ضريبة أمينة رزق !
أ.د. حلمي محمد القاعود
لم أكن أعلم أن وزير ماليتنا – حماه الله – يملك كل هذا الحس الفكاهي ، وخفة الدم التي يقدم من خلالها قانون ترويع الشعب المصري ، وهو المسمى بقانون الضريبة العقارية ! كان الرجل الذي يدعي الحرص على موارد الدولة لتستطيع التخديم على مطالب الشعب المصري يحاول أن يثبت أن القانون إنساني إلى أقصى حد ، وأنه يراعي مشاعر الذين كانوا أغنياء ثم افتقروا كما جري لأحمد مظهر وصلاح ذو الفقار في أحد الأفلام حيث اشتري الأول كوز ذرة مشويا بنيشان حصل عليه والده الراحل .. ثم هناك المادة التي ناقشها أعضاء في مجلس الشعب في القانون وأطلقوا عليها مادة " أمينة رزق " تعاطفا مع الفقراء والمساكين وأبناء السبيل من الشعب البائس الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا !
اختار الوزير يوسف بطرس غالي أن يظهر على قناة خاصة بدلا من القنوات الحكومية الصريحة ليقول للناس إن قانون الترويع مطبق لا محالة ، وأن الشعب كله الذي يملك ثلاثين مليون منزلا ومسكنا ؛ لا بد أن يقدم الإقرار العقاري قبل آخر ديسمبر 2009م ، وإلا فالغرامة الفتاكة وقدرها ألفان من الجنيهات ستدفع على الفور من كل من تقاعس عن تسليم الإقرار قبل الموعد المذكور ولو كان متسولا يتكفف الناس ..
يقول الوزير الموقر إن الذين ستنطبق عليهم الضريبة عمليا من الشعب المصري حوالي خمسة بالمائة وهم الأغنياء أو الأثرياء الذين يملكون شققا وفللا ؛ يصل ثمن الواحدة نحو مليون جنيه ، أو يزيد عن نصف مليون .. حسنا ، فلماذا ترويع خمسة وتسعين بالمائة من الشعب المصري لتقديم الإقرارات وهم غير داخلين في سياق ضريبة الخالة أمينة رزق رحمها الله ؟ لماذا لم يذهب المختصون من أهل الضريبة مباشرة إلى أصحاب الشقق والفلل لتي سيدفع أصحابها ، أو يتوجب على أصحابها الدفع دون جرجرة بقية الشعب المتهالك إلى مأموريات الضرائب العقارية والدخول في معمعة الزحام والتعرض لقسوة الغرامة وإشغال ما لا يحصى عددا من موظفي الدولة في لجان تقدير أثمان العقارات التي يملكها ثلاثين مليون مواطن ؟
إن الدولة تعرف دبة النملة فيما يجري على أرض البلد التعيس ، فلماذا يتم تحريك الملايين لتقديم إقرارات لا داعي لها ؛ في ظل ظروف وصل فيها الضيق والغيظ والألم بالناس إلى حد الانفجار بسبب الغلاء والزحام وقسوة الحياة وكثرة المصروفات ومتطلبات الأبناء والمستشفيات والمدارس والمواصلات والملابس والغذاء ؟
لاشك أن الوزير المبجل يبحث عن زيادة الموارد لتقيم الدولة مشروعات الخدمة العامة للناس ، وهذا حق واضح لا جدال فيه ، ولكنه حق يراد به باطل ، والباطل هو إذلال الناس ، وتسويد حياتهم - أي تغطيتها بمزيد من السواد - فهم بعد أن فقدوا الحرية وتحولوا إلى عبيد في بلاط الحزب الحاكم ، ولا يملكون من أمرهم شيئا ، ولا يستطيعون المشاركة في تقرير مصيرهم أو مستقبلهم ، بل إنهم لا يعرفون ماذا سيحدث لهم غدا ، صاروا أسرى القوانين والقرارات العشوائية التي تخطر على بال الحكام والمسئولين لتغطية أوجه العجز أو التمويل التي يريدها هؤلاء القادة المحترمون .. دون أن ينظروا نظرة شاملة على الواقع الذي يعيشونه ، ويروا ما الذي يمكن أن يزيد الموارد ، أو ما الذي يقلل منها ؟
إن هؤلاء القادة يستسهلون عادة القرارات السلبية ، أو قل الفلسفة السلبية ، التي لا تحب العمل ولا التفكير ، ولا بذل الجهد .. إنها فلسفة القرارات النظرية العشوائية على المكاتب دون النزول إلى الشارع ورؤية ما فيه والتعامل معه كما ينبغي أو يجب .. الفلسفة السلبية تشبه فلسفة الولد البليد الذي يكتفي بمسح السبورة عسى أن ينشغل الأستاذ عن طلب الواجب منه ، أو يسمع صوت الجرس فتنتهي الحصة ، وبعدها ينسى الأستاذ المسألة برمتها ، وتبدأ حصة جديدة ليس فيها واجبات منزلية أو علمية !
تأمل مثلا معالم هذه الفلسفة ممثلة في النماذج الآتية علي سبيل المثال لا الحصر :
- تحديد النسل ورصد الميزانيات له وتعيين وزيرة وتخصيص وزارة بميزانية قدرها كذا ، ليقف نمو المصريين بدلا من استثمار الزيادة السكانية في الإنشاء والتعمير، وتقوية البلاد والعباد وزيادة الدخل القومي على مساحة فارغة تقدر بستة وتسعين بالمائة من أرض مصر العامرة . ( قارن ما يفعله اليهود الغزاة القتلة في فلسطين بما تفعله الحكومة المصرية !).
- اللجوء إلى الاستدانة من الدول الكبرى بفوائد مركبة ، والاستنامة للاستدانة وفركشة الديون فيما يفيد وما لا يفيد ، والتراخي في التسديد ، حتى صار المصري مدينا حتى بعد مماته .. فضلا عن الرضوخ لإرادة الدول الدائنة !
- الإنفاق السفيه على نشاطات لا تسمن ولا تغني من جوع ، لصالح فئات هامشية متسلقة ، مع المبالغة في نشاطات محدودة الأثر على جموع الشعب المصري ، وتأمل ما يتم إنفاقه على منظومة الدعاية التي يسمونها الإعلام ( عشرات القنوات التلفزيونية والموجات الإذاعية والصحف الخاسرة ) وهي فاشلة بكل المقاييس، ثم انظر ما ينفق على مباريات كرة القدم ، والمهرجانات أو المهارج الفنية والثقافية والدعائية والحزبية والمجالس القومية للمرأة والطفولة وتحريم الختان وتحديد النسل .. ثم هذا الإنفاق الضخم الذي لا تعرفه دولة أخرى في العالم على الأمن الداخلي .. والموظفين الذين يسمونهم مستشارين بعد المعاش دون أن يكون لهم أية ضرورة فنية أو عملية ....
- أما الفساد وما يستنزفه من أموال الدولة فقد تعب الناس من الحديث عنه ، وهو يعني عمليا تجريف الملايين التي يعتصرها الوزير يوسف بطرس غالى اعتصارا من دماء الفقراء والمساكين والموظفين الغلابة ؛ الذين صاروا مستحقين للزكاة وعلى رأسهم علماء مصر وأساتذة الجامعات الذين يحترمون أنفسهم ولا يصفقون للحكومة أو لا يمارسون أعمالا إضافية .. إن البقرات السمان التي أقعدتها السمنة عن الحركة ، واكتفت أن تقوم بدور كهنة آمون ، الذين يؤيدون الاستبداد والفرعنة والباطل ، ولا يتورعون عن التهام الحرام في بطونهم الواسعة ( .. وكله بالقانون !!! ) يجب ذبحها والتضحية بها في سبيل إنقاذ الاقتصاد المصري المهلهل ! ولكن السلطة لا تفعل !
- ثم تأمل تجريد الدولة أو الشعب من ممتلكاته فيما كان يسمى القطاع العام وبيع أصوله بأبخس الأسعار إلى مغامرين وانتهازيين – معظمهم أجنبي - يتناولونه وليمة رخيصة ، حصلوا عليها في ظل ظروف غامضة ومعتمة ، ثم يبيعونها بعدئذ بالملايين ، أو تقوم الدولة بدفع تعويضات باهظة لاسترداد بعضها الذي يدخل تحت بند الأمن القومي ، ولا يحاسب من أخطأوا أو عتموا أو تصرفوا بمنطق المصالح الخاصة .....
هذا فيض من غيض يتم من خلاله تبديد أموال الشعب البائس وفقا للفلسفة السلبية ، لحساب ألأنشطة الهامشية أو الفساد الذي يجاهر بنفسه ولم يعد يخشى رقيبا أو حسيبا ، لأنه هو الذي يصنع القانون وينفذه .. أما كان الأولى بالسيد وزير المالية أن يبحث عن هذه الموارد الضائعة بدلا من أن يشعل النار في فتيل القنبلة الموقوتة لانفجار الشعب المصري ، وهو الانفجار الذي لو وقع – لا قدر الله – سيأكل الأخضر واليابس ؟
إن قانون الخالة أمينة رزق ما كان ينبغي أن يصدر قبل معالجة الإنفاق السفيه ، والتجريف المالي الذي يتم وفقا للقانون أو خارج القانون ،ووقف دعم المليارديرات السمان بالطاقة والإعفاءات الضريبية .. وهذه المعالجة بالتأكيد ستوفر أضعاف الضريبة العقارية التي يطمح إليها الوزير المبجل يوسف بطرس غالي .. ويكفي أن والد السيد الوزير يعارض هذه الضريبة وموظفو مكتبه فضلا عن زملائه من الوزراء الفقراء - وليس الوزراء المليارديرات الذين على ثقة بأنهم لن يدفعوا مليما واحدا للدولة ، وإن كانوا يدفعون الألوف والملايين في الأفراح والليالي الملاح ..
سيدي الوزير : متى تخضع لمنطق الواقع ومواضعاته وخاصة في الأرياف ؟