محنة العطش .. ونظرية المؤامرة !

محنة العطش .. ونظرية المؤامرة !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

تبيع الحكومة المصرية كل شئ فى مصر إرضاء للسادة اصحاب صندوق النقد الدولى ، وتشجيعاً للسادة رجال القروض الذين يقومون بعمل مشروعات هامشية وثانوية وغير مفيدة للشعب ، ثم يهربون إلى الخارج بمعظم ما أخذوه ونهبوه .. أو يهيمنون على المشروعات الأساسية والأولية التي يحتاجها الناس ، فيحتكرونها ، ويبيعونها بأسعار فوق طاقة العامة ، ويحصدون من ورائها أرباحاً فاحشة حراماً تذهب مع غيرها إلى بنوك الغرب الاستعمارى معبود السلطة وسيّدها المقدس !

الشىء الذى لم يبيعوه حتى الآن هو ماء النيل الذى لوّثه رجال القروض وصبيانهم ، ولكنهم أعلنوا مؤخراً عن بيعه للشرب والرى باسم حق الانتفاع ؛ من خلال أسعار لا يعلم إلا الله إلى أى مدى ستصل ، أما الشىء الثانى الذى لم يبيعوه حتى الآن فهو أبواق الدعاية ( صحافة ، إذاعة ، تلفزة ، هيئة استعلامات ، وزارة ثقافة ، أحزاب بير سلم ... إلخ ) . وأعتقد أن هذه الأبواق مع ما تستنزفه من مليارات الشعب المقهور ، لن تُباع ولن تمسسها يد بسوء ، حتى لو كانت خاسرة بالثلث ، ويقبض رؤساؤها ملايين الجنيهات شهرياً ، فهم على كل حال يُدافعون عن النظام البوليسى الفاشى ، ولو كان دفاعاً متهافتاً ، من عينة : طشّة الملوخية ، ولحم البعرور ، وتبولة لبنان ، فضلاً عن أزهى عصور الديمقراطية !

محنة العطش التى ظهرت معالمها وأعراضها مؤخراً بعد قيام " أهل البرلس " بقطع الطريق الدولى واحتجاز المسافرين قرابة نصف يوم ، ونقلت أجهزة الإعلام العالمية صراع الجراكن والجرادل والصفائح بحثاً عن مياه الشرب ، بدلاً من مياه المصارف والمجارى والمستنقعات الآسنة !لم تحرك نخوة المتسلطين على البلاد والعباد كي يجدوا حلا كريما لمواطنيهم المفترضين ، أو رعاياهم المفروضين .. وللأسف  كان تفسير بعض المسئولين للماساة التى أدمت قلوب الشعب كله بأن محنة العطش مجرد  " مؤامرة " !

أية مؤامرة يامن تخرّجت من مصانع المؤامرات والتلفيقات وأجهزة التصنت والتلصص على عباد الله الذين يرفضون الاستبداد والفساد والقهر والكبت ومصادرة الحريات وكرامة الإنسان المصرى ؟

أية مؤامرة يا خبير المؤامرات ؟ ولماذا سمحت لهذه المؤامرة أن تحدث وتدفع آلاف البشر إلى قطع الطريق الدولى ، ليشربوا قدحاً من الماء النظيف مثل بقية خلق الله فى الصحراوات التى لا يوجد بها نيل ولا أمطار ولا آبار ؟

إن خبير المؤامرات الذى كان منوطا به – لإثبات ولائه وإخلاصه – تقديم القضايا الملفقة التى يتهم أفرادها بالتهمة التقليدية " قلب نظام الدولة " .. عن طريق  مجموعة أو مجموعات من الشباب البسيط لا يملكون حيلة ولا يهتدون سبيلا ، اللهم إلا الاحتجاج والغضب ، والاعتصام بالدين الحنيف في قلب العواصف التي يصنعها الاستبداد والقهر . عل يمكن لمثل هؤلاء أن يقلبوا نظاماً مدجّجاً بمئات الألوف من أفراد الدفاع والأمن وأحدث أجهزة القمع والسيطرة ؟

والسؤال هو : ماذا يقصد المتآمرون بتعطيش الناس فى محافظة خبير المؤامرات ، أو فى بقية أرجاء مصر ؟ وما طبيعة هذا التعطيش ؟ هل شربوا الماء النظيف وخزّنوه فى بطونهم وأمعائهم حتى لا يجرى ولا يتحرك فى شبكة المياه المتهالكة ومواسيرها التالفة وأحواضها الفاسدة ؟

لا أدرى كيف يخزن المتآمرون المياه النظيفة ويمنعونها عن الناس فى ظل " خبرة  أمنية طويلة يتمتع بها خبير المؤامرات العريق ، الذى يعرف دبّة النملة فى محافظته وخارجها ، عن طريق عيونه المادية والبشرية ؟

من المؤكد أن خبير المؤامرات – إذا كان أمر المؤامرة صحيحا - لم يصرح بكل مالديه عن المؤامرات التى تسبّبت فى محنة العطش التى سارت بذكرها الركبان .. وواضح أن لديه أسراراً لا نعرفها وأعتقد أن من حق الشعب أن يعرفها ، فربما تكون متعلقة بالأمن القومى، أو يكون هناك تدخل من دول أجنبية معادية لقتل الشعب المصرى وسحقه عطشاً ، بدلا من استخدام القنابل النووية أو الكيماوية أو العنقودية أو الفوسفورية أو الذكية  !

لاشك أن خبير المؤامرات كان يطمح إلى منصب وزارى رشحته له التكهنات الصحفية عند التعديلات الوزارية السابقة ، ولكنه لم يصبه الدور .. فهل هذا هو سبب إصراره على وجود مؤامرة وراء تعطيش الأهالى فى محافظته ؟

إن السلطة البوليسية الفاشية التى تهدر أموال الشعب البائس فى الإنفاق على الأبواق المأجورة ، والترويج لحملات منع ختان الإناث ومؤتمرات المرأة التى يوحى بها الغرب الصليبى الاستعمارى ، وإقراض رجال النصب والنهب والفساد والإفساد .. تستطيع أن تطهّر النيل من التلوث الذى يصنعه  الفاسدون المفسدون ، وتستطيع أن تغير شبكات المياه المتهالكة والمواسير التالفة والأحواض غير الصالحة .. وتستطيع أن تترفق فى ثمن الفواتير التى يدفعها المواطن المقهور ، ويستمتع بعائدها  ؛ أساطين الفساد فى شركات المياه ، ممن يحتمون بالحيتان الكبيرة ، لدرجة أن أي رئيس شركة مياه في إحدى المحافظات يقبض آخر كل شهر – كما يُقال – ربع مليون جنيه ، بل إن العامل العادى فى أى شركة مياه ، صار مرتبه وحوافزه ، يفوق مرتب أستاذ الجامعة الذى يُنفق على مظهره وبحوثه وأسرته ! بل إن مكافأة نهاية الخدمة لهذا العامل تفوق مكافأة أى أستاذ جامعى قضى سنوات عمره فى البحث والدرس ، حتى ضاع بصره بين الأوراق والمخطوطات والمعامل وشبكة المعلومات ( الإنترنت ) !

الدولة التى تهتم بمواطنيها فعلا – وليس قولا أودعاية – تستطيع أن تفعل الكثير حين ترى أن وفاة طفلة اسمها بدور بسب جرعة بنج زائدة  أثناء عملية ختان ، أمراً ثانوياً وهامشياً ، بجوار موت الآلاف يوميا بسبب المياه الملوثة المخلوطة بمياه الصرف ، أو العطش الذى يُهلك الزرع والنسل ، ويجعل " الجركن " عنوان المرحلة ، أقصد : أزهى عصور الديمقراطية !

واضح أن العالم  كله باستثناء " زيمبابوى " ينطلق إلى الأمام . أما مصر الغالية ، فقدرها أن تبقى فى غرفة الإنعاش ، لا تموت ولا تحيا . تظلّ معلّقة برقاب الفاسدين المفسدين ، ينهبونها بلا هوادة ، ويستذلونها بلا رحمة ، ولا يترددون فى استخدام كل ماهو معاد للإنسانية والكرامة والأخلاق والعقائد ضد وجودها ومستقبلها .. وويل لمن يجأر بالشكوى أو يُعبّر عن الغضب ، طالما كانت هذه الشكوى أو ذلك الغضب مؤثراً على " الطبقة المقدسة " التى تسيّر البلاد وفق هواها وإرادتها ومشيئتها ..

وبعدئذ فعلى كل من يعترض ، أن يواجه بأنه متآمر أو شريك فى المؤامرة ، وأنه عميل للقاعدة وبن لادن والقمصان الحمر والزرق والتوربينى في طنطا ، ومنظمات الإرهاب الدولية بدءًا من اليابان حتى الولايات المتحدة ... يستوى فى ذلك المطالبة بالحرية والمطالبة بكوب الماء النظيف .وإنا لله وإنا إليه راجعون !