في التلفاز: كلمات لاغتيال الوطن
في التلفاز: كلمات لاغتيال الوطن
أ.د/
جابر قميحةقدّر لي أن استضاف في التلفاز المصري مرات متعددة منفردًا, ومشاركا في برامج ثقافية, وأدبية, وسياسية, أغلبها علي الهواء. وكم من مفارقات, وتوجهات لا تخطر علي البال, وقد تكون مقحمة علي الموضوع إقحامًا, ألقاها من بعض المشاركين. من ذلك ما أعرضه علي المشاهدين في السطور الآتية :
العنوسة.. ومنطق متهافت
في برنامج بقناة تلفازية محلية كانت
"العنوسة"
موضوع الحلقة التي جمعت بيني وبين أستاذ جامعي مشهور جاوز الستين,
وشاعرة, وصحفية, وطرح مقدم الحلقة - وهو مشهود له بقليل من الظرف, وكثير من التظرف
-
سؤاله الأول عن "مفهوم العنوسة, ومكانها في مجتمعنا", وسمعت من الأستاذ الكبير
"جدًا" كلامًا لو صدر من طالب راسب في الثانوية العامة لكان موضع
مؤاخذة, ولا يتسع
المقام لعرض كل ما لطم به الآذان, لذا
أكتفي ببعض العبارات التي تبين عن طابعه
الفكري, وأدائه التعبيري يقول الأستاذ
الكبير:
-
أنا الحمد للّه لم أتزوج, لأنني
لا أريد أن أعيش كلبًا
(!!).
-
ولماذا أتزوج? علشان أعمل لي شوية عيال?? يا أخي
لأه.
-
أنا إذا عرض عليّ إنتاج عضو من أعضاء هيئة التدريس من أجل الترقية, أسأل
أولاً: هل هو متزوج?! فإذا كان متزوجًا رفضت إنتاجه ورميته في وشه.
وجاء دور
الشاعرة فتكلمت كلامًا طيبًا جدًا عن الهدف من الزواج وتكوين الأسرة, وكيف أن زوجها
يشجعها, ويأخذ دواوينها المخطوطة إلي دور النشر لطبعها. فيقاطعها الأستاذ الكبير
جدًا: "يعني بتشغليه فرّاش"?
(!!)
ويأتي دور "الصحفية", فتصرخ بأنها موافقة علي
كل كلمة قالها أستاذها الكبير, وتحدثت عن الزواج علي أنه مضيعة للوقت, وإهدار
للآدمية. وسألها واحد من الجمهور: هل أنت متزوجة? أجابت: "كنت, لكن الحمدللّه طلقت
من إحدي عشرة سنة, وعندي طفلان, بعد أن عانيت من "التسلط الذكوري" المرارة وضيق
الأفق, وهذا طبعًا وضع
طبيعي لأني ورثت حضارة متخلفة (تقصد
الحضارة العربية الإسلامية), ولولا طلاقي ما
أصبحت مبدعة حقيقية كما أنا الآن"
سألتُها: لكن ما العلاقة بين الطلاق
والإبداع?
أجابت بحماسة منقطعة النظير "بص.. واستعرض.. ستجد كل المبدعات
الحقيقيات مطلقات"(!!). قلت: إذن يجب أن نشجع "المبدعات" العاديات علي الطلاق حتي
يصرن "مبدعات حقيقيات"? وأشارت برأسها بالموافقة (وضحك الجمهور(.
طلبت منها أن
تذكر اسم مطلقة مبدعة حقيقية واحدة... أجابت "طب .. وليه? - صدقني" . قلت لأني أعرف
عشرات من المبدعات الحقيقيات متزوجات, وموفقات, ومنهن أمهات, لعلك سمعت عن بنت
الشاطئ, ونور نافع, وإيمان بكري... وغيرهن كثيرات.
توابع.. ونتائج..
وتعليقًا
علي هذه الحلقة أسجل البيانات الآتية:
1 -
تعمدت ألا أذكر ما قلتُه في هذه
الحلقة بالتفصيل حرصًا علي الإيجاز , وتركيز المشاهد.
2 -
بعد انتهاء الحلقة سألني
المخرج ومساعده: هل الأستاذ الدكتور "فلان" هذا أستاذ جامعي? وإذا صح هذا فماذا
ستكون نظرة طلابه إليه بعد أن يسمعوا حديثه هذا?
3 -
سألت بعد ذلك الصحفية:
لماذا طلقت من زوجك بعد أن أنجبت منه طفلين? أجابت: "لأنه حاول أن يقضي علي
كينونتي".
-
يقضي علي "كينونتك" كيف? بالضرب? أم بالقذف?
-
بل بما هو أشد
:
تصور: كنتُ إذا هممتُ بالخروج يسألني: رايحة فين? طبعًا لا أرد عليه. وإذا رجعت
يسألني جاية منين? يعني لا يثق فيّ..
(!!)
4 -
قدمتٍ إليّ كتابًا من تأليفها
وقالت: "شوف بقي الإبداع الحقيقي", وجدت الكتاب لا يتجاوز مائة صفحة من القطع
المتوسط,
طبعته قصور الثقافة, ويباع بخمسين قرشًا, قرأت صفحة منه, فأصبت بالغثيان, وشعرت
واللّه كأنني أغمس عينيّ في عين من عيون "المجاري" ذات ماء متعفن لزج.
سألتني
بلهفة: هيه.. إيه رأيك? لن تعرف قيمة الكتاب إلا بعد أن تقرأه كله. قلت لها - وأنا
أرد لها كتابها: "صحيح.. أهوّ ده الإبداع الحقيقي.. الحقيقي أوي".
تواصل الأجيال.. وآباؤنا البلهاء..
وذات مساء - في قناة ثقافية مصرية - كنت واحدًا من
أربعة لمناقشة موضوع "تواصل الأجيال, ومكان الجيل الحاضر من الجيل الماضي". كانت
مقدمة البرنامج علي مستوي عال جدًا من اللباقة والقدرة الفائقة علي توظيف رصيدها
الثقافي الموسوعي, ولكن الأستاذ الجامعي, والدكتورة المشهورة ذات النشاط المعروف في
"مجالس المرأة" اللذين كانا ضيفين معنا في البرنامج انطلقا ينطقان بلسان
واحد, يعبر
عن الافتتان المطلق بالحضارة الغربية,
والتقدم المذهل في الغرب في شتي المجالات, مع
الإزراء الشديد بكل ما هو شرقي وعربي
ومصري, ومن "معروضاتهما" التي قدماها بحماسة
شديدة:
1 -
تقدم الغربيون تقدمًا فائقًا لأنهم اعتمدوا - في تربية أبنائهم - علي
معطيات "التربية الاستقلالية", مما يشكل شبابًا ناهضًا يعتمد علي نفسه. وعلينا أن
نسلك مسلكهم.
2 -
في بلادنا كان آباؤنا في الجيل الماضي يعتبرون الأبناء "ملكية
خاصة" من حقهم أن يوجهوهم, ويتصرفون فيهم كيفما شاءوا بحيث لا يستطيع الابن أن يتخذ
قرارًا إلا بموافقة أبيه, ولا بد من تقبيل يده, والانحناء له... و... و... وختم
الأستاذ الدكتوركلامه بقوله "كان آباؤنا يمثلون جيل البلهاء".
وصدمتني الجملة الأخيرة
صدمة عنيفة, فقلت: يا سيدي الدكتور "جيل
البلهاء" هذا - من آبائنا وأمهاتنا - هو
الذي صنعك وهيأ لك ولنا أن نكون أساتذة جامعيين, وأن تأخذ مكانك الآن متحدثًا إلي
الجماهير عن طريق التلفاز. وقد أخفقنا نحن في تحقيق بعض ما حققوه مع أبنائنا.
ثم
إن علينا أن نفرق بين "التربية الاستقلالية" و"التربية الانفصالية", وما في الغرب
هو النوع الثاني: فالبنت المراهقة من حقها أن "تغيب" عن أسرتها - مع
صديقها أو غير
صديقها - أيامًا أو أسابيع, أما مسألة
"العِرْض" فلا وجود لها. فهل فينا - يا دكتور
ويا دكتورة - من يسمح لبنته. أو حتي ابنه بمثل هذا الانطلاق اللا أخلاقي?!!
أما
صلة الرحم والتكافل, والتعاون علي البر والتقوي, فقيم لا مكان لها في الغرب, حيث
المادة هي صاحبة الهيمنة علي العقول والمشاعر والأخلاقيات في مجتمعات تعتبر الشذوذ
الجنسي, والزواج المفتوح أو المشترك من قبيل الحرية الشخصية, وأكثر من ذلك نراهم في
هولندا وبلاد أوربية أخرى يبيحون زواج الرجل بالرجل, وهو زواج توثقه وتباركه
الكنيسة , وسمعنا أخيرا أنهم يبيحون ويباركون تزويج المرأة بالمرأة. أي أنهم هبطوا
إلي درك من السفول لم يهبط إليه الحيوان, لأن الحيوان - بكل أجناسه وأنواعه - لا
يعرف, ولا يزاول الشذوذ الجنسي. وأثبتت إحصائية حديثة أن 12% من الشعب الأمريكي
يدمنون
المخدرات, وترتفع النسبة إلي أن تصل إلي قرابة 20% عند الشباب. وهل تقبيل الابن يد
أبيه تجعل منه ملكية خاصة لأبيه, وتلغي شخصيته تمامًا? إنه عرف طيب يدل على
الاحنرام والتوقير . و هل نسي الدكتور والدكتورة
المثل العامي المصري "إن كبر ابنك خاويه"
, أي عامله معاملة الأخ لأخيه, لا معاملة
الأب للابن, وقد عشنا في أسرنا مع آبائنا وأمهاتنا في ظل قيمتين ساميتين: الرحمة
والاحترام والتوقير, وهذا ما دعا إليه
الإسلام: رحمة الكبير بالصغير, وتوقير الصغير
للكبير.
ثوابت نبيلة.. لكل العصور
وحينما نسترفد الإسلام, ونحيل عليه, ونوجه
الأنظار إليه, فإن ذلك لا يعني أن نغلق
أنفسنا , ونحصنها ضد كل ما هو غربي, بل إن
هذا يعني أن نتجه ابتداء إلي أنقي
المنابع, وأصفي المصادر, وأثراها وأكرمها, مع
الانفتاح لكل ما ينفع ويفيد من رصيد
الآخرين, فقد تعلم كثير من شباب المسلمين
القراءة والكتابة علي أيدي المشركين من
أسري بدر, ومن هؤلاء: زيد بن ثابت رضي اللّه
عنه, وصار أقرأ الناس وأكتبهم, وهو جامع
القرآن وكاتبه في عهدي أبي بكر وعثمان رضي
اللّه عنهما. وقد أمره رسول اللّه صلي
اللّه عليه وسلم بأن يتعلم "لغة يهود" حتي
تكون لغة المراسلة بينه وبينهم ليأمن مكرهم, ويقطع عليهم طريق التحريف والتزوير,
فأتقنها في أسبوعين. والنبي صلي اللّه عليه وسلم يوجه المسلمين بقوله "الحكمة ضالة
المؤمن أني وجدها فهو أحق الناس بها". واستجاب لسلمان الفارسي بحفر الخندق حول
المدينة, وهي فكرة فارسية. وكذلك أخذ عمر رضي اللّه عنه نظام "الدواوين" عن
الفرس.
واستلهام القيم الدينية, وأخذ النفس بها يكتب لهذه القيم التعمق, والثبوت
في العقل والوجدان والمشاعر لأن الدين أقوي هيمنة علي النفوس السوية من الوضعيات
البشرية. وفي السطور الآتية نعرض نموذجًا مما قدمه القرآن من قيم للناس بعامة,
وللشباب بخاصة, وذلك في الآيات من 12 إلي 19 من سورة لقمان: (ولقد آتينا لقمان
الحكمة..... إن أنكر الأصوات لصوت الحمير(
.
ونلاحظ ابتداء أن الآية (12) بينت
أن من يكون في موضع "الأستاذية" والفتيا
والإرشاد, يجب أن يملك رصيدًا ضخمًا من
الفكر والعلم" ففاقد الشًيء لا يعطيه. لذلك جاء وصف القرآن للقمان بأن اللّه وهبه
الحكمة, مع أنه لم يكن نبيًا ولا رسولاً, والحكمة تعني العلم وفقه الدين, والإصابة
في القول, والخبرة, والقدرة علي وضع كل شيء موضعه, وقد أدركه نبي اللّه داود فكف
لقمان عن الفتيا. وحرصًا من لقمان علي تكوين الأسرة الصالحة بدأ بتوجيه ابنه
وتربيته, حتي تكون الأسرة قدوة طيبة للناس جميعًا كخطوة أولي لتكوين المجتمع
الصالح.
ويقدم لقمان لابنه دستور الحياة الصالحة النقية فينهاه عن أشياء, ويأمره
بأشياء. فمما نهاه عنه:
1 -
الشرك باللّه.
2 -
التكبر (لا تصعر خدك
للناس(.
3 -
الخيلاء والغرور (لا تمش في الأرض مرحا(.
ومما أمره به:
1 -
إقامة الصلاة.
2 -
الأمر بالمعروف.
3 -
النهي عن المنكر.
4 -
الصبر علي
الشدائد.
5 -
القصد أي الاعتدال في المشي, بلا إسراع أو تبطئ, ويتسع هذا الأمر
لأن يكون توجيهًا إلي "الوسطية
العادلة", في الأعمال والسلوكيات, بلا إفراط أو
تفريط.
6 -
خفض الصوت, وخصوصًا في التعامل مع الآخرين.
وعلي هذه التوجيهات نلاحظ
ما يأتي:
1 -
تنوعها حتي إنها تغطي كل جوانب الحياة الخاصة والعامة, وتحقق تكامل
الشخصية في أنبل صورها.
2 -
وتحقيقًا للإقناع والاستمالة ذيّل كل أمر ونهي
بحيثيته أو تبريره. فمثلاً : لا تشرك
باللّه. لماذا? لأن الشرك ظلم عظيم (للنفس
والعقل والمجتمع), اغضض من صوتك, لأن
أعلي الأصوات وأنكرها صوت الحمير.
إنه
إعجاز كتاب اللّه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
.