تعقيب على وقفة نقدية لحملة التضامن مع تيسير علوني

تعقيب على وقفة نقدية

لحملة التضامن مع تيسير علوني

د. هيثم مناع *

قرأت مقالة ملحق النهار العدد 712 الأحد 30 تشرين الأول 2005  للأخ محمد علي الأتاسي ينتقد فيها الحملة التي انطلقت للدفاع عن الصحفي تيسير علوني. وحيث أنني أتحمل المسئولية الأخلاقية والعملية عن هذه الحملة، شعرت بضرورة الرد عليها، ولو أني لا أخفي ترددي في ذلك. فصلتي الإنسانية والصداقية بمحمد علي الأتاسي لا تقل عن الصلة التي تجمعني بتيسير علوني، لكن مع فارق أساسي، تعرفت على الأول والمرجع في ذهني التقدم والديمقراطية، في حين ارتبط الثاني بالإسلام والحرص على استقلالية الصحفي. أي عدم استساغة فكرة التنظيم السياسي للدين كان أم لماركس. ومن مضحكات الدهر أن المتهم بالتعاون مع منظمة إرهابية، عمل أهم كوادر حركة الإخوان المسلمين في دير الزور، الكاتب والمرشد السابق لحركة الإخوان الدكتور حسن هويدي، بنفسه من أجل تنظيمه في صفوف الحركة قبل ثلاثين عاما. لكنه لم ينجح حيث آثر تيسير الاحتفاظ بعلاقة طيبة جدا مع الإخوان دون انتساب.

يسعى الأتاسي في مقالته كما يقول  "لتعرية أسلوب المبالغة والمزايدة والتسطيح والتعمية الذي طالما ميّز ثقافتنا الصحافية الرائجة" وحبذا لو كان كذلك، لاستفدنا منه في تفادي نقاط ضعف نعتبرها عادية وطبيعية، نشكر كل من يساعدنا على تجاوزها. لكن للأسف مقالة محمد علي تقع في نطاق المبالغة والمزايدة والتسطيح والتعمية في الاتجاه المعاكس. فمنذ متى من واجب مراسل تلفزيوني أن يكتب بانتظام للصحافة المكتوبة ليثبت بأنه يستحق لقب صحفي؟ وهل عدم المبالغة في نشر مقالات تيسير على صفحة اللجنة الدولية (صدى) دليل على عدم مهنيته في عمله كمراسل لقناة تلفزيونية؟  هل تابع الأتاسي الريبورتاجات الصحفية التي أعدها تيسير في أفغانستان والعراق وإسبانيا، أم أنه آثر التوقف فقط عند مواجهة تلفزيونية تعود إلى سنوات ست سبقت امتحانه المهني الفعلي كمراسل؟ وأخيرا، هل من السهل على خامس منبر إعلامي في العالم نشر مقابلة مع أسامة بن لا دن دون جملة اعتبارات ليست المهنية سوى إحداها وليس بالضرورة أهمها. ثم ما معنى إدانة تيسير على علاقة له بشخص قطع كل علاقة ببن لادن في 1992 وهل هذا يخولنا قياسا إدانة المنظمات العالمية لحقوق الإنسان التي طالبت بالإفراج عن أنصار أسامة بن لادن في المملكة العربية السعودية في تقاريرها السنوية عام 1995 حيث بن لادن كان يومها مجرد سلفي من الأفغان العرب لم يصنفه أحد بالإرهابي بعد؟ هل يمكن الحديث عن دولة قانون ورئيس المحكمة يقول لي بالحرف: "لدي صلاحية المدعي العام والقاضي ويحق لي إصدار القرار وفق ما أعتقد، أنت لا تعرف صلاحيات المحكمة؟"

لعل هذه المناسبة تسنح لي توجيه السؤال لعدد هام من أصدقائي ذوي المنبت التقدمي العلماني: لماذا يحق لماركسي متشدد أن يعبر كالسهم من عرين موسكو إلى الدفاع عن الإدارة الأمريكية مثلا، في حين أن شابا يحمل أفكارا إسلامية محددة في لحظة معينة من حياته لا يحق له نقد ذاته أو أن لا يتعلم من تجاربه واحتكاكه بغيره؟ ما هي هذه القدرة الجدلية التي يستحقها البشر كافة للتغيير والتعلم والاكتساب إلا هذا السلف "الطالح"؟ أليس إرسال الملك عبد الله لدعاة دين إلى سجن الحاير لمناقشة دعاة العنف بهدف إعادتهم لسبيل النقاش والموعظة ونبذ العنف أكثر حكمة من هذه الصورة الغريبة التي تعطي الوصمة النفسية والسياسية المتحجرة للإسلامي من المهد إلى اللحد؟

هل من الضروري التذكير بأن منظمات كبيرة للدفاع عن الصحفيين وحقوق الإنسان وقفت ضد هذه الحملة بشكل مفتوح ومفضوح أحيانا، وأن كل الاتجاهات العلمانية الإستئصالية في أوربة تحاربنا بكل الوسائل لأننا ندافع عن عربي مسلم ملتحي؟ إن الصورة النمطية التي يحبها الغرب ليس صورة زوجة سامي الحاج أو زوجة علوني، بل صحفية تقدمية سافرة ناقدة للإسلاميين. لقد كانت حملتنا ومقرها أوربة كالحفر في الصخر من أجل أن تقتنع منظمات أصدرت حكمها على تيسير قبل بدء المحكمة بأن احترامنا للحضارة الغربية إنما هو لاعتمادها قرينة البراءة أساسا لإقامة العدل. لقد طالبناها فقط بأن تراقب الوضع بموضوعية وأن تعطي تيسير وغيره حقهم في الدفاع عن النفس. فإن استطاعت الحملة اليوم كسب كبرى المنظمات وتحييد من لا يريد الاعتذار عن خطأ ارتكب، كان ذلك لعدم مبالغتنا في المدح أو الذم وعدم انقيادنا العاطفي لعضو في منظمة حقوق إنسان لها صفتها الاعتبارية الدولية. كما ولأننا لم نسقط في سياسة الهجوم الأعمى على إسبانيا والشعب الإسباني والديمقراطية الناشئة في هذا البلد الصديق كرد فعل على مظلمة ارتكبتها محكمة استثنائية. وعندما يدافع الأخ الأتاسي عن بالتثار غارثون، ينسى أننا قلنا لغارثون، دخلت التاريخ من الباب الكبير فلا تخرج من النافذة في ملفات محاربة الإرهاب، وهذا ما حدث، واليوم، خسر غارثون ما كسبه من رصيد في قصص "الحرب على الإرهاب" التي حولته إلى شرطي من شرطة عولمة حالة الطوارئ ولم يعد له أي صفة قضائية في إسبانيا ويبحث عن عقد عمل مع الجامعات الأمريكية.

تيسير ليس أهم الصحفيين العرب، بل ويعتبر نفسه تلميذا عند منتهى الرمحي ومحمد كريشان. ولعل أكثر ما يحبه المرء فيه بساطته وتواضعه هذا. لكن حتى لو كان متعجرفا ومولعا بالنجومية، هل حاولت اللجنة الدولية للدفاع عنه تقديمه بصورة مثالية، أم هي تناولت مأساته كإنسان يتعرض لظلم؟ هل اختلقت اللجنة هذه فكرة حرصه على الطابع المهني لعمله أم أن هذا الحرص هو الذي منحه ثقة القناة التي يعمل بها؟ لماذا تتهافت دور النشر الكبرى على كتابة قصته، هل لولعها بالصحفيين الفاشلين أم لأن هناك قضية كبيرة تعني كل مهتم بحرية التعبير في العالم اليوم؟ 

هناك نقطة غريبة في مقالة محمد علي. إنه يأخذ على قناة الجزيرة استنفارها للدفاع عن تيسير علوني. والحقيقة، أن أول مرة طلبت فيها مقابلة رئيس مجلس إدارة الجزيرة كان لأشكره على هذه السياسة وانتقد سياسة الجزيرة الخجولة تجاه سامي الحاج. فهل أصبح الدفاع عن عامل في مؤسسة أو عضو في منظمة نقيصة لمن يقوم به؟  بصراحة أقول، نحن ننتقد في قناة "العربية" عدم قيامها بالدفاع الكافي عن صحفييها، خاصة وأنهم يدفعون منذ أشهر الضريبة الأكبر عربيا بما يخص الاعتداء على سلامة حياتهم وأجسادهم. ونحن من يتصل بقناة العربية لتحصيل المعلومات في حين أن قناة الجزيرة تتصل بنا لتمدنا بالمعلومات عند تعرض العاملين فيها للأذى. فحبذا لو تعمم هذا النهج لإقامة تقليد يعتمد التنسيق الدائم بين منظمات حقوق الإنسان ووسائل الإعلام المختلفة.

إننا في اللجنة العربية لحقوق الإنسان نعتقد أن مفهوم السلطة الرابعة مفهوم مرفوض في العقلية الرسمية العربية. أولا، لهيمنة العقيدة الشمولية في إدارة الوعي (أو بالأحرى إدارة تدنيس وعي الناس)، وثانيا لأن السلطتين التشريعية والقضائية مازالتا أسيرتي السلطة التنفيذية. فكيف نعطي للصحفي ما لم يحصل عليه القاضي أو البرلماني؟

من هنا، إن حماية الصحافيين اليوم جزء لا يتجزأ من حماية المشروع الديمقراطي وبلورة معالمه في الوعي العام. هل كنا بحاجة إلى خسارة سمير قصير والاعتداء على مي الشدياق واغتيال سليم اللوزي وقتل محمد هارون لإدراك دور السلطة الرابعة في صياغة الغد وصناعة المشروع الديمقراطي؟ هل نحن بحاجة لمحاكمة علي العبد الله وسجن سامي الحاج والحكم على تيسير علوني لنتذكر بأن السلطة الرابعة، بفضل أقلام جريئة ومواقف مستقلة مشرفة، قد سبقت باستقلالها عن الاستبداد استقلال القضاء؟ في زمن نتحدث فيه عن محاكم دولية لعدم وجود ضمانات محلية لقضاء وطني، نشهد ولادة جيل من الصحفيين والمنابر لم يعد رهن هذا النظام السياسي أو ذاك. هذا الجيل من الخوارج عن السيطرة نحن لسنا فقط بأمس الحاجة له بل ولحمايته. 

لو لم تتشكل لجنة للدفاع عن رياض الترك، هل كان ابن العم بيننا اليوم؟ وهل كانت لجنة رياض له وحده أم وضحت للقاصي والداني مأساة الاعتقال التعسفي في سورية؟

تحتل أخبار تيسير علوني على صفحة اللجنة الدولية للدفاع عنه أقل من 20 بالمائة من أخبار الصفحة. نجد مثلا مناشدات للحرية للمحامي محمد رعدون ودفاع عن رياض سيف وطيبة المعولي وقصة سامي الحاج وتضامن مع الصحفيين عبد الرازق المنصوري وماجد حميد وانتهاكات حقوق الإنسان في العالم العربي. لقد حولت اللجنة الدولية للدفاع عن تيسير علوني حملة ناجحة إلى حد ما من التضامن مع شخص إلى التضامن مع قضايا غاية في الأهمية في عالمنا العربي اليوم. ولعل موقع صدى (الذي يزوره 30 ألف شخص يوميا) يعطي المثل لحملة نافعة لحرية التعبير والصحافة. كل هذا في عمل تطوعي: الفنان يتبرع فيه بلوحة والرسام بكاريكاتير والكاتب بمقالة. ذلك في تأصيل لتقليد ضروري، يقوم على قدرة المجتمع المدني الوليد الاعتماد على طاقاته للدفاع عن الحريات الأساسية.

لن أناقش عناصر قضية علوني وعدالتها، كون تقرير المراقبين الدوليين لمحاكمة تيسير علوني سيصدر بعد أيام وهو يفي بالغرض. لكن أحب أن أذكّر أولا، بأن إيميل زولا، في دفاعه عن دريفوس، لم يدافع عن الشخص بل عن القضية. وهذا حال عدد كبير من أعضاء اللجنة الدولية الذين هم من كل الأطياف. فيهم الشيوعي والليبرالي والإسلامي، من مهن مختلفة ومن أكثر من عشرين بلدا، يفوق عددهم اليوم 1300 شخص. ثانيا، لا يوجد حقوقي واحد يدافع عن المحكمة الوطنية في إسبانيا، والرابطة الإسبانية لحقوق الإنسان هي التي تسمي هذه المحكمة "محكمة أمن الدولة في الدكتاتوريات الأمريكية اللاتينية". ومن الغريب حقا أن يقبل ابن الفقيد نور الدين الأتاسي، الذي بقي في السجن 22 عاما دون محاكمة، فكرة حق هذه المحكمة مثلا في اعتقال الأشخاص دون محاكمة أو حكم قضائي لمدة أربعة أعوام؟

أود أن أؤكد في معرض ردي جملة مسائل منها، أن حملتنا للدفاع عن تيسير ليست باللغة العربية، بل في أوربة وبلغاتها، والإسبانية واحدة منها، كما أن أهم ما نكتب يترجم للإسبانية. إننا نتسلم باستمرار التأييد من الحقوقيين الأسبان والأوربيين ولدينا أصدقاء لحملتنا من القضاة والمحامين والصحفيين في إسبانيا نفسها. نحن نرفض تحويل معركة تيسير لصراع حضارات أو خلاف معتقدات أو تعارض ثقافات، بل نعتمد الشرعة الدولية لحقوق الإنسان ونطالب بها للجميع. ونعتقد بأن نجاحنا في الإفراج عن تيسير سيعيد بناء جسور الثقة بين أنصار السلام والتعاون بين الحضارات والشعوب. في نطاق عملنا هذا نحاول امتلاك القدرة على اتخاذ البعد اللازم للدفاع عن الضحية، وتوجيه كل المواقف الانفعالية إلى بوتقة العقلانية الضرورية لعدم الخلط بين العدالة والتطرف.

         

* رئيس اللجنة الدولية للدفاع عن تيسير علوني