من تجليات عصر الفأرنة
استنساخ القاضي الموظف !!
المستشار فؤاد راشد
لكل عصر سمات تميزه ، كمظاهر العز في بلاط الملكة فكتوريا , والعدل في زمن عمربن الخطاب ، والزهد في زمن عمر بن العزيز , ولاشك عندي أن أبرز مايميز عصرنا هو سيادة منطق الفأرنة. ومؤداه إنهاك القوي الحية واخصاؤها و إذلال المواطن واحتقاره وتجويعه والتلويح له بلقمة ترد جوعه وكسوة تستر جسده ومأوي يسكن فيه , وتركه معلقا بين الأمل والرجاء الي أن يلقى وجه ربه , ومن معطيات عصر الفأرنة تقديم المطيع الذليل المتحلي بروح الفأر علي الكفؤ مهما تدنت أهليته :
صارت الترشيحات لأي وظيفة تتطلب موافقة الأمن للتيقن من استيفاء شرط الطاعة والنمطية والانصياع , وفي المناصب الكبري لابد من المرور تحت أجهزة ترشيح بالغة الدقة للتأكد من الولاء الكامل , وعلي الجانب الآخر فإن العطايا تنهال علي متولي تلك المناصب بلاحساب ولامنطق , ولنا أن نتخيل أن راتب بعض ضبا ط الشرطة الكبار ينتمي الي الرقم الملاييني ولو بالكسر, وقد عين أحد المحظوظين بمليون وربع المليون جنيه شهريا ، وهو مبلغ يكفي لنقل قرية مصرية كاملة من العدم والفقر إلي الرخاء. والسائد حاليا هوالدجل اليومي الذي نشاهد فصوله عن الفقير الذي هو في العين وعلى الرأس بينما الفقير في الوطن ( الخرابة ) لامكان له الا في القبر، فقدره الإهانة أينما حل .
هذا وقد عين آخربراتب شهري قدره مليون جنيه بينما بعض الحاصلين علي نفس مؤهله الدراسي يعملون في المعمار لحمل الطوب والرمل والزلط كي لايموتوا جوعا !
في هذا الزمن العجيب حيث انفلات كل شيء لامجال للحديث عن المنطق وأحكام العقل , ففي بلاد العالم التي تحترم الحكومات شعوبها بما فيها دولة الصهاينة تري من يرشح وزيرا يشع قوة ورجولة فلا انكسار ولااستخزاء ولاوضع لوجهه في الأرض كمانري بعض من يؤدون اليمين من الوزراء منحنيا نصف راكع وانما هناك يفرض المرشح في شموخ وعزة شروطه ، ثم يقبل أو يأبي , بينما يصرح المهندس يوسف والي علي ملأ الدنيا واصفا وزراء مصر بأنهم ( مجرد سكرتارية للسيد الرئيس ! ) وتأمل كلمة مجرد ، وقد كان يقولها سعيدا راضيا لاساخطا محتجا.
في الدول الفتية التي لاميزة لحاكم ولالوزيربل هم خدام الشعب , وحيث يأتي المسئول من المعلوم ويذهب معززا الي معلوم فهو رقم صحيح بقي أو مضي لذا تراه يتشدد في شروط قبول المنصب , أما في وطننا المنكوب فقد يأتي المسئول من المجهول ودون خلفية سياسية ولاسابقة اهتمام بالشأن العام. فاذا أقيل – ولاأحد يستقيل – عاد الي المجهول مغضوبا عليه . فإذا اشتد الغضب فربما ضيفته السلطة في سجونها . ورحم الله المهندس العظيم عبد العظيم أبو العطا الذي انتقل من الوزارة الي المعتقل أيام السادات حيث لقي وجه ربه .
ولاشك أن سياسة الترهيب والترغيب هي الباب الأوسع لدمار الطاقة والإبداع بل والولاء وعزة النفس لدي المواطن , ولكن الأمر يصبح كارثة ساحقة إن امتدت تلك السياسة إلي ساحة القضاء , وهو مايجري حاليا علي قدم وساق . في مصر المنكوبة قانون للطواريء ، والغريب أن كلمة طاريء تعني عابرا ولكن العابر وقف واستأسد وأمسك بتلالبيب المصريين وخنقهم ، وأحال وطنهم الي معتقل كبير , وبموجبه يعرض المتهم في تهمة سياسية علي النيابة وقلبه يرتجف ، لا من قرار يصدر بحبسه وإنما من قرار الافراج عنه ، ويتمني كل متهم أن يحبس حتي تمر هوجة قبض عليه بمناسبتها ، وإلا فان النيابة تفرج عنه وقرار الاعتقال حاضر، حتي صارت الشرطة والمفرج عنه لايأبهان بقرار الإفراج فالقول الفصل للأمن .
ولأن الطواريء ليست كافية فقد عُسكر القضاء خرقا للدستور وللمواثيق الدولية لحقوق الانسان ، فصار المدني يساق الي قاض عسكري ليحاكم أمامه , ودستورنا لا يري ولايسمع ولايتكلم , فالقاعدة الدستورية أن الحرية الشخصية مصونة لاتمس إلا بأمر من القاضي الطبيعي , ولكن هذا كله لم يعد كافيا لإسكات الناس مروعين , ولا عاد كافيا أن يكون في مصر قوات أمن بحجم ما في دول غرب أوربا مجتمعة ,ولا أن يكون بها ترسانة قوانين للكبح العام تكفي لتجريم شرب الماء وتنفس الهواء ، فكان لابد – اضافة لما سبق- من وضع القضاة تحت السيطرة ،واستنساخ القاضي الموظف المطيع بديلا عن القاضي الشامخ القوي الذي ينطق بكلمة الحق والعدل في غير رهب ولارغب من فوق منصته العالية
ومن مظاهر السعي لاستنساخ القاضي الموظف المطيع أن التفتيش القضائي التابع لوزارة العدل تحول الي سيف حقيقي بتار علي الرقاب , وقد شرفت برئاسة لجنة تقصي حقائق شكلها نادي القضاة حول ما شكا منه القضاة من سوء المعاملة وعدم الحيدة عند التحقيق معهم والحفاظ علي كرامتهم ، وأودعت اللجنة تقريرها ، وفيه وقائع بعضها مروع ، وطالبت بالتحقيق في بعض الانتهاكات ، وأرسل رئيس نادي القضاة السابق المستشار زكريا عبدالعزيز صورة منه الي السيد وزير العدل وصورة للسيد رئيس مجلس القضاء الأعلي السابق فلم يلتفت أحد لتوصيات اللجنة .
ومن المعلوم أن الترهيب والترغيب هما أبرز سلاح إنساني علي مدار التاريخ لغسل المخ ، ولاستنساخ النمط البشري المطلوب . في رواية قرأتها قديما يدخل بطل قومي أحد السجون فيعذب تجويعا وإذلالا ، وذات يوم تزوره خطيبته لتحدثه بحماسة عن هيام الجماهير به ، بينما يشرد ذهنه ويقول لها : إن هناك أخبارا جيدة في سجنه ، فهم سوف يوزعون ماء صالحا للشرب ، وأن كل معتقل سيشرب حتي يرتوي . وهكذا مع الترهيب والترغيب والإذلال تمسخ الأحلام الكبيرة العظيمة لتغدو صغيرة تافهة , ويصبح البطل القومي غير مبال بهموم الجماهير بقدر اهتمامه بشربة ماء !
إن ما يدمي القلب أن هذه هي بالضبط السياسة المتبعة حاليا مع قضاة مصر , منشور بزيادة ( الإضافي ) مثلا ، يتلوه منشور سريع يرهن الحصول عليه بما يناظر إحضار غول أو عنقاء أوصيد عفريت , و يعلم أصحاب المنشور أنه تكليف بمستحيل، وأن القاضي عاجز مقدما عن تحقيقه ، وهذا تمهيد ليد العفو التي تسمح لاحقا بعد الإخلال بصرف الإضافي رغم التقصير!ويكون علي القاضي واجب الشعور بالفضل لأهله! وهناك دراسة محايدة انتهت إلى أن القضاة هم أكثر فئة ترتهن رواتبها في مصر بالسلطة التقديرية لرؤساء المحاكم, والقول الفصل في تعيينهم يعود الي وزارة العدل . وهكذا تبقي رقاب القضاة تحت سكين الحكومة ممثلة في وزارة العدل ويتبعها التفتيش القضائي وسلطة رؤساء المحاكم في المنح والمنع! تماما كما ينشغل البطل القومي عن قضيته العظيمة بشربة ماء فإن علي القاضي أن تمسخ أحلامه وبدلا من أن تكون إعلاء كلمة العدل غايته يصبح منشغلا بما يقع عليه ومايخصم من قوت أبنائه وكيف يتحاشي الإهانة أمام مرؤوسيه وأسرته!
هل يعلم حكام هذا البلد أن بعض القضاة مرض فلم يزره من وزارة العدل زائر ، وانما خصم نحو نصف مستحقاته ، ربما لأن المرض جريمة والخصم عقوبتها كي يضاف الي بلاء الألم بلاء العوز! وهل يعلمون بأن بعض رؤساء المحاكم حدد نسبة من القضايا للفصل فيها بأحكام منهية للنزاع بما لا قبل لبشر به وهو أمر- فضلا عن استحالته- يضرب العدالة في مقتل ،فلا مجال لندب خبير ولاسماع شهود ولاتأجيل لمستندات ، فالقاضي بشر وهو رب أسرة ارتهن حصوله علي حاجات أسرته وعدم اهانته أمام مرؤسيه بالخصم من راتبه باهدار العدالة؟ وهل يعلم أولئك أن القاضي هو آخر انسان علي وجه الآرض يصح ربط راتبه بنسبة محددة سلفا لأنه سوف يكون بالخيار بين اقامة العدل ومعه خصم بعض راتبه أو إقامته والتعرض للخصم والإهانة معا!
وهل يعلم أولئك أن هناك ممن يتولون الإشراف الإداري علي القضاة من لايفرق بين رسالة القاضي وما يواكبها من بعث العزة في نفسه وذهاب الخوف والرهبة وافتراض الثقة به باعتبار أنه لاعدل يرجي من قاض خائف , وبين منطق الموظف الذي عليه أن يتقبل التعليمات ويطيع ويمشي جنب الحائط؟ وهل يعلم أولئك الذين يكلفون القضاة العنت والاستحالة أنهم يجنون علي كرامة القاضي ويسحقون مصلحة المتقاضي ؟
ان شجاعة القاضي وذهاب الرهبة والخوف من نفسه صنو النزاهة ، ولاقيام لقاض بدونهما معا ,فهل يعلم الذين يروضون القضاة علي الرغبة والرهبة والخوف والرجاء والسمع والطاعة أي كارثة يصنعون لا بالقضاة وحدهم وانما بوطن كان من بديهيات أدبياته العامة الفخر بشموخ قضاته وعزتهم وشجاعتهم؟!
وأختم بحكاية شائعة ذات مغزي , خلال الحرب العالمية الثانية كان هناك مطار مجاور لمحكمة مدنية في بريطانيا فكان أزيز الطائرات يعكر هدوء المحكمة , فأرسل القاضي ورقة لسلطات المطاركتب بها أنه يتضرر من صوت الطائرات , وعرضت ورقة القاضي علي تشرشل فقال ( من الخير لأمتنا أن تخسر الحرب علي أن يدون التاريخ أن بريطانيا العظمي كسرت أمرا لقاض ) !! ونقل المطار وبقيت المحكمة وانتصرت بريطانيا, تري ماذا لو عاش تشرشل واطلع علي حال القضاء المصري!!