غريبة النائحتين... الثكلى والمستأجرة

صلاح حميدة

[email protected]

كتب عن قافلة شريان الحياة(3) وعن مقتل الجندي المصري على حدود قطاع غزة ما لا يحصى من المقالات، ولا زالت الكثير من المقالات والمقابلات والوقفات والتصريحات تملأ الاعلام بكافة وسائله حتى الآن، بعضها يقف مع هذا الطرف، وبعضها يقف مع ذاك، وبعضها يلوم الطرفين، وبعضها وصل من الشطط حتى اتهم كل الشعب الفلسطيني بالخيانة والعمالة، وقادته باللصوصية والتّكسّب وغيرها من دمج الكذب بالحقيقة، وصياغة الأخبار بقالب سينمائي درامي، وأصبحت الرصاصتان اللتان أصابتا الجندي المصري في الظهر، رصاصة "قناص" واحدة في الجبين بقدرة عادل إمام؟!..

في ظل هذه الحرب الاعلامية التي تذكّر بالحرب الاعلامية الكروية  قبل فترة، لم يتطرق أحد للمقارنة بين سلوكين لطرفي الأزمة الحالية، فمنذ فترة ليست بالقليلة، يعاني الفلسطينيون من الاعتقال والاهانة وفرض الأتاوات على المسافرين عبر معبر رفح، والترحيل والحجز بلا تهمة، وقتل بالغاز في الأنفاق للعشرات من العاملين فيها، وحتى التعذيب حتى الموت من قبل الأمن المصري لمعتقلين فلسطينيين، وتقريباً تصلح أغلب الحالات لعمل درامي تلفزيوني أو وثائقي.

لم نسمع عن الكثير من الحالات السابقة في الاعلام الفلسطيني، مع أنها مست أطياف اجتماعية وسياسية مختلفة، ولكن أكثر حالة من تلك  الحالات ظهرت للعيان، هي حالة قتل شقيق القيادي الفلسطيني سامي أبو زهري في السجن المصري، ومما ذكر حينها من قبل العديد من الأطراف - مصرية وفلسطينية - وتقارير تشريح جثة القتيل، تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن الرجل قتل تحت التعذيب، وتم رفض علاجه حتى مات، وترك أياماً وهو ميّت في زنزانته، حتى تأكد الراغبون بمعاقبة من يمثلهم أخيه - لمواقفهم السياسية- أن هذا الشخص مات وشبع موتاً.

الطرف السياسي الغزي - الذي قتل الرجل  كرسالة له- إختار أن يتعامل مع الموضوع بضبط نفس كبير، وترك لعائلة القتيل أن تتابع الموضوع عبر المؤسسات الحقوقية والوسائل الاعلامية، وخلصت المواقف إلى طلب لجنة تحقيق تصل إلى الجناة وتعاقبهم، وخصصت الاتهام، ولم تعممه، وكظم الغزّيون غيظهم لمقتل هذا الرجل وغيره، ولم نسمع لا حرباً إعلامية ولا أخرى سياسية على من تسببوا بقتل الرجل، مع أن الأطراف التي قتلته معروفة، والرسالة التي أرادت إيصالها من عملية القتل واضحة لا لبس فيها.

الغريب في الأمر أن (النائحة الثكلى) التي فجعت بولدها، وبالعديد من أولادها الذين يقتلون يومياً بالغاز المصري في أنفاق رفح، اختارت العض على الجراح، ولم تشأ أن تدخل في لعبة كسر العظم والتصعيد الميداني والاعلامي مع طرف تعلم أنه مستعد لتخطي كل الخطوط في التعامل معها، فاختارت تغليب ما اعتبرت أنه المصلحة العامة على المصالح الشخصية والحزبية، حتى ولو كانت ممهورة بدماء الأعزّاء، واستغرب الكثيرون من كتم ( النائحة الثكلى) غضبها وألمها، في ظل وقاحة المجرمين الذين فجعوها بأعزّائها!.

لا يستطيع أحد أن ينكر على عائلة الجندي المصري الذي قتل في أحداث الحدود آلامها وأحزانها، ولكن من الواضح أن آلام عائلة القتيل لم تكن المحرك الرئيس للحملة التي تشن  على الفلسطينيين، بلا تخصيص في بعض وسائل الاعلام المصرية - قال الطبيب الشرعي أنه قتل برصاصتين في الظهر ولم يقتل من الجهة التي يوجّه وجهه لها وهي قطاع غزة - ومن الواضح أن هناك من سعى ويسعى  للعب دور( النائحة المستأجرة) وجدير بالذكر أن (النائحة المستأجرة) وظيفة معروفة في القطر المصري، والكثير من النساء يمتهنّها، ومن الواضح أن الاعلام الرسمي وبعض الممثلين وغيرهم من السياسيين امتهنوا هذه الوظيفة لغايات سياسية وغير سياسية، ولولا الحالة السياسية الراهنة، ومتطلبات المرحلة، لما عرف أحد بإسم هذا الجندي القتيل، ولدفن في ظلمة الليل كما دفن الكثيرون غيره بلا نياح، لاعتبارات سياسية ومصلحية أيضاً.

(دموع العواهر نواهر) هكذا يقول المثل الشعبي  الفلسطيني، والمتابع للاعلام المصري خلال الفترة الحالية لا يجد حرجاً في مطابقة المثل الفلسطيني السابق، مع الحالة  التي تنتاب الاعلام الرسمي المصري  هذه الأيام، حالة من العهر الاعلامي والسياسي والفنّي لم يسبق لها مثيل إلا في حالة المعركة الكروية مع الجزائر، ولكن لا بد من التذكير أن التجنّد الحالي لم يستطع أن يجنّد الرأي العام المصري بكافة أطيافه ضد الحالة الفلسطينية، وبالرغم من تحلل منظمي هذه الهجمة من كافة الضوابط الأخلاقية، ودخولهم باب الردح الرخيص من كافة المنابر النخبوية المصرية التي تتحكم بالقرار السياسي هناك، إلا أنها فشلت، وستفشل في الوصول إلى مرادها، وستنقلب على عقبيها.

الغرابة هنا، تكمن في الفرق بين تعامل (النائحة الثكلى) وكظمها لألمها، من أجل ترميم الحالة السياسية العامة، وحشدها لصالح القضية الأشمل والهدف الأسما، وبين ( النائحة المستأجرة) التي سعت وتسعى لتخطي كافة الخطوط، خدمة للحالة السياسية المبتغاة، وهي الابتزاز السياسي والضغط الغير مسبوق، أملاً بتحقيق الهدف النهائي، بكسر الارادة للطرف المستهدف من الحملة الحالية، وإجباره على الرضوخ للإملاآت الأمريكية والاسرائيلية.

وبالرغم من أن هناك من قد يلوم (النائحة الثكلى) لخفوت صوتها، أو لصمتها، ويغضب على (النّائحة المستأجرة) لفجورها، إلا أن هذه السياسة تعد الأفضل في الوقت الحالي، فيما يعتبر إطلاق العنان للغرائزية والثأرية والانتقام من المضرّات المذمومة، فبعد أن تهدأ عاصفة العواهر ضد( النائحة الثكلى) ويتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود،  ستنجلي الحقيقة المغيّبة قصراً، ولن تنجح عواصف الغبار المستأجرة في تغييب الثابت الحقيقي في قلوب وعقول الشعب المصري، الذي ينبض قلبه بحب فلسطين والفلسطينيين.