المهندس باسل قس نصر الله
المهندس باسل قس نصر الله
مستشار لمفتي الجمهورية العربية السورية
د. جميل بغدادي
من الطبيعي أن يسـتغرب الكثير من القراء هذا العنوان، هل أخطأ الكاتـب في كتابة العنوان ، أم أخطأ بوضع الاسم ، وتساؤل القراء سيكون هل من المعقول أن يكون مستشار مفتي الجمهورية مسيحياً ؟ ولكن الحقيقة تقول ذلك فالمهندس باسل قس نصر الله هو مستشار مسيحي لمفتي الجمهورية سماحة الشيخ الدكتور أحمد بدر الدين حسون .
وبحكم عمله مع مفتي الجمهورية العربية السورية يكون متواجداً أكثر من غيره في الجوامع والمساجد ، فأي مستشار سيكون في أغلب الأحيان متواجداً في الأماكن التي يتواجد بها هذا الشخص ، سياسياً كان أم اقتصادياً أو دينياً أو غيره .
وقد لا يلعب الدين أو الانتماء الطائفي ، أهمية في اختيار مستشار لسياسي معين أو اقتصادي أو حتى رياضي أو فني ، إلا أن القارئ سيفكر معذوراً أن مستشاراً لمفتي الجمهورية سيكون بالتأكيد مسلماً ، ولكنه سيفاجأ عندما يسمع من المهندس باسل أنه مسيحي .
فقد قرأنا مؤخراً عن المستشار نصر الله الذي يقول بنفسه حول هذا الموضوع : مما لا شك فيه أن سماحة المفتي العام للجمهورية لن يستشيرني في قضايا فقهية إسلامية - وهو يعرف ما يعرف ومعه من علماء الدين الإسلامي من تلمع أسماءها ، إلا أنه عندما يطرح نفسه كمفت لكل المواطنين في سورية وليس المسلمين فقط ، عندها يتوجب علينا أن نفهم لماذا يوجد مسيحي في الصف الأول مع المفتي .
ويستذكر المهندس نصر الله حادثاً صادفه في العام الفائت خلال مؤتمر عقد في فيينا حضره مع سماحة المفتي ، سألني السيد عمرو موسى ، الأمين العام للجامعة العربية ، بلهجته المصرية ، وذلك بعد أن علم أنني مسيحي دَه إنتو في سورية ، إزاي تفكروا ؟ وتأكدت حينها أن الرسالة السورية في العيش المشترك بين مختلف الطوائف والتيارات الدينية قد وصلت واضحة ، وخاصة أن ذلك كان خلال مأدبة الغداء التي أقيمت على شرف الوفود المشاركة ، وكنت على طاولة مستديرة مع كل من سفراء ألمانيا وفرنسا ومالطا لدى النمسا وآخرين . وكان المؤتمر يضم كل وزراء خارجية البلدان الأوروبية والعربية ضمن مؤتمر “أوروبا والعرب - شركاء في الحوار” بتنظيم من وزارة خارجية النمسا والجامعة العربية ، يضاف لوزراء الخارجية عدد قليل جداً من المدعوين الخاصين لحضور المؤتمر وإلقاء كلمة في الجلسة الختامية “لإغناء المؤتمر”، وسماحة مفتي سورية كان الأكثر أهمية وذلك من خلال الاهتمام الزائد به من قبل وزارة الخارجية النمساوية .
أعود إلى مأدبة الغداء ، حيث تم التعارف ، وذلك بعد أن قرأنا أسماء وصفات الأشخاص الجالسين بجانب كل واحد منا ، بادرني سفير مالطا قائلاً : إنه يعرف القليل من اللغة العربية فشرحت له باللغة الفرنسية ما معني اسم عائلتي ، وعندما قلت له أن القسم الأول منه هو قس ويعني كاهن ، اندهش السفراء وقال لي سفير فرنسا : ولكن ألستَ مستشاراً لمفتي سورية ، وهو مسلم ، فهل كنت مسيحياً في السابق ؟ فأجبته : ولكنني سيدي السفير أنا مسيحي فصمت الجميع مندهشين ، وبدأنا نقاشاً تحول إلى عرض مبسط للعيش المشترك في سورية ، وقلت لهم : أنتم تتكلمون وتثنون المديـح على دول سمحت بأداء بعض الشعائر الدينية على أراضيها ، وتنسبون إلى بلدي عن طريق الإعلام حملات مغرضة بدءاً من الإرهاب إلى ما لا يخطر على بال… في بلدي أيها السادة لسنا بحاجة إلى موافقة رئيس الجمهورية حتى نرمم – مجرد الترميم – كنائسنا ، وفي بلدي لا تُمنع أصوات أجراس الكنائس ، ولا يقوم نائب الملك بدعوة رؤساء الطوائف للحضور إليه لمعايدتهم . في بلدي سورية ، يكون ترخيص بناء كنيسة منوطاً بالجهة الإدارية التي تمنح ترخيص أي بناء ما ، وتكون الكهرباء والماء مجانيتين أسوة بالمساجد والمعابد اليهودية حتى ، وخلال تنظيم بقعة عمرانية ما ، يلحظ المخططون مكاناً لبناء المعابد (مساجد وكنائس)، وفي بلدي يتسابق رجال الدين المسيحي لمعايدة إخوتهم المسلمين ، الذين يبادروهم بمثلها خلال الأعياد المسيحية ، بل إن رئيسنا يتوجه بنفسه إلى كنائسنا وأديرتنا ليعيدنا ، وأخرجت الكومبيوتر المحمول وأريتهم صورة رئيسي بشار الأسد محاطاً بلفيف من رجال الدين الإسلامي والمسيحي ومختلف التيارات والطوائف وذلك في إحدى الأديرة ، وقلت لهم :
سادتي إن هذا الشعب لا ينتج إرهاباً بل حباً. واندهش الجميع مما قلت ومن الصورة وقالوا لي : لماذا لم تنشروا الصورة ؟ ولماذا لا يسلط الإعلام العالمي الضوء على هذه النماذج . وهنا أحسست بضعفي وعـدم مقدرتي على الإجابة .
منذ أيام ، في يوم عيد الميلاد المجيد ، حضر إلى مدينتي أحد اللوردات البريطانيين ، وهو عضو في مجلس اللوردات البريطاني ، يرافقه سفير سورية في بريطانيا ، وكان اللقاء عند الشيخ أحمد حسون مفتي عام سورية ، وسبقته قبل أسبوعين سفيرة الدانمرك في سورية ، والتي قالت لسماحة المفتي ، إن وجود مستشار مسيحي هو أكبر دحض لمقولة الاضطهاد الديني .
أعود إلى اللورد البريطاني الذي حضر خطبة الجمعة المصادف في يوم عيد الميلاد المجيد، لقد سمع من سماحة المفتي العام في خطبته بجامع الروضة في حلب ، قصة ولادة السيد المسيح ، كما نرويها في كنائسنا ، فالتفت وسألني هل كان المترجم ينقل له الخطبة بشكل صحيح ، لأنه لم يصدق أذنيه . كما سألني أليس اليوم هو عيد الميلاد وأنا موجود معه في مسجد بدلاً من وجودي في كنيسة .
نعم سيدي اللورد ، هذه سورية وهذا منهج رئيس بلادي وهذا فكر سـماحة المفتي العام ، وهذا هو الشعب السوري ، فنحن لا نتعامل ونقسم بعضنا البعض إلى طوائف ، بل إلى مواطنين ، فلا تستغرب وجودي كمستشار لمفتي سورية وأن اقضي أنا المسيحي يوم عيد الميلاد في حضور صلاة الجمعة وخطبتها . الله اشهد إني بلغت . وإلى هنا ينتهي كلام المهندس نصر الله .
وأريد أنا بدوري أن أضيف شيئاً جديداً للقراء لا يعرفونه عن سورية ، لم أعهد في حياتي بلداً منفتحاً على الآخر كسورية ، وأنا لم أشعر كمواطن مسيحي بأني غريب عن وطني أو أن أخي المسلم متميز عني ، العديد من أصدقائي لا يعرفون بأني مسيحي ، فنحن في بلد التسامح والمحبة والآمان لم نعرف يوماً بأن هناك تميز بين مسيحي ومسلم ، ولم نسـأل أحداً عن عقيدته ، فالصداقة تجمع بيننا من خلال صدق المعاملة والأخلاق والمحبة ، فأقرب الأصدقاء إلى قلبي هم من الأحبة المسلمين ، فالدين لله والوطن للجميع .
لقد درست الديانة الإسلامية في المرحلة الابتدائية وحتى الإعدادية إلى جانب التعاليم المسيحية في مدرسة جودت الهاشمي ، ولم يسألني يوماً أحد الأصدقاء أو الأساتذة عن ديني ، حتى عرف الأساتذة أني مسيحي بسبب تقديم الامتحانات والتي يجب أن أقدم فيها مادة الديانة المسيحية ، أقول صراحة إني عشقت التاريخ بفضل الدروس الإسلامية التي كنت أواظب على حضورها ، حيث كان فيها سرد تاريخي محبب للفتوحات والغزوات والشخصيات الإسلامية .
أحب أن أقول للقراء بأنه يعمل لدى السيد رئيس الجمهورية بشار الأسد الكثير من المستشارين المسيحيين ومنهم من هو قائم على عمله حتى الآن ، ومنهم من فارق الحياة في عهد الرئيس الرحل حافط الأسـد ومنهم أذكر : د. اسكندر لوقا ، جبران كورية ، الياس بديوي ، أسعد الياس ، جورج جبور ، كوليت خوري وآخرين ، وسورية البلد المسلم الوحيد في العـالم الذي تسلم فيها رئاسة الحكومة وزير مسيحي هو المرحوم المناضل فارس الخوري ، والبلد الوحيد الذي يصل فيه المسيحيون إلى مراتب عليا ، ومنهم أعضاء في القيادة
القطرية والقومية للحزب ، ووزراء ، ومحافظون ، وأعضاء مجلس شعب ، وسفراء ومدراء مؤسسات هامة وشركات ومصانع ، وهذا ما نجده نادراً لدى الدول الأخرى التي تكون هذه المراتب حكراً على المسلمين ، أريد القول بأن الطوائف المسـيحية قاطبة في سورية تحتفل بالأعياد الدينية في جو احتفالي كبير ، حيث تمارس الطقوس الدينية بكل حرية وتقام المسيرات التي تصحبها المشاعل والفرق الموسيقية الكشفية التابعة للكنائس في أجواء احتفالية مهيبة ، ويشارك فيها المسلمون والمسيحيون جنباً إلى جنب .
سورية من الدول القليلة التي يشارك فيها المسلمون إخوانهم المسيحيين في الصلوات المشتركة ، مثلما يشارك المسيحيون إخوانهم المسلمون في صلوات مشتركة ، ولعل زيارة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني وإقامة صلاة مشتركة في الجامع الأموي مع مفتي الجمهورية خير ما يؤكد هذا الكلام . هذه هي سورية التي أريدكم أن تعرفونها على حقيقتها ، وليس سورية كما يحاول البعض أن يشوهوا صورتها ، سورية هي بلد المحبة والسلام والإخاء المشترك وهذا ما عهدناه في ظل الرئيس الراحل حافظ الأسد وما نعيشه اليوم في عهد السيد الرئيس بشار الأسد .
أحب أن اختتم المقالة بالقول إن السفارة السورية في أستراليا التي يشرف عليها السفير تمام سليمان هي السفارة الوحيدة من بين جميع السفارات العربية في كانبيرا التي تقوم بزيارات متتالية إلى الكنائس المسيحية المختلفة في معظم المناسبات الدينية ، ويقوم بالزيارة الزملاء المسلمون جنباً إلى جنب مع إخوتهم المسيحيين ، ولعل المشاركة الأخيرة في عيد الغطاس قبل أيام قليلة خير دليل على ذلك ، حتى أن نصف عدد موظفي السـفارة هم مسيحيون ، وتضع السفارة في صدر صالتها الرئيسية صور وكتابات مقدسة مسيحية مثلما تضع آيات قرآنية ، فالتربية السورية علمتنا كيف نحب ونحترم الآخر .