غزة ومخاض ميلاد العزة

د.مصطفى يوسف اللداوي

د.مصطفى يوسف اللداوي *

[email protected]

قبل اثنين وعشرين عاماً، وفي الساعات الأولى ليوم الأحد الثالث عشر من ديسمبر عام 1987، كانت شوارع قطاع غزة تلتهب ناراً، وقد أحالت الإطارات المشتعلة في كل شوارع القطاع ليله إلى نهار، بينما كان شباب غزة يجوبون الشوارع والطرقات، يحملون في أيديهم الحجارة، وقد وضعوا الكوفية على وجوههم، أو الطاقية على رؤوسهم ليتقوا به برد شهر ديسمبر في غزة، وكانوا يتعقبون جنود الاحتلال الإسرائيلي، الذين أصيبوا بالصدمة لهول ما يرون، إذ لم يعتادوا يوماً على أهل غزة وقد خرجوا جميعاً عن بكرة أبيهم، كلهم يحمل العزم والبأس الشديد لمواجهة جنود الاحتلال، وقد ألهب استشهاد خالد أبو طاقية في مخيم جباليا، ومن بعده حاتم السيسي مشاعر أبناء غزة، فخرجوا كالأسود البواسل، يزأرون وأييدهم تنتفض بما يحملون من حجارة، يلاحقون جنود الصهاينة في كل مكان، يومها لم يكونوا شباباً فقط، بل كانوا شيباً وشباباً، نساءاً ورجالاً، صبيةً وأطفالاً، الكل قد عزم على خوض المواجهة، وتحدي صلف العدو وآلته العسكرية، ورغم أن غزة لم تكن يومها تفتقر إلى الحجارة التي تملأ شوارعها، ولكن نساء غزة كن يهدمن بأيديهن جدار بيوتهن ليجمعن للشباب ذخيرة المواجهة، وكان الرجال يضعون ما تجمعه النساء على عربات الخضار وينقلونه إلى كل مكان، ليزودوا به السواعد الرامية، وكان الجنود الإسرائيليون ينظرون بخوف إلى الجموع البشرية القابضة على سلاحها وتتقدم، وتسمع إلى أصوات الزاحفين وهي تزأر، وكان صدى الفلسطينيين يتردد في كل مكان، ويسمع في كل الأرجاء، فتردد رفح صيحات غزة، وتخرج خانيونس لنصرة جباليا، وتتهيأ النصيرات لتلحق بالشاطئ، وتتأهب المغازي كما البريج، فقد كانت خيوط ثورةٍ جديدة تنسج، وبدايات مرحلةٍ جديدة تكتب، وجيل جديد من المقاتلين يخلق، جيلٌ آخر ولد بعد النكسة، ولكنه يحمل عزم الانتصار، وإرادة التحدي، ولا يعرف الخوف إلى قلوبهم سبيلاً، رغم أنهم قد عاشوا زمناً في ظل الاحتلال وبين جنوده، الذين كانوا يتعمدون الجلوس والحديث معهم وهم ببزتهم العسكرية، وكثيراً ما كانوا يوزعون عليهم الحلوى والسكاكر، علهم ينسون المقاومة، وينسون أن لهم وطناً هو تحت الاحتلال، وعلهم يقضون على حالة العداء التي تنمو مع كل طفلٍ لجنود الاحتلال الإسرائيلي، وكان أرئيل شارون الذي كان الحاكم العسكري لقطاع غزة في سني السبعينيات من القرن الماضي، وبعد أن هدم بيوت القطاع، وجرف مخيمات غزة، قد بنى لأطفال غزة ملاعب ورياض أطفالٍ ومنتزهات علهم ينسون، ولكن هؤلاء الأطفال كانوا هم أبطال ديسمبر عام 1987، وهم الذين عقدوا لواء النصر، وعزموا على طرد الاحتلال، فكانوا في الوغى أسوداً، وفي المواجهة رجالاً، ورسموا للعالمين جميعاً صورةً لفلسطين وأهلها ناصعة، بها يعتز الفلسطينيون ويفخرون، وبها يتشرف العرب والمسلمون .

في ليلة الإثنين الثالث عشر من ديسمبر عام 1987 كانت غزة تنسج ثوب العزة، وتعد أعلام النصر، وكان الشهداء يتهيأون للحاق بركب الأنبياء والصديقين، وكان شباب غزة يخرجون من بيوتهم متوضئين أو مستحمين، وقد عقدوا العزم على المقاومة، وبيتوا نية الشهادة، فودعوا أمهاتهم، وقبلوا أطفالهم، فقد لا يعودون إلى بيوتهم من جديد، كانت روحٌ جديدة في غزة تسري في مثل هذه الأيام، روح وثابة لم يكن يعرفها العدو من قبل، ولم يكن قد تهيأ لها، فجلب إلى غزة مئات المختصين من علماء النفس وأساتذة علم الاجتماع، ليدرسوا الحالة الجديدة التي دخلتها غزة، وكيف يمكن لحكومة إسرائيل أن تواجه هذه الأزمة المتصاعدة، فهم أمام جيلٍ آخر، جيل لا يعرف الخوف، ولا يعتد بتوازنات المعركة، ولا يكثرت بعدم تكافؤ الأطراف، ولا يعترف بمعادلة توازن القوى، بل يقدم بكل شجاعة، ويواجه بكل جسارة، ويتحدى واقفاً، ويقاتل مواجهاً، عجزت إسرائيل، وعجز شيخها شيمعون بيرس أن يحدد مسار الأحداث في غزة إلى أين .

في هذه الليلة جابت بعد منتصف الليل عشرات الحافلات الإسرائيلية، مع مئات الجنود الإسرائيليين شوارع مدينة ومخيمات غزة، وبدأ ضباط الاستخبارات الإسرائيلية يجمعون النشطاء الذين عهدوهم في غزة، علهم يتمكنون من إطفاء الجذوة المشتعلة، واطفاء النار الملتهبة، فاعتقلوا في ساعاتٍ قليلة مئات الشبان الفلسطينيين من كل مخيمات القطاع، وزجوا بهم في معتقل أنصار "2" ، أو سجن الكتيبة الذي كان حينها عبارة عن أربعة غرف اسمنتية، ولكن إدارة المعتقل الذي كان يشرف عليه عليه الجنرال دافيد تسيمح، كانت قد نصبت خياماً عديدة في باحات الكتيبة لتستوعب الأعداد الكبيرة من المعتقلين، وظن ضباط الجيش الإسرائيلي أنهم قد وضعوا حداً للأحداث، وأن غزة بعد هذه الاعتقالات ستنام، وستهدأ ثورتها، وستخبو نارها، ولن تنتفض غضباً أو عنفواناً، ولكن صباح اليوم التالي كان مختلفاً عن سابقه من الأيام، إذ تمخض الليل عن قرارٍ كبير قد صنعه ثلةٌ من الرجال، بعضهم قد سبق، وبعضهم الآخر مازال على العهد، فأعلنوا عبر بيانٍ كان هو الأول، عن ميلاد حركةٍ جديدة، هي حركة المقاومة الإسلامية، وإن لم يكن اسمها في حينها حماس، ولكنها كانت هي إطار حركة المقاومة الإسلامية التي خطط وهيأ لها رجال سابقون، كانوا قد سهروا طويلاً على بناء جيلٍ فريدٍ من أبناء الحركة، الذين أصبحوا فيما بعد نجوماً سامية، تسبح في فضاء العالم، وتوصوص في دنيا الشهداء، وسماء الأبطال .

وكان صباحٌ آخر وعهد جديد، ومقاومةٌ أخرى لم يعهدها من قبل أحد، وبدأت الأحداث تنظم، والمسيرات تنسق، والمواجهات يعد لها، وبدأت شرارة المواجهات تنتقل بقوة من مخيمٍ إلى آخر، ومن مدينةٍ إلى أخرى، يذكيها ويزيد في أوراها المشتعل الشهداء الذين يرتقون بأرواحهم الطاهرة، وقصص البطولة والتحدي التي يرسمها أبطال الحجارة، فأغلقت المدارس، وتحولت حقائب تلاميذها إلى مستودعاتٍ للحجارة، وذخائر المواجهة، وأخذ عشرات آلاف العمال الفلسطينيين بالتحول إلى جيشٍ من المقاتلين الأشداء، وبدأت لغة جديدة يتداولها الشبان، المقاومة، الجهاد، الشهادة والاستشهاد، مفرداتٌ لم يكن يدرك أبعادها العدو، ولكنه اليوم أصبح في مواجهتها، وأدرك حجم القوة التي تختزن، ومقدار الإرادة التي تمتلك، فأدرك أنه أمام جيلٍ من المقاتلين مختلف، وإرادة تحدي مغايرة عما عرف، ووفد إلى قطاع غزة مئات الصحفيين والإعلاميين، وعشرات ضباط الاستخبارات المتخفين وراء مهنة الإعلام، وأخذوا يدخلون المساجد، التي أصبحت معاقل المقاتلين الجدد، وبدأوا في البحث عن المفردات الجديدة، والأثر الذي تركته في نفوس وإرادة الفلسطينيين، فكان الانطباع الذي خرجوا به جميعاً أن فلسطين اليوم ليست كما الأمس، وأنها باتت على أعتاب مرحلةٍ جديدة، عنوانها التحدي والإرادة الصلبة، وأن الفلسطينيين قد انتفضوا على جلاديهم، وقد رسخوا أقدامهم في الأرض، وأقسموا على الثبات مهما كان الثمن .

إنها ليلة الرابع عشر من ديسمبر عام 1987، ليلة ميلاد حركة المقاومة الإسلامية " حماس "، التي أصبحت بعد يومها الأول ملء سمع الدنيا وبصرها، ومحط أنظار العالم وآمال الفلسطينيين، إنها حماس ، الحركة الربانية ذات الحروف الخالدة، التي قيض الله لها رجلاً مقعداً، صنع من عجز جسده إرادة أمة جبارة، عرفت كيف تصنع لنفسها مكاناً تحت الشمس .

                

*كاتبٌ وباحثٌ فلسطيني