استطلاع...؟!
صلاح حميدة
بين فترة وأخرى تنشط عمليات نشر استطلاعات الرأي في الساحة الفلسطينية، وبشكل عام يكون هذا النشاط مرتبطاً بحراك سياسي خارجي أو داخلي، ويتناول هذا الاستطلاع الكثير من القضايا، ولا يثير الجدل في هذه الاستطلاعات إلا ما ينشر عن هبوط شعبية هذا التنظيم، وصعود شعبية ذاك، أو أن هذه الشخصية السياسية ستحظى بدعم شعبي قوي، وتلك الشخصية لن تحظى به..
يتساءل الكثير من المتابعين عن سبب عدم ثقة الناس والسياسيين بهذه الاستطلاعات في المجتمعات العربية، وفي المجتمع الفلسطيني تحديداً؟ ولماذا لا تتمتع هذه المؤسسات الاستطلاعية بالمصداقية التي تتمتع بها نظيراتها في الغرب؟ وهل هذه المؤسسات تسير وفق منهج علمي في البحث؟ وهل هي في منأى عن الصراع السياسي؟ وهل هي مستقلة مالياً عن التنظيمات والهياكل السياسية والحكومية؟ وهل مجتمعنا مجتمع يتمتع بكامل حرياته التي من الممكن أن يبدي فيه أي مواطن رأيه لإنسان لا يعرفه بحرية، بلا خوف من مغرم، أو رغبة في مغنم؟.
يعود التشكك الشعبي والتنظيمي بنتائج استطلاعات الرأي في المجتمع الفلسطيني لعدة أسباب، ويعتبر أهم هذه الاسباب، أن هذه الاستطلاعات تم تجريبها من قبل، و ثبت عدم دقتها، ويدلل من يرفضون تصديق هذه النتائج التي تقول أن طرفاً سياسياً يحظى بشعبية كاسحة، وغيره تقلصت شعبيته لدرجة كبيرة، يدلل هؤلاء بنتائج الانتخابات الطلابية والتشريعية والبلدية السابقة، فقد كانت كل استطلاعات الرأي - ما عدا واحد- تؤكد نتائج مماثلة كالتي تنشر الآن، وكان من الواضح أنها تنشر بطريقة ترويجية، وليس بطريقة نشر خبر، أي أنها كانت تستخدم دعائياً، وليس كناقل لرأي الجمهور الإفتراضي، وبالتالي زاد التشكيك في مصداقيتها، أما نتائج الانتخابات، فقد جاءت مخالفة تماماً للاستطلاعات، وهذا كان مفاجأة للجميع، وخاصة من كانت تقول النتائج أنهم سيفوزون فوزاً ساحقاً؟!.
المؤسسات المختصة بالاستطلاعات في الحالة الفلسطينية، كلها تقريباً، لها توجهات سياسية لا تتفق مع من تظهر الاستطلاعات دائماً أنهم لن يفوزوا في الانتخابات، وهي ممولة من جهات تفرض الحصار على من تعلن أنهم لن يفوزوا في الانتخابات، وغالبية موظفيها من أصحاب التوجهات السياسية التي تتوافق مع الممولين والخصوم الحزبيين، وهذا يفقدها المصداقية والحيادية، فقد يذهب الموظف حامل الاستبيان إلى من يرغب في أن يجيبه بما يحب، وقد يتصل بمن يريد ولا يتصل بمن لا يريد، وقد يسجل نتائج يريدها، ولا يسجل نتائج لا يريدها، وهذه قضايا يهملها الكثيرون عندما يدرسون حالة التخبط في استطلاعات الرأي الشعبية.
المجتمع الفلسطيني مجتمع لم يصل إلى الحالة التي يعيشها المجتمع الغربي الذي تكون استطلاعات الرأي فيه دقيقة بشكل عام، فالشعب الفلسطيني يعيش حالة احتلال، وحالة صراع سياسي وصل حد الاقتتال والقتل، والشعب الفلسطيني يعيش حالة حصار مميت بسبب خياره السياسي، والشعب الفلسطيني يتعرض لحالة عقاب في الوظيفة والرزق إذا كان يحمل أفكاراً معينة، أو له توجهات سياسية وانتماآت تنظيمية محددة، والشعب الفلسطيني تعرض لحرب طاحنة، قال المحققون الدوليون أنها هدفت لمعاقبته على خيارات سياسية أرادها، والشعب الفلسطيني يتعرض لاستهداف أمني متواصل ومكثف لمنعه من تأييد أو الانتماء أو إبداء التعاطف مع توجهات سياسية بعينها، وكل هذا الاستهداف موجه ضد من تظهر استطلاعات الرأي أنهم لن يفوزوا في الانتخابات؟ بل سيهزمون شر هزيمة؟.
ولذلك يطرح تساؤل مهم هنا، كيف سيجيب المواطن الفلسطيني شخصاً غريباً يتصل به ليسأله عن توجهاته السياسية؟ فالذي سيتبادر لذهنه فوراً أن المتصل قد يكون رجل مخابرات إما محلي، أو عربي أو اسرائيلي أو أمريكي، أو أن المتصل مستطلع، ولكن الهاتف مراقب، وهنا سيقع المواطن في موازنة مصيرية، هل سيجيب على السؤال بطريقة تجعله يدفع ثمن الجواب إما في رزقه، أو في حريته، أو في قوت أبنائه، أو في روحه، أو في حركته وسفره، أم سيجيب بطريقة تحميه من كل هذا العقاب، وتريح السائل؟.
في هذه الحالة، ومن خلال التجربة السابقة، يتبين أن المواطن الفلسطيني، لا يظهر آراءه بحرية، كما أن بيئة الاستطلاع النزيه الذي يحظى بالمصداقية، غير متوفرة فلسطينياً، مثلما هي بيئة انتخابات حرة ونزيهة، وهنا قد يظهر المواطن كافة أشكال الدعم الخارجي لمن يأتيه بالمنفعة المادية، وفي نفس الوقت يجيب بطريقة تدفع عنه الأذى بكافة أشكاله، ولكنه أمام انتخابات حرة ونزيهة، وأمام ورقة الاقتراع وبعيداً عن التهديد، سيقول شيئاً آخر، وهذا ما جرى تحديداً في الانتخابات السابقة، فقد كان ظاهر الأمور يقول أن الأمور سائرة لجهة ما، ولكن واقع الأمور وباطنها كان يسير باتجاه آخر.
وفي هذا المقام تحضرني قصة حوارية بين أحد المتعاطفين مع من تقول الاستطلاعات أنهم سيخسرون الانتخابات، وبين مسؤول أمني محلي استدعاه للمقابلة، وتناول الحوار بينهما هذه القضية تحديداً، وتحدث المسؤول الأمني بأنه حقق مع أكثر من خمسماية وخمسين عنصراً ومتعاطفاً من هذا التنظيم، وغالبيتهم العظمى يقولون أنهم ليس لهم صلة بهذا التنظيم، فسأله محاوره:- إذا كان أبناء التنظيم، والمتعاطفين معه، يقولون لك نحن ليس لنا علاقة بهذا التنظيم، خوفاً من دفع ثمن كلامهم، فهل تتوقع أن يقول لك المواطن العادي أنه يتعاطف معهم؟.
منذ الانتخابات السابقة، لم تجر انتخابات على الساحة الفلسطينية، إلا في حالات محدودة، وفي محافل طلابية جامعية، وكانت النتائج تنافي ما تقوله استطلاعات الرأي المنشورة بكثافة، بالرغم من أن هذه الانتخابات لم تحظ ببيئة مناسبة، وكانت تتم في أجواء الصراع السياسي الموجود.
فإذا كانت استطلاعات الرأي، تنشر بطريقة دعائية واحتفالية، وتقول أن المنافس السياسي سيهزم شر هزيمة، فلماذا لا يسمح له بالمنافسة في أجواء حرة و نزيهة، وإذا كان النجاح مضموناً، وباكتساح، فلماذا لا يقال للخصم، تعال للانتخابات ومعك كامل الحرية للمشاركة، بلا استهداف أمني، ولا تهديد في الأرزاق، وبلا تضييق سياسي وإعلامي؟ ولماذا الاصرار على خلق واقع انتخابي مختل، و لا يمكن أن تجري فيه انتخابات نزيهة وتكافؤ فرص، بعيداً عن التهديد أو الترغيب.
هذا الموقف يؤكد أن هذه الاستطلاعات ليست ذات قيمة عملية، ولا تعطي الإجابات الشافية للسياسيين على اختلاف توجهاتهم، ولكنها فقط تستغل دعائياً، وهذا يعزز الرأي القائل أنه لا يمكن أن يتم اعتماد نتائج استطلاعات الرأي التي تنشر فلسطينياً، وهذا عائد لخلل جوهري يمس كافة مفاصل العملية.