ولكن لماذا أجَّلت إسرائيل اقتحام غزة؟!

ولكن لماذا أجَّلت إسرائيل اقتحام غزة؟!

أ. د. سليمان صالح

انشغلت طوال الأسبوع الماضي بمتابعة الصحف الإسرائيلية في محاولة لاكتشاف رد الفعل الإسرائيلي على سيطرة حماس على غزة.

ولقد توالت تهديدات القادة الإسرائيليين باجتياح غزة، ووضع وزير الدفاع الإسرائيلي بالفعل خطة باستخدام 20 ألف جندي إسرائيلي لإعادة احتلال غزة لكن إسرائيل بدأت تتراجع خلال الأيام الأخيرة.. لماذا؟!

تفسير ذلك التراجع يحتاج إلى قراءة صحيحة للواقع الجديد الذي تشكل بفعل الحدث المفاجئ وغير المتوقع، والذي أربك كل الحسابات والمخططات التي شاركت في صياغتها إسرائيل وأمريكا وفتح وبعض أجهزة المخابرات العربية.

على أنقاض الخطة القديمة

كانت المؤامرة التي تمت صياغتها تقوم على أن الأجهزة الأمنية التابعة للرئاسة الفلسطينية ومليشيا دحلان تقوم بالسيطرة على غزة، وضرب حركة حماس، واغتيال قادتها.

وعقب ذلك يقوم عباس بإعلان حالة الطوارئ، واقالة حكومة هنية، وتشكيل حكومة جديدة والدعوة لانتخابات جديدة في سبتمبر القادم.

وحركة فتح والأجهزة الأمنية لم تلتزم بأية اتفاقات تم التوصل إليها مع حماس، وعلى رأسها اتفاق مكة، وكانت تصر على تدمير حركة حماس، واستئصالها من الواقع الفلسطيني، وذلك بعد أن حصلت على الكثير من الأسلحة الأمريكية والإسرائيلية الحديثة، والتدريب العالي لكوادرها لكن الذين وضعوا تلك الخطة نسوا قوة الله وقدرته.. واعتمدوا على قوتهم وقدرتهم، وأراد الله أن تنكشف الخطة، وأن تعرفها حماس في الوقت المناسب.. وأن تتحرك بسرعة، وبالاستعانة بقوة الله سبحانه وتعالى، وفي الوقت نفسه كان تأييد الشعب الفلسطيني لحماس واضحاً وعاملاً مهماً في حسم الصراع، ذلك أن هذا الشعب صلب الإرادة علمته سنوات الكفاح الطويلة ان حرية الوطن واستقلاله أغلى من الحياة.

ازدادت حماس قوة

لقد أوضحت الأحداث أن حماس قد ازدادت قوة خلال العام الماضي برغم الحصار والتجويع اللذين تعرض لهما شعب فلسطين، واللذين شارك فيهما كل اعداء الحرية والديمقراطية وحقوق الشعوب.

لقد أوضح الحدث الأخير في قطاع غزة أن شعب فلسطين لا يمكن ان يبيع قضيته بالخبز والماء والكهرباء والماء ولذلك تحركت كوادر حماس بين الناس الذين كانوا يساندونهم ويوفرون لهم الحماية الشعبية، ولذلك فإن شعب فلسطين هو الذي انتصر في غزة، وهو الذي أسقط مؤامرة الطغاة.

لقد أوضحت الأحداث في غزة قدرة الشعب الفلسطيني على التحدي وحماية خياره الديمقراطي والالتفاف حول حركة المقاومة الإسلامية التي تتمتع بالشرعية كحركة كفاح وطني تعمل لتحقيق استقلال الوطن، وتحرير الأرض، وطرد الاحتلال، كما تتمتع بالشرعية كحركة ديمقراطية تحظى بالرضا العام من الشعب الفلسطيني، وتتمتع بتفويض من هذا الشعب، حصلت عليه في انتخابات حرة.

ولذلك استقوت حماس بإرادة شعبها، وبإصراره على اقامة دولته وتحرير أرضه، وبصموده البطولي في وجه الحصار، في حين استقوت الرئاسة الفلسطينية بإسرائيل وأمريكا وأجهزة المخابرات العربية التي تريد إفشال حكومة حماس.

ليفنى تكشف الخطة

وليفني نائبة رئيس الوزراء ووزيرة الخارجية الإسرائيلية كشفت بعض ملامح الخطة في مقال لها بجريدة الجيروزاليم بوست، حيث قالت ان هناك اتفاقاً بين عباس وأولمرت على إجراءات طويلة المدى لمواجهة المتطرفين ورفض أية حلول وسط معهم، وعدم التسامح معهم في مقابل تقديم الدعم الكامل لمن يلتزمون بالتعايش مع إسرائيل.

ولعل ذلك يكشف لماذا كانت الأجهزة الأمنية التابعة للرئاسة الفلسطينية ومليشيا دحلان ترفض الهدنة، وتقوم بخرق أية اتفاقات يتم التوصل لها للتهدئة مع حماس.

الاتفاق كان يقوم على استئصال من تطلق عليهم ليفنى المتطرفين، وهو مصطلح أصبح يستخدم لوصف حركات التحرر الوطني التي ترفض السيطرة الأمريكية والإسرائيلية، أما الذين يلتزمون بالتعايش فإن أمريكا وإسرائيل وأوروبا تقدم لهم كل الدعم المالي والعسكري، لكن ما هي صيغة التعايش المطلوبة.

من خلال تحليل مضمون الصحف الإسرائيلية خلال الأسبوع الماضي يمكن ان نكتشف أنه ليست هناك أية اقتراحات جادة لتحقيق هذا التعايش أو التوصل إلى سلام.. وكل ما يمكن أن يقوم عليه هذا التعايش هو بقاء الحال على ما هو عليه دون تقديم أية تنازلات من جانب إسرائيل سوى تخفيف الاجراءات على المعابر بغرض تقوية عباس، وتقديم الأموال للرئاسة الفلسطينية وهذا يعني ان الذين يلتزمون بالتعايش طبقاً لهذه الصيغة قد ارتضوا بالتخلي عن قضية فلسطين وجلاء الاحتلال وإقامة الدولة وتحرير القدس وحق العودة.

وفي الوقت نفسه عادت إسرائيل للحديث مرة أخرى عن المبادرة العربية باعتبارها الطريق إلى وجود آمن لإسرائيل داخل المنطقة، وتطبيع عربي كامل للعلاقات معها، ولكن دون حدوث تقدم حقيقي في مجال الانسحاب من الأراضي التي احتلتها اسرائيل عام 1967.

وهذا يعني ان المعتدلين الذين يلتزمون بالتعايش عليهم ان يقنعوا بالواقع، وأن ينسوا القدس وان يطبعوا العلاقات مع اسرائيل.

تأييد كامل!

عقب قيام عباس بإعلان قراراته الثلاثة وتشكيل حكومة الطوارئ، أعلن بوش وأولمرت تأييدهما الكامل لعباس، وأعلنت واشنطن انها ستقوم بتدريب وتسليح القوات التابعة لعباس، وان اسرائيل سوف تعطي لفتح 700 مليون دولار، وهذا ما قالته نصا جريدة الجيروزاليم بوست.

وأضافت الجريدة ان الأوروبيين وبقية المجتمع الدولي سوف يعطون لحركة فتح العلمانية المزيد من الدعم والأسلحة والحب!! وقد كتبت كارولين جليك في جريدة الجيروزاليم بوست تقول إن بوش وأولمرت يعتقدان أن دعم عباس ماليا وعسكريا وسياسيا سوف يشكل فلسطين بديلة لحركة حماس الجهادية، وانه عندما يرى الفلسطينيون في غزة ما يتمتع به اخوانهم في الضفة تحت حكم فتح فإنهم سيقومون بقلب حكومة حماس.

.. والمكافآت تتوالى

كما نشرت جريدة الجيروزاليم بوست أيضا ان اسرائيل سوف تطلق سراح مروان البرغوثي، كما قال جدعون عيزرا ان اسرائيل سوف تطلق سراح الفلسطينيين الذين ينضمون إلى المعسكر المعتدل، وذلك لدعم السلطة الفلسطينية التي يقودها عباس، وأضاف عيزرا ان اسرائيل سوف تسمح بمرور الفلسطينيين الذين يغادرون غزة إلى الضفة الغربية.

وكانت اسرائيل تعارض اطلاق سراح مروان البرغوثي ضمن صفقة لتبادل الأسرى مع حكومة حماس التي أصرت على اطلاق سراح البرغوثي، وأدى ذلك الى إفشال صفقة تبادل الأسرى، في مقابل ذلك اعلن عزام الأحمد ان قيادة حركة فتح قد قررت قطع كل الاتصالات مع حماس، وان اللجنة المركزية لفتح قد قررت وقف أي اجتماعات أو حوار مع فتح، ومنع أية علاقات معها على أي مستوى.

في ضوء ذلك يمكن ان نفهم رفض دعوات الحوار بين فتح وحماس، وان الرئاسة الفلسطينية قد حسمت خيارها، وارتضت ان تشكل البديل الذي يرتضي بالتعايش مع إسرائيل، ويقنع بالوضع الراهن في مقابل المال والسلاح والحماية والسلطة.

لماذا تراجعت إسرائيل؟!

ولكن ذلك لا يكفي لتفسير تراجع اسرائيل عن إعادة احتلال غزة، وتدمير حماس كما هددت، من المؤكد أن اسرائيل قد استجابت للخطة الأمريكية التي تقوم على تقوية ما تطلق عليه المعسكر المعتدل الذي يلتزم بالتعايش، وتشكيل فلسطين البديلة، وان تلك الخطة يجري تنفيذها بسرعة، ويشترك فيها الجميع.

لكن هناك ايضا عوامل أخرى ادت الى تأجيل القرار الاسرائيلي باجتياح غزة وإعادة احتلالها، من أهمها ان اسرائيل تدرك ان حماس قد أصبحت أكثر قوة، وان اسرائيل يمكن ان تتعرض لهزيمة لا تقل خطورة عن هزيمتها في لبنان خلال الصيف الماضي، التي مازالت تشكل خطرا على مستقبل الحكومة الاسرائيلية.

يضاف الى ذلك ان اسرائيل تدرك ان تأييد الشعب الفلسطيني لحماس يتزايد حتى في الضفة الغربية وان اجتياح اسرائيل لغزة سيؤدي الى زيادة غضب الشعب الفلسطيني وسخطه على الرئاسة الفلسطينية ومعسكر الاعتدال كما تسميه، وهذا سيؤدي الى سقوط هذا المعسكر خاصة في ظل ظهور معلومات حول وجود انشقاق داخل حركة فتح، وامكانية ان ينضم الكثير من شرفاء فتح لحماس في مواجهة العدوان الاسرائيلي، يضاف الى ذلك ان اعادة احتلال غزة سوف يزيد غضب الشعوب العربية وهذا سيهدد مستقبل النظم العربية التي توصف بالاعتدال والالتزام بالتعايش السلمي.

العامل الأهم في ذلك هو ان اسرائيل اصبحت تخاف من حماس التي تمتلك ابطالا يمكن أن يقاتلوا بشجاعة، ويضحوا بأنفسهم في مواجهة أي عدوان اسرائيلي، كما أن حماس تمتلك الشرعية الديمقراطية والوطنية لقيادة شعب فلسطين لانتزاع حريته واستقلاله وحقه في العودة لوطنه.