حسن سلوك
صلاح حميدة
كان الفلسطينيون قديماً يتندرون بقصة طريفة لشاب متدين ومخبر في بلد عربي شقيق، وتقول هذه القصة أن شاباً متديناً من فلسطين ذهب إلى هذا البلد الشقيق للدراسة، وقرر هذا الشاب أن يذهب ليصلي في المسجد كعادته في فلسطين، ولاحظ أن مخبراً يلحقه أينما ذهب، ومن خلال علاقته بصاحب البقالة بالقرب من مكان سكناه، سأله عن سبب ملاحقة المخبر له أينما حل، وعن الوصفة التي بفعلها يتخلص من هذه الملاحقة، فقال له صاحب البقالة:-
(إذهب الى خمّارة واشتري زجاجة خمرة وخذها معك، ولا تعد للصلاة في المسجد)، فعل الشاب ما طلب البقّال منه، وتفاجأ أن المخبر كف عن ملاحقته، وأومأ له صاحب البقالة بجملة طريفة، علم أن المخبر كتبها لرؤسائه في التقرير عن هذا الشاب، وهي:-
( تحسنّت أخلاقه)؟!
من المؤسف أن المعاناة من من المخابرات العربية تقترن عادة بما يسمى ( حسن السلوك) و (حسن السلوك ) هذا مرتبط برضى الدوائر السياسية والأمنية الحاكمة عن الشخص أو الأشخاص المستهدفين، و (حسن السلوك) هذا لا علاقة له بحسن السلوك المتعارف عليه دينياً وأخلاقياً وحتى سياسياً، ويرتبط ب ( حسن السلوك ) هذا الكثير من القضايا التي تمس الشخص المستهدف، أو من له علاقة قرابة أو صداقة او ربما علاقة عابرة به، فالوظائف والمصالح التجارية والمعاملات الرسمية والمنع من السفر والتدريب المهني، وامتهان مهن بعينها وغيرها، كلها تخضع لما يعرف ب (حسن السلوك).
في فلسطين المحتلة، وبالرغم من عدم وجود دولة للفلسطينيين، إلا أن الكيان السياسي في جزء منها ( المنقوص السيادة) أقر ما يعرف ب ( حسن السلوك) والبعض أطلق عليه ما يعرف ب ( السلامة الأمنية) وبمقتضى هذا ال ( حسن سلوك) يجب على كل متقدم لوظيفة حكومية أن يراجع ( الجهات المعنية) ليحصل على ( شهادة حسن سلوك) وهنا تبدأ الأسئلة، من أي تنظيم أنت؟ ما رأيك بالحالة السياسية الراهنة والصراع الموجود؟ من هم أقاربك؟ وما هي توجهاتهم السياسية؟ وهل اعتقلت سابقاً لدى الاحتلال؟ ومع أي تنظيم عشت في السجن؟ وما هي قضيتك؟…..الخ.
من خلال الأسئلة سابقة الذكر يعرف المتقدم - صاحب الفكر السياسي المخالف - سلفاً أنه لن يحظى بالوظيفة، أو التدريب، أو الرخصة لمزاولة مهنة أو تجارة أو غيرها، ويعلم أنه سيحرم من الترقية الوظيفية التي يستحقها، بل و يعلم أنه سيفصل من وظيفته، حتى لو كان متفوقاً في دراسته، وحتى لو كان الأفضل من بين المتقدمين للوظيفة، وحتى لو كان أداؤه الأفضل مع الجمهور، وحتى لو كان الأكثر إخلاصاً في عمله، ويتساءل حينها هذا الشخص، عن ما هية المواقف المطلوب منه أن يتخذها؟ وماهية المظهر الخارجي المطلوب أن يظهر به؟ وماهية الكلام الذي يحب أن يتكلمه؟ وهل المطلوب أن يغير قناعاته؟ أو أن ينافق حتى يأخذ ما يريد؟ ويكتب في ملفه ( تحسّنت أخلاقه)؟.
تفشت هذه الظاهرة بشكل واسع جداً في الضفة الغربية، وزادت عن ما قبل ذلك، فقد كانت قوانين ( السلامة الامنية) و ( حسن السلوك) موجودة من قبل، ولكنها كانت تتغاضى عن توظيف بعض المخالفين السياسيين في الوظائف التي يعزف عنها عناصر الحزب الحاكم، أما حالياً، فتمارس عمليات الاقصاء تحت لافتة ( حسن السلوك) أو ( عدم موافقة الجهات المعنية) وبتوسع كبير، ارتقى ليصل الى مستوى الظاهرة، التي أصبحت تمس الكثير من البيوت الفلسطينية.
من الواضح أن ما يجري فيه مس شديد بحقوق المواطن الفلسطيني على اختلاف توجهاته ومشاربه، والغريب أن المؤسسات الحقوقية الدولية والمحلية لا تلقي للموضوع بالاً، وكأن الأمر لا يعنيها، أما من يمارسون هذه السياسية حالياً، فهم يعتبرون أن الصراع السياسي الحالي، هو المبرر الجاهز لسوقه لتبرير هذا الانتهاك لحقوق المواطنين- مع أن هذه السياسة كانت موجودة قبلاً ولم يكن يوجد صراع- ويعتبرون أنه من حقهم إقصاء من يخالفهم التوجهات السياسية من وظيفته، على اعتبار أنهم هم من بنوا السلطة، فبالتالي هم يتملّكونها، ويحق لهم أن يوظّفوا وأن يفصلوا من يريدون، ويعتبرون أنهم قبلوا بالتماشي مع ما يراد منهم من الدول المانحة، ومن لا يريد أن يتماشى مع الواقع ويعتبر نفسه ( وطنياً) فلا يحق له أن يتوظف في مؤسسة لا يحكمها سقف وطني ( حسب رأي أحدهم)، وفي هذا التبرير سقطة يجب الانتباه لها، فالوظائف لم تكن وليدة قيام السلطة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م، وكان يوجد الآف الموظفين في الدوائر الخدماتية والتعليمية، وكانوا يقبضون راتبهم زمن الأردن كذلك، وزمن الاحتلال من بعدها، وجاءت السلطة وورثت هذه المؤسسات، وأما ما استحدث من مؤسسات أمنية وغير أمنية، فهي بشكل عام غالبية موظفيها من لون واحد.
أما عندما يتم الحديث عن تكافؤ الفرصة ومحاربة الفساد من رموز السلطة، فواقع الحال يفنّد ما يقولون، وهنا لا يوجد أي تكافؤ للفرص للمتقدمين للوظائف والمصالح، فمن توافق عليه ( الجهات المعنية) يقبل في الوظيفة أو يمنح الترخيص لمزاولة العمل المراد، حتى ولو لم يكن كفؤاً لذلك، وهذا مدخل حقيقي للترهل الوظيفي والفساد المقنّع، وتراجع الانتاج، وتدهور الخدمات المقدمة للجمهور، وخاصة في الوظائف التي يتأثر فيها الجمهور بشكل مباشر في الحاضر وفي المستقبل بالأداء الذي يؤديه الموظف العمومي، مثل التدريس في المدارس والخدمات الطبية، والشؤون الاجتماعية والتدريس والخطابة الدينية، وغيرها.
أما عندما يقوم أحد أو مجموع قيادات بالحديث عن العمل الدؤوب على تثبيت الفلسطيني بأرضه، ومحاربة الهجرة من فلسطين، فهذا يعتبر نكتة لمن تم فصلهم من وظائفهم، وحرمانهم من مزاولة أخرى، فهذه السياسة دعوة واضحة لهم للهجرة من هذا البلد، والبحث بالفطرة عن مكان يقبل أن يستوعب هؤلاء الناس ويوظّفهم بعيداً عن تأثير ما يحملون من أفكار، أو ما يظهرون به من مظاهر.
كما أن السلطة تتعامل مع الجميع بنفس الطريقة فيما يتعلق بالالتزامات المالية والضريبية، وبالتالي تأخذ الضريبة وتجبي المال ممن ترفض توظيفهم، وتدفع المال رواتب لموظفيها الذين جزء منهم لا يستحق، وأخذ حق غيره الذي يلتزم بكل ما يطلب منه من ضرائب، وإذا كانت ( الجهات المعنية) لا تعتبر أن جزءاً من الشعب الفلسطيني الذي يعيش تحت سلطتها ليس له أية حقوق، فعليها أن تعلن ذلك، وتعفي هذا الجزء من ما تلزمه بدفعه من مستحقات ورسوم يدفعها في كل يوم وكل ساعة وفي مطلع كل شهر.
يختلف كل شعوب العالم سياسياً، ويتصارعون، ولكن المؤسسة العامة هي المؤسسة العامة، تأخذ من الجميع، وتعطي الجميع، ولا يوجد قوانين تشترط ان يكون المتقدم للوظيفة عضواً في الحزب الفلاني أو أن يعبىء استمارة عضوية في الحركة العلانية، فمنذ متى أصبح التحزب بنداً رئيسياً من مقتضيات الوظيفة العمومية؟ ومنذ متى أصبح التوجه السياسي والأفكار السياسية والعقدية من بنود التقدم للوظيفة؟ أو طلب الترخيص أو التدريب؟.
قد لا يلقي الكثيرون بالاً لاثارة مثل هذه القضية، خاصة وأن بعض من يمارسونها هم من مؤسسي منظمات حقوقية، وقد تسنّى لي رؤية ( كتاب الفصل من الوظيفة ) لبعض من فصلوا من وظائفهم، وعليه توقيع من ساهموا في تأسيس منظمة حقوقية فلسطينية، وهذا يعكس زيف وتناقض حقيقي عند هؤلاء، ولكن هذه قضية خطيرة ولأصحابها الحق الكامل بإثارتها وتسليط الضوء عليها وعلى مخاطرها، الحالية والمستقبلية على النسيج والعلاقات الاجتماعية بين أبناء الشعب الواحد.
ولكن من جهة أخرى، فالفصل والحرمان من الوظيفة والرخصة ليس نهاية الطريق، فهو مدخل لطرق أبواب أخرى، وهو مدخل لمبادرات فردية وغير فردية تتفتق عنها عقول المحرومين والمظلومين، وهي مدخل لاكمال الدراسات العليا، ودعوة للتوجه للعمل الحر، والتعاونيات الانتاجية، وترك الوظيفة العمومية، والوقوف نهاية الشهر لتسول راتب من الدول المانحة.