياسية في الجزائر ما تزال تعيش حالة انقسام، رغم ما تردده من شعارات التي تبدو شكلية في الظاهر دون أن تتسلح هذه الأحزاب بالروح النضالية، أو تغير من لغة خطاباتها و هي نزعة دكتاتورية تحاول القيادات الحزبية في الجزائر تسليطها على مناضليها الحقيقيين..، فمن غير إصلاح هذه العناصر والمفاهيم وغيرها لا يمكن أنم نبني حزبا سياسيا أو منظمة جماهيرية...