تحية إلى العلمانيين الديمقراطيين ..

تحية إلى العلمانيين الديمقراطيين ..

د. منير محمد الغضبان *

وعلى رأسهم رائدهم قبل خمسة عشر قرنا واسمه المطعم بن عدي الذي كان في خلاف في العقيدة مع محمد صلى الله عليه وسلم .. ، ولم يؤمن به ولا بدينه . وحين قررت قريش إلغاء الآخر من بين صفوفها ومنعت محمدا من دخول مكة بعد عودته من الطائف . وقف بسلاحه مع أولاده الستة . وطاف ويده بيد محمد حول الكعبة . وذهلت قريش للموقف وقالوا :يا أبا جبير أمجير أم متابع .. ؟ أي هل أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم ؟ أم قررت حمايته وإجارته منا ؟ : بل مجير . فقالوا : أجرنا من أجرت يا أباجبير .

وحفظ القائد الأعظم هذا الفضل لهذا العلماني الديمقراطي الذي يرى أن مكة للجميع لا يقصى منها أحد . وعندما بلغه وفاة المطعم بعد أن أقام دولته في المدينة كلف وزير إعلامه حسان بن ثابت برثاء المطعم بن عدي فقال :

أيا عين فابكي سيد القوم واسفحي
وبـكـي عظيم المشعرين iiكليهما
فـلو كان مجد يخلد الدهر iiواحدا
أجرت رسول الله منهم iiفأصبحوا
فـلـو سـئلت عنه معد iiبأسرها
لـقـالوا هو الموفي بخفرة iiجاره





بـدمع وإن أنزفته فاسكبي iiالدما
عـلى الناس معروف له ما iiتكلما
من الناس أبقى مجده اليوم مطعما
عـبـيـدك ما لبى مهل iiوأحرما
وقـحـطان أو باقي بقية iiجرهما
وذمـيـه يـوما .. إذا ما iiتذمما

وعلى خطا المطعم بن عدي نجد شيخ العلمانيين المعاصر الأستاذ المناضل رياض الترك يختار السجن بضعة عشر عاما في أقبية المخابرات السورية لأنه رفض أن يدين عنف الإخوان المسلمين دون أن يدين عنف الدولة الدكتاتورية .

وعلى خطا تحية حسان للمطعم أتقدم بتحيتي هذه للأستاذ كامل عباس وأمثاله .

هذا الخط الرائع هو الذي دعا له الأستاذ كامل عباس بمقاله القيم في الحوار المتمدن في 8/12/2005 وعنونه : هل نريد أن نكون علمانيين ديمقراطيين أم علمانيين دكتاتوريين .. يقول : علينا في الوقت الحاضر أن نطور مفهومنا للديمقراطية بما يتلاءم مع واقع عصرنا ، بهذا المعنى يجب علينا أن نفتش عن الجانب الإجتماعي في أي حركة دينية سواء كانت إخوان مسلمين أم إخوان مرشديين أم إخوان علويين فإذا كانت تنبذ العنف ومستعدة للعمل بشكل ديمقراطي ، وبرنامجها الإجتماعي ينسجم مع تطوير المجتمع ، ويخدم تنميته . وجب علينا أن نمد يدنا لها . أما من يصادر حق هؤلاء في العمل السياسي ، ولا يقبل بأي برنامج على أساس ديني فأقل ما يقال عنه أنه ديكتاتوري يريد أن يفرض رأيه وبرنامجه على المجتمع بالقوة مثل البعثيين والشيوعيين السابقين في الدول الإشتراكية )

أما الدكتاتوريين من العلمانيين فقد بحت أصواتهم وهم يرفضون أي حزب على أساس ديني أو عرقي. وابتداء من حزب البعث الذي نصب نفسه قائدا للدولة والمجتمع وانتهاء بالدكتور يوسف سلامة في مقاله ضد إعلان دمشق ، دفاعا عن المنطق ، حوار مع الأستاذ كامل عباس ، كلنا شركاء 7/12/2005 .

والذي وصف الإسلام بقوله : ( إن الإسلام السياسي يقوم على المرجعية المطلقة للصواب كتاب الله القرآن . والذي يرفضه العلمانيون هنا أن هذه القدسية تنزلق لتطال القارئ والمفسر والمنفذ لأحكام الدين حتى إنك لتعجز أن تميز ما بين قدسية الله ومحمد والخليفة الأول والثاني .. حتى تصل إلى مغني الديار الإسلامية في طريقنا إلى سيف الجلاد الذي يحز الرؤوس بيد مقدسة وسيف مقدسة و . و . و . و .

هذا هو الإسلام عند الدكتور سلامة في النهاية : سيف الجلاد الذي تحز الرؤوس بيد مقدسة وسيف مقدس ، وهذا هو نموذج الدكتاتوري العلماني.

لكن ماذا يقول الأستاذ كامل عباس العلماني الديمقراطي عن الإسلام في مقاله الآنف الذكر :

( بغض النظر عن الجانب السماوي في الإسلام . فإنه كان أكبر ثورة إجتماعية عرفتها البشرية حتى الآن ، الإسلام احتضن الملامح القومية العربية وأخرجها إلى الوجود في أمة عربية واحدة وخلصها من بين أرجل امبراطوريتين معروفتين آنذاك بطغيانهما وتكبرهما _ الروم والفرس _ ولقد وقف الإسلام الأول إلى جانب كل المستضعفين والمظلومين في العالم ، وخاصة في الشرق ، ولآن يعود ليحل محل الشيوعية التي ساندتها تلك الشعوب الشرقية أملا منها بتحطيم تجبر وطغيان الغرب ، ولما انكسر حلمها في ذلك عادت إلى حلمها القديم الإسلام )

وألف تحية وتقدير لمن يتحدث عن الإسلام واقعا _ وهو لا يؤمن به _ منزلا من عند الله. وهذا حقه بهذه الموضوعية والنزاهة والحيادية .

بالله عليكم ألا يجب أن نحيي الديمقراطيين العلمانيين الذين ينظرون بهذه الموضوعية للإسلام . ويوجبون على أنفسهم الفسح لدعاته في المشاركة في الحياة السياسية ويرفضون إلغاء الآخر إذا خالفهم الرأي .

لقد مثل الموقعون على إعلان دمشق بلا استثناء صورة للعلمانيين الديمقراطيين الذين يرفضون إقصاء أحد ويعرفون فضل هذا الدين وأثره في تكوين الأمة وبناء حضارتها . فسارعوا بقناعة منهم للنص على ذلك . أما العلمانيون الدكتاتوريون الذين لا هم لهم إلا سب الإسلام فجرضوا بريقهم ، وأصابتهم الغصة ، وحاربوا الإعلان لأنه نص على أهمية الإسلام في الأمة ..

وكما يقول الأستاذ محيي الدين سعيد بمقاله في البيان 26/11/2005

(_ _ بينما رفضه آخرون محذرين من أن يقود البلاد لاقتتال طائفي ، وأنه إعلان مغلق لا يعبر عن كل المجتمع السوري ، ويعبر فقط عمن وقعوا عليه وبشكل خاص جماعة الإخوان المسلمين )

ومن نماذج هؤلاء الرافضين الدكتور يوسف سلامة الذي كتب صراحة ضد إعلان دمشق وقال وهو يرد على الأستاذ كامل عباس ( إن الإشارة الطائفية إعلان تغييري هو إقرار بالشكل الجديد قبل أن يكون تعريفا بواقع قائم كما تقول . فالطائفية في مجتمع شديد الحساسية وللطائفية خطرها ومأخذها على هذا الإعلان ) . ولا يكتفي بذلك . بل يتهم جميع العلمانيين .بالعلمانية في العلن والطائفية في السر فيقول ( وأتحدى أي علماني سوري إذا لم يكن يهمس في لقاءاته المذهبية الضيقة عندما يتأكد من خلوها من الغرباء أنه طائفي للعظم ، وأن الطائفية أمانة في قلبه وعنقه في كل انتخابات بلدية ، برلمانية ، نقابية ، يرجع العلماني السوري إلى كهف العشيرة والقبيلة والطائفية ، يرجع لأحط أشكال البدائية الهمجية الأولى من أجل لحسة إصبع )

لقد أصبت يا دكتور في وصف أمثالك من العلمانيين الدكتاتوريين أنهم طائفيون للعظم ، أما العلمانيون الديمقراطيون فقد عافاهم الله من ذلك . وقال الأستاذ عباس ما أفقدك صوابك وهو يتحدث عن إعلان دمشق : ( أنا شخصيا رأيت أعمق فقرة في إعلان دمشق الفقرة التي تحدث بها عن الإسلام ، لأنها حاولت أن تشخص الواقع كما هو بدون كذب أو لف ودوران ، وتدفعه إلى الأمام بدلا من أن تكرر المأساة السابقة فيكون الدفع دكتاتوريا ومن أعلى ، ومن دون مشورة المجتمع )

* * *

وحين لا يرى العلمانيون الدكتاتوريون من الإسلام غير الظلام والصراع كما يقول الدكتور سلامة ( هل يتحقق هذا الشرط إ1ذا أعمينا أعيننا عن حقائق الفكر السياسي الإسلامي _ _ _ وهل من الضروري أن نذكر أنه في ظل الخلافة الراشدة قامت معركة الجمل بين المسلمين. وعلى رأس الفريقين أصحاب النبي وقتل فيها ثلاثة عشر ألف قتيل من خيرة المسلمين . وبعدها بقليل استشهد تسعون ألفا من الصحابة والصديقين على جبهة القتال الإسلامي الإسلامي بين آخر الخلفاء الراشدين وأول الأباطرة المؤسسين . نعم تسعون ألفا في خلاف فقهي بسيط لم يفسد للود قضية )ونقول للدكتور سلامة : نعم .. لولا هذه الحروب لما بقيت وحدة الأمة . وكل دول الأرض للمحافظة على وحدتها وحريتها يسقط أمثال هذه الأعداد فيها . ونعم يا دكتور ، فلم يفسد للود قضية . فهؤلاء نفسهم عادوا فانتظموا في خلافة ودولة واحدة . حين تنازل الحسن عن الخلافة فكان السيد العظيم للأمة كما قال عنه جده محمد عليه الصلاة والسلام . ( إن ابني هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين .) واستمرت الأمة حتى أربعة عشر قرنا من الزمان تحارب الإنفصال فيها ويسقط الضحايا ، ولولا ذلك . لم نكن أمة عربية ولا أمة مسلمة . وكنا نتفا مبعثرة في هذا القرن الأخير

أما العلمانيون الديمقراطيون فهم الذين رأوا في الإسلام كما قال إعلان دمشق . ( الإسلام هو دين الأكثرية .. وعقيدتها بقاصده السامية وقيمه العليا وشريعته السمحاء يعتبر المكون الثقافي الأكبر في حياة الأمة والشعب ، تشكلت حضارتنا العربية في إطار أفكاره وقيمه وأخلاقه وبالتفاعل مع الثقافات التاريخية الوطنية الأخرى في مجتمعنا . )

* * *

وحين يتحدث الأستاذ كامل عباس عن الشورى في الإسلام بقوله :

( وأمرهم شورى بينهم ) لا بل الآية الكريمة التالية من سورة الحج ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء قدير ) فيها من الديمقراطية والاعتراف بالآخر ما يفوق كل الأحزاب الثورية العربية المعاصرة _ _ _ )

فينتفض الدكتور سلامة غاضبا ممثلا للدكتاتوريين العلمانيين قائلا في الرد على أخيه كامل :

( وأمرهم شورى بينهم ) ليس لهذه الآية الكريمة أي علاقة بمفهوم الديمقراطية . وكل من يربطها بالديمقراطية فهو جاهل بأحد المعنيين ( الديمقراطية أو الشورى ) أو متجاهل لحقائق الفروق بينهما ، فالشورى تكون بين الحاكم وحاشيته ، ولو تذكرت ما قرأته في تاريخ العرب المسلمين والمسلمين العرب لوجدت أن الخليفه أو الحاكم بأمر الله لو شاور زوجته لعمل بحكم الآية وانتهى الأمر _ _ _ والشورى غير ملزمة شرعا أي أن الرعية في أفضل الحالات تقول رأيها فقط والحاكم ينفذ رؤيته _ _ ولا يحق لأحد في نظام الشورى أن يحاسب الحاكم وعمليا كل حكام العرب يمارسون الشورى فنحن نقول ( ونشير ب) ما نريد وهم يفعلون (ما يريدون )

ونقول للدكتور سلامة ليته يفهم أن الله أمر سيد خلقه باستشارة جنوده وهو الغني عن رأيهم بقوله تعالى ( وشاورهم في الأمر )فليس لأحد بعده من الخلق أن يدعي الغنى عن الشورى إلا إذا خالف شرع الله

* * *

وما أجمل وصف الأستاذ عباس للدكتور سلامة وعصبته ، حين يقول :

( هذا يعني أن الإسلام الحق مهتم بشؤون الدنيا أكثر من بقية الأديان ، وهنا بيت القصيد لكن علمانيينا بكل أصنافهم لم يفهموا من العلمانية سوى فصل الدين عن الدولة . والطريقة التي جرى تحقيق ذلك في الغرب . نحن مقلدون ومتابعون دائما ولله الحمد . مرة لشيوعية السوفييت . ومرة لديمقراطية الغرب ، أما أن يكون لنا طريقنا الخاص فهو حرام علينا)

الإسلام عند العلمانيين الدكتاتوريين هو دكتاتورية . ومن أجل هذا فهو محظور ورعاته من الوجود . فالدكتور سلامة يسأل الأستاذ عباس :

( ثم ألا تعتقد أن كل حزب ملزم بتنفيذ قانونه الداخلي عندما يكون قادرا على ذلك . هل سمعت أن الإخوان تبنوا دستورا آخر . أما عن الكلام والتصريحات فكل الكلام كلام . وكل زعماء الأحزاب في العالم عندما كانوا مثل البيانوني كانوا يتكلمون مثله والحكي ما عليه جمرك .

وأقسم بالله أن البيانوني المتهم بالأصوليه . قال على الفضائيات كلاما فيه علمانية أكثر مما كان يقوله المرحوم خالد بكداش . لنتذكر بأن

الحكي شيء . والفعل شيء مختلف )

بهذه الفجاجة والعبث يتحدث الدكتاتوريون العلمانيون . فهم ينفثون حقدا على الإسلام وعلى الإخوان المسلمين . لكن ماذا يقول العلمانيون

الديمقراطيون الذين يحترمون أنفسهم ويحترمون الآخرين .

يقول الأستاذ كامل عباس : ( _ _ _ لم يترك الإخوان مناسبة إلا وأعلنوا فيها أنهم يريدون تطوير أنفسهم والتعاون مع بقية القوى السياسية لإخراج البلد من محنته . وبالتالي مد اليد إليهم كما فعل الإعلان ممارسة صحيحة وسليمة وفي أوانها .

قد يقول قائل كما قلت في مقالي سابقا بأنهم يطرحون ذلك تكتيكا للوصول إلى السلطة. حسنا دعنا نتخيل أن انتخابات حرة نزيهة ومراقبة من قبل هيئات دوليه جرت وفازت بها الجماعة وكانوا أغلبية في البرلمان وشكلوا الدولة الجديدة . على ما أعتقد ذلك حقهم الطبيعي بشرط أن تستمر لعبة الديمقراطية والتداولية لتعمل بقية القوى بين المجتمع لتعديل موازين القوى . أما من يعتقد بأنهم سينقلبون على الديمقراطية ويشكلون أمارتهم الإسلامية ويلغون المسيرة الديمقراطية فهو واهم . فالظرف الدولي لم يعد يسمح بجبهة أخرى قائدة الدولة والمجتمع ، تعطل بالدساتير وتحكم بالقوانين الاستثنائية )

وأخيرا .. كل القوى الفاعلة والمؤثرة التي وقعت على إعلان دمشق إسلامية وقومية ووطنية وعلمانية وشيوعية ومستقلة . قررت أن سورية للجميع . ويجب أن يتعايش فيها الجميع دون استثناء أحد ودون إقصاء أحد . وأما الدكتاتوريون من أي جنس أو أي لون أو أي دين الذين يريدون فرض نفسهم على الشعب . فهم المرفوضون ، وكما يقول الإعلان : ليس لأي حزب أو تيار حق الادعاء بدور استثنائي . وليس لأحد الحق في نبذ الآخر واضطهاده وسلبه حقه في الوجود والتغيير الحر والمشاركة في الوطن . )

         

* باحث إسلامي سوري