"فتح" وسُنَّة الاستبدال

د.عصام محمد علي عدوان

"فتح" وسُنَّة الاستبدال

(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)

د.عصام محمد علي عدوان

[email protected]

المختص في تاريخ حركة فتح– أستاذ التاريخ المساعد - جامعة القدس المفتوحة

إن حركة التاريخ لا تتوقف، وهي حركة تطوي في طريقها أفراداً ومنظمات ودولاً وحضارات، والمُلاحظ أن التاريخ لم يتوقف قط عند دولة من الدول أو حركة من الحركات السياسية، كما لم يتوقف عند زعيم أو قائد فذّ. ومن منطلق رؤية تاريخية يمكن القول أن التاريخ الفلسطيني لن يتوقف عند حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) كما لم يتوقف عند الحركات التي سبقتها، كعصبة القسّام، وكتائب الجهاد المقدس، والهيئة العربية العليا، وحكومة عموم فلسطين، وغيرها، ولا الحركات التي ستليها. فكلما آن أجل حركةٍ ما، انبثقت حركة جديدة لتكمل المسيرة، ولتستمر عجلة التاريخ. وهو ما أشارت إليه الآية: ].. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ..[(آل عمران 140). وقد يطول أجل حركة أو دولة أو حضارة إذا تأسست على أسس عقائدية راسخة، حيث تشكّل هذه الأيديولوجية صمام أمان وعامل ثبات في طريقها، وهذا ما يفسر العمر المديد للحضارة الإسلامية، وللدولة العباسية والعثمانية، ولحركة الإخوان المسلمين مثلاً. وكلما تلاشت الأفكار، والعقائد، وحلّت محلها التكتيكات السياسية والحركية كلما كان الأجل أقصر، وأسرع في الاندثار. ومثل هذه القاعدة في التاريخ، توجد قاعدة أخرى تقوم على أن الأنفع للناس والأقدر على استخدام خيرات الأرض في نفع الناس والعدل فيما بينهم، تتوفر له ظروف الاستمرار لأطول مدة ممكنة، وهذا يعتمد على مدى تشبثه بالعقيدة وبنفع الناس وخدمتهم، فقد قال الله تعالى:] ..فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [ (الرعد 17).

ففي منتصف الأربعينيات أخذت حركة الإخوان المسلمين (التي تأسست عام 1928م) بالانتشار في الوسط الفلسطيني بعد أن حققت نجاحات باهرة في الساحات العربية المجاورة وعلى رأسها مصر، إلى الدرجة التي جعلت النظام المصري ترتعد فرائصه من هذه الحركة الناشئة على الساحة المصرية، لما لمسه من تطورات اجتماعية وإعلامية واقتصادية وسياسية حققتها على الساحة المصرية، وخصوصاً بعد مشاركتها الفريدة في حرب فلسطين عام 1948، حيث قام نظام الملك فاروق بحلّ الحركة والزج بقياداتها والكثير من عناصرها في غياهب السجون، وكذلك فعل نظام عبد الناصر، مما وضع العراقيل أمام هذه الحركة الأيديولوجية الهادفة إلى بعث الحياة الإسلامية من جديد وتحرير الأوطان الإسلامية من هيمنة المستعمِر الأجنبي. لقد كان الإخوان رجال تلك المرحلة لكن رسالتهم في الحياة لم تكتمل، بل توقفت مؤقتاً، لأن بُنْيَتهم تتيح لهم الاستمرار. وبينما هم يكابدون العراقيل والقيود أمام رسالتهم، تطَلَّع نفرٌ من شباب الإخوان المسلمين الفلسطينيين للانعتاق من هذه القيود والانطلاق للعمل من أجل فلسطين، متخففين من الطابع الأيديولوجي ومن الطابع الخدماتي والاجتماعي لحركة الإخوان المسلمين، فتأسست حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) عام 1958م.

لقد حصل مؤسسو فتح على بعض التدريب العسكري وهم داخل حركة الإخوان المسلمين، وتربوا فيها على الإخلاص لقضايا الأمة والعمل بتفاني من أجل رفعتها، وتربوا على حب الجهاد والاستشهاد في سبيل الله والأمة والوطن. واستطاعوا أن يشقوا طريقهم وسط المؤامرات العربية والدولية من أجل قضيتهم، وجاءت مبادئهم التي صاغوها في البدايات لتؤكد صدق الانتماء والعمل لفلسطين. فقد كان هدف فتح الأساسي كما أفصحت عنه في عام 1959م عبر بيانها الأول (بيان حركتنا، ص27) هو "تحرير فلسطين"، ووسيلتها "الثورة المسلحة في الجزء المغتصب من فلسطين [عام 1948م] لنسف هذا الاغتصاب"، وقد أكدت في أول مجلة أصدرتها (فلسطيننا، عدد 36، نيسان 1964، ص8)على وسيلتها الاستراتيجية في التحرير:"عدم قبول العسكرية الكلاسيكية منطلقاً في معركة التحرير بل إنها الثورة الفلسطينية المسلحة الطريق الحتمي الوحيد"، وقد نصت المادة (17) من النظام الداخلي لفتح:"الثورة الشعبية المسلحة هي الطريق الحتمي الوحيد لتحرير فلسطين"، كما اعتبرت المادة (6) من النظام الأساسي لفتح، وهي من المبادئ الأساسية لها: "المشاريع والاتفاقات والقرارات التي صدرت أو تصدر عن هيئة الأمم أو مجموعة من الدول أو أي دولة منفردة بشأن قضية فلسطين والتي تهدر حق الشعب الفلسطيني في وطنه باطلة ومرفوضة". فكانوا هم رجال تلك المرحلة.

لقد تدرجت فتح في التخلي عن مبادئها الأساسية، ففي عام 1968م تبنّت فكرة إقامة دولة ديمقراطية في كل فلسطين تقبل باليهود الموجودين فيها حتى آخر هجرة يهودية إليها!!(أنظر: الكتاب السنوي لحركة فتح لعام 1968، ص127-130؛ والمادة 6 من الميثاق الوطني الفلسطيني، والتي أدخلتها فتح إلى ميثاق منظمة التحرير) متخلية عن مبدئها في نسف الاغتصاب الصهيوني كما ورد في "بيان حركتنا". ثم قبلت بقيام دولة فلسطينية على 22% فقط من فلسطين ومعترفةً في الوقت ذاته بباقي فلسطين دولةً لليهود كما صرّح بذلك الرئيس الراحل ياسر عرفات (في كلمته في الاجتماع 58 للجنة حقوق الإنسان في جنيف في 26/3/2002م). وقد اعترفت بهيئة الأمم وبالقرارات الصادرة عنها، بعد أن قالت في بداياتها في مجلة فلسطيننا(العدد 2، ص13): "لا نعترف بالأمم المتحدة، ولا بالوجود اليهودي، ولا بالهدنة المفروضة"، وبعد أن رفضت قرارات الأمم المتحدة كما نصت المادة (6) من النظام الأساسي لفتح، وجدناها تقبل بقرار تقسيم فلسطين رقم (181) الصادر عام 1947م وتُعلن على أساسه إعلان استقلال فلسطين من الجزائر عام 1988م، ومقِرَّة لليهود بدولة في فلسطين وفقاً للقرار، واعتبرت أن قرار (194) القاضي بعودة وتعويض اللاجئين حجة في هذا الموضوع رغم صدوره عن الأمم المتحدة ورغم نصه على تدويل القدس، ولم تفتأ تطالب بتنفيذه رغم تعدّيه على القدس العربية بتقرير تدويلها، كما اعترفت بقرار (242) وجعلته مرجعا لعلمية السلام رغم أنها أكدت رفضه مرارا بدءا من بيانها برفضه الصادر في 10/12/1968م (أنظر:الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1968، (وثيقة رقم8)، ص1004). وأما الكفاح المسلح فقد تراجع كماً وكيفاً على مدار سنوات الكفاح إلى أن أعلن أبو عمار نبذه للإرهاب بكل أشكاله بما في ذلك تنفيذ عمليات ضد إسرائيل من خارج الأرض المحتلة، وذلك في عام 1985م، وفي رسالة الاعتراف المتبادل بين المنظمة وإسرائيل، ودعا الرئيس أبو مازن في خطابه في لقاء العقبة الذي تم في 4 يونيو 2003م إلى نبذ العنف في انتفاضة الأقصى. بل إنه لم يعد هدف المقاومة التي خاضتها فتح في انتفاضة الأقصى تدمير إسرائيل وإنما دفْعَها للتسليم بحق الفلسطينيين في دولة في أراضي عام 1967م وهو تراجع عن الأهداف الأولى للكفاح المسلح لفتح. وفي باريس في 2 أيار 1989، أعلن الرئيس عرفات أن الميثاق الوطني الفلسطيني أصبح "لاغيا".، وفي 14/12/1998 صادق أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني في غزة على إلغاء مواد الميثاق الوطني الفلسطيني التي تؤدي إلى القضاء على دولة إسرائيل وتعديل بعضها الآخر التزاما لاتفاق واي بلانتيشن بحيث انتفت الأسس التي قامت عليها منظمة التحرير) أنظر المواد على الموقع التالي: http://www.islamonline.net/Arabic/In_Depth/Palestine/articles/2005_01/article04.shtml )

إن مؤشرات كثيرة تقول أن فتح اليوم بعيدة عن أهداف ومبادئ ووسائل فتح الانطلاقة، كما لم تدَِّعِ فتح تبنيها فكراً محدداً تعمل على تطبيقه وتناضل لأجله مما قد يطيل أجلها أو يبرر استمرارها لتكمل رسالتها في الحياة، فضلاً عن الشوائب الاجتماعية والسلوكية والمالية التي شابتها عبر مسيرة نضالها الطويلة. وبالتالي ما جدوى استمرار فتح على هذا النحو من التفريط والتراجع؟؟!!. فقد قال خالد الحسن -أحد أهم قيادات فتح- في كتابه (قراءة نقدية لثلاث مبادرات، ط2، صفحة 45):" أن منظمة التحرير الفلسطينية لا تملك حق مجرد البحث في الاعتراف بدولة العدو الصهيوني من عدمه... وهذا يلغي حق المنظمة في دورها كممثل شرعي وحيد لشعب فلسطين، لأن من يفرِّط بجزء من وطنه يصبح غير مؤهل للمطالبة بالجزء الباقي.. وأن الاعتراف بإسرائيل يقفل الملف الفلسطيني عند "حد إقامة دولة فلسطينية على جزء من فلسطين وبالتالي الإلغاء المسبق لشرعية أي نضال بما فيه النضال السياسي لتوحيد فلسطين في دولة فلسطينية ديمقراطية واحدة ".

إن حركة فتح اليوم-ومع إقرارنا بنضالها الكبير- مدعوّة للإجابة على تساؤلات استراتيجية خطيرة: ماذا في جعبة فتح لتقدمه للقضية الفلسطينية؟ وهل ترى فتح أن من مصلحة القضية الاستمرار في سُلّم التنازلات؟ وإلى متى سيستمر هذا التراجع؟ ألا تخشى فتح من أن التغيرات الجذرية في أهدافها ومبادئها ووسائلها تضعنا أمام كيان آخر غير فتح الأولى التي انطلقت عام 1965م؟ أليس الجدير ببعض من ينتسبون إلى فتح اليوم ألا يُسيئوا إلى ماضي فتح المجيد فيبحثوا عن اسم آخر يعملون تحت رايته إن كانوا مصرِّين على استراتيجيتهم الحالية المختلفة عن فتح الانطلاقة كل الاختلاف؟؟

إن فتح اليوم، ومن منطلق الحرص على حركة قدمت الكثير إبان انطلاقتها، مدعُوَّة للعودة إلى المنطلقات التي تأسست عليها، وهذا سيجسر الفجوة ويُذيب الفروق بينها وبين العاملين بإخلاص في الفصائل الأخرى، وسيُصلح الخلل ويعيد إليها اعتبارها، وإن تقاعست عن إصلاح الخلل اليوم فستجد فتح ألا قيمة لبقاء اسمها دون المضمون الثوري الذي برّر تأسيسها.

لقد تكررت في التاريخ الفلسطيني تنقلات المخلصين والمناضلين الشرفاء بين الأحزاب والفصائل القائمة بحثاً عن المكان الأنسب للعمل لفلسطين، فقد انخرط عناصر عصبة القسّام في كتائب الجهاد المقدس، ثم عمل كلاهما في العمل الفدائي أوائل الخمسينيات، وبعض هؤلاء عاد ليعمل في حركة فتح. كما عمل عناصر الإخوان المسلمين تحت اسم فتح عندما قاموا بتأسيسها، ثم عملوا ضمن معسكرات فتح في شمال الأردن(معسكرات الشيوخ) بعد عام 1968. وكذلك عمل القوميون العرب تحت اسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. فمن يهمه أمر فلسطين لا يبقى مقيداً بفصيل بحيث يدور مع هذا الفصيل حيث دار، وإنما يبحث المناضل الشريف عن المكان الأنسب للعمل لفلسطين كلما وجد اعوجاجاً في الفصيل الذي انتمى إليه من قبل، أو وجد ظروفاً قيّدت عمله فلم يعد قادراً على نصرة القضية الفلسطينية بحق.

إن كل حركة فلسطينية نشأت لتحرير فلسطين وطرْد المحتلين ثم تراجعت عن مبررات تأسيسها تكون فاقدة لمبرر وجودها، ويصبح وجودها عبئاً على الوحدة الوطنية وعلى القضية الفلسطينية، ولا محالة سيطويها التاريخ كما طوى كل مَن قَبْلَها، وهذا نذير أيضاً لحركات المقاومة التي ظهرت على الساحة الفلسطينية ترفع لواء مقاومة الاحتلال حتى تحرير فلسطين؛ كحركة حماس التي استأنفت نضال الإخوان المسلمين الذي عطّله النظام المصري طيلة فترة إدارته لقطاع غزة (1948-1967م)، وحركة الجهاد الإسلامي، وغيرها، فهي حركات مرشحة أيضاً للاستبدال بالقدْر الذي تتخلى فيه عن مبادئها ومنطلقاتها، لأن القاعدة الإلهية تقول: ]وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ[(محمد 38)