أبو مازن.. الرحيل المحتوم
مؤمن بسيسو
يتملكني العجب من بقاء "أبو مازن" سياسيا واستمرار زعامته الوطنية حتى اليوم رغم النكسات والمصائب التي حلّت بالشعب الفلسطيني في ظلال حكمه البائس وقيادته الهاوية!
يستحق الرجل بامتياز نزع صفة الذكاء السياسي والوطني عن مجمل سلوكياته ومواقفه، ويستحق –أيضا- منذ وقت طويل محاكمة جادة لأدائه الجدلي وسلوكه الإشكالي ونهجه الهدام الذي أربك الساحة الفلسطينية طيلة الأعوام الفائتة، وشرّع فيه ظواهر الاستئصال السياسي والاغتيال الميداني والانقلاب على أخلاقيات العمل الوطني ومبادئ التجربة الديمقراطية.
في كل محطاته السياسية والوطنية التي تولى فيها كبر المسؤولية وصنع القرار كان "أبو مازن" يُرسي كل مرة لبنة تلو اللبنة في جدار انتحاره السياسي، ويقدم أنموذجا سافرا على فشله الوطني وعجزه البائن عن تحقيق الحد الأدنى من متطلبات التوافق الوطني والتمثيل الحقيقي لكافة الأطياف والشرائح الفلسطينية.
امتدت فترة حكم "أبو مازن" من بداية عام 2005 وحتى اليوم عقب رحيل الرئيس ياسر عرفات رحمه الله، تخللتها سقطات مدوية ونكسات هائلة بكل ما تحمله الكلمة من معان، ولم يكن سوى الحسم السياسي والبتر الوطني علاجا وحيدا يتكفل بانتشال الشعب من هول المآزق والنكسات التي تم زجّه فيها في ظلال سياسة "أبو مازن" المتهالكة بكل المقاييس.
بعبارة أخرى، فإن سبيل الإسقاط والإخراج من دائرة المشهد السياسي والوطني كان الحل الأمثل للخلاص من ربقة النهج الكارثي الذي امتهنه "أبو مازن"، وجرّ إليه حركة فتح بكافة مجاميعها، وأورث من خلاله الفلسطينيين سلسلة طويلة من المشاكل والأزمات والتعقيدات التي لا يزالون يتجرعون آثارها المدمرة حتى الآن.
الإسقاط المرتجى كان يفترض أن يكون سياسيا ووطنيا وحزبيا بامتياز، وأن تشترك في صناعة تفاصيله كافة القوى الحية في الشعب الفلسطيني، وعلى رأسها حركتا حماس وفتح، في إطار رؤية واضحة تستهدف تفعيل وتحشيد البعد الشعبي والمؤسساتي، على اختلاف أطيافه ومشاربه، في الداخل والشتات، وحمله على إسناد حملة وطنية منظمة لمحاصرة شخص "أبو مازن" ونهجه الشاذ المتمثل لكافة معاني الانبطاح والانهزام حتى النخاع.
ما يؤسف له أن فتح قد انشغلت بترتيب بيتها الداخلي على حساب النهج والسياسة، وجنحت لأولوية إعادة ترتيب المؤسسة القيادية السلطوية والتنظيمية بعيدا عن الأصول الوطنية الحقّة، دون أن تدرك أن أولويات أجندتها التنظيمية والسلطوية التي تم تغليبها على الأولويات الوطنية سوف تحيل الحركة إلى مشروع سياسي ووطني هزيل يُساق إلى حتفه المحتوم، وتقود القضية الوطنية إلى مهالك سياسية تترك آثارها الفادحة على مجمل العمل الوطني الفلسطيني، والعلاقات الفلسطينية الداخلية، ومصير ومستقبل القضية الفلسطينية.
وما يؤسف له أيضا أن حركة حماس وقوى المقاومة قد انشغلت بجدلية الفعل وردّ الفعل إزاء "أبو مازن" وحركة فتح، وغاصت في متاهة المناكفات الحزبية إلى حد كبير، ولم تفلح في تحييد بعض الأوساط ومراكز القرار داخل فتح والسلطة بهدف توظيفها واستخدامها إيجابيا لصالح جهد عزل "أبو مازن" ونهجه الخطير، في وقت كان من الممكن فيه تغذية وإشعال التناقضات الداخلية في فتح عبر اجتراح سياسة متوازنة لا تضع القوم في سلة واحدة، وتحسن التعاطي مع كل وسط وتيار وفق الأجندة التي يتبناها ويرفع لواءها.
كل ذلك ساهم في تأمين انطلاقة مريحة لـ"أبو مازن" ونهجه، وحقق له نجاحا واضحا تمكن بموجبه من حشد الأنصار والأتباع، وتكريس الولاءات التنظيمية والسلطوية، واستجلاب دعم مراكز القوى والنفوذ، مما أحاله إلى زعيم أوحد لفتح والسلطة والمنظمة لا يجرؤ أي لوبي فتحاوي أو سلطوي على المساس بقيادته أو تغيير وقائع تفرده بسلطة صنع السياسة وتوجيه القرار أيا كان.
الحقيقة المرّة التي ينبغي أن يستوعبها الجميع أن مهمة إسقاط "أبو مازن" هذه الأيام تبدو أكثر صعوبة مما كان عليه الأمر في السابق، فالرجل يحظى اليوم بدعم فتحاوي وسلطوي هائل وغير مسبوق تمكن من إنجازه عبر خلق منظومة غير أخلاقية ارتكزت على شراء الذمم وضمان الولاء على أساس من نظرية الترغيب والترهيب، وأحال معه فتح، الحركة الوطنية ذات التاريخ المجيد، إلى قطاع واسع من الموظفين وعبّاد السلطة والجاه والمناصب والامتيازات، الذين تقزّمت مفاهيم الوطن والعمل الوطني في أعينهم وأفهامهم، وباتت أكثر استجابة لحاجة الواقع المشوّه المأزوم الذي تستحثّ مفرداته ومحطاته القوى الكبرى لخنق وتصفية القضية الفلسطينية، وتحويل أهلها إلى لاجئين يتسولون غوث وصدقات الآخرين.
بل إن القلة في فتح التي لا تزال تعتاش على رصيد الراحل عرفات وتتغنى بأمجاده قد تم تهميشها طورا، واحتواؤها طورا آخر، وأخذت موقعها كغيرها في إطار الركب السائر إلى ما يريده الربّان "أبو مازن" دون أن يكون لها شرف الدفاع عن المبادئ التي نادى واغتيل من أجلها عرفات.
يترافق ذلك مع أجواء فلسطينية داخلية تشكل استعصاء أمام مهمة عزل "أبو مازن" على إيقاع الانقسام السياسي والجغرافي، فقد وفر له الانقسام وضعا مثاليا لتعزيز سلطته وإحكام قبضته على مفاصل القوة والنفوذ في كيان فتح والسلطة والمنظمة، وأطال كثيرا في عمره السياسي والحزبي، وجعله بمنأى عن يد المساءلة والحساب من أي جهة أو طرف كان.
كان تربّع "أبو مازن" على عرش قيادة حركة فتح واستئثاره بأزمّة القرار في منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية فاتحة الخطايا التي اقترفتها فتح عن جهل مدقع وسوء تقدير منقطع النظير.
لم يدُرْ في خلد فتح حينها أن الرجل يحمل في ثنايا فكره نهجا متكامل الأبعاد لا يمكن احتماله وطنيا بأي حال من الأحوال، وأن آثار هذا النهج ستورد الوضع الفلسطيني والقضية الفلسطينية مهالك جمة، وتبذر في التربة الفلسطينية غرسا نشازا سيثمر فيما بعد ثمارا خبيثة، وسيتمخض في نهاية المطاف عن حصاد مسموم قد يستغرق الفلسطينيون وقتا طويلا قبل أن يعالجوا تداعياته البالغة ويستدركوا ما يترتب عليه من مصائب.
ولم يخطر على بال فتح أيضا، وخاصة أوساطها النزيهة ذات الصلة بالنهج الوطني والكفاحي، أن "أبو مازن" يمتشق سيفا بتارا لسحق القيم والمفاهيم الوطنية وكل ما يمت لعهد عرفات بصلة، وتخليق مفاهيم وقيم "وطنية" جديدة تشكل أساسا لتنشئة سياسية ووطنية تستهدف صناعة فلسطينيين جدد يؤمنون بالتعايش مع الاحتلال، ويرون في التنسيق والتعاون معه ضرورة وطنية لا فكاك عنها، ويعتقدون أن إيذاء المحتل تحت أي شكل من أشكال المقاومة ضرب من ضروب العنف والتطرف والإرهاب الذي تنتفي معه المصالح الوطنية التي تم إعادة تعريفها وصياغتها بما ينسجم مع ظروف الواقع المنكسر واشتراطات الانخراط في صلب البيئة الإقليمية والدولية الممالئة للاحتلال والمعادية لحقوق وتطلعات شعبنا الفلسطيني.
وكانت النتيجة وبالا على الوطن أولا وفتح ثانيا، فما يكاد الوضع الفلسطيني يخرج من أتون أزمة إلا ويفجع بأخرى، في حين تحولت فتح على يد "أبو مازن" إلى مشروع سياسي يرتبط مصيره بمصير الاحتلال، وكيان حزبي يأتلف تحت كنفه أصحاب المصالح والمنافع وذوي الانتهازية والأجندات المختلفة، ولا يبدو حظ القلة القليلة من قيادتها وكوادرها التي تحافظ على شرف الثورة والخط الوطني ذا بال في ظل سيطرة "أبو مازن" على قرار الحركة وهيمنته على مقدراتها المختلفة.
وما هي إلا أشهر معدودات إثر تصدره للمشهد الوطني حتى تكشّف فشل "أبو مازن" السياسي، وسقوط نظريته السياسية التي مهدت فيما بعد لسقوط نظريته الوطنية.
"أبو مازن" هو القائد الفلسطيني الوحيد حتى الآن الذي جرؤ على المساس بثوابت الشعب الفلسطيني وتجاوز الخطوط الحمراء الوطنية عن قناعة كاملة وعقيدة سياسية راسخة، واستعد لدفع الأثمان السياسية المطلوبة إسرائيليا لإبرام حلول سياسية تمسخ الحقوق الوطنية الفلسطينية، وعلى رأسها قضيتا القدس واللاجئين.
انخدعت فصائل المقاومة بمعسول كلماته ووعوده بإرساء كيان مؤسسي ديمقراطي عصري، وأعطته تهدئة من طرف واحد، وفي مخيلته وفريقه المحيط هدف واحد يستحث الخطى إليه بكل العزم والإصرار، غير أن فوز حماس المفاجئ أذهله وقلب حساباته رأسا على عقب.
ورغم انبطاحه السياسي أفشلته "إسرائيل"، ولم تقدم له حتى النزر اليسير الذي يحفظ له ماء وجهه أمام أبناء شعبه طيلة عام كامل إثر انتخابه رئيسا للسلطة، وتعاملت معه كأداة لتحقيق مصالحها الأمنية، ووكيلا عن جيشها في ضرب المقاومة ومحاصرتها وتشويهها بشتى الوسائل، لتجيء حماس عبر صندوق الاقتراع وتضع حدا لانسيابيته واسترساله اللامتناهي مع مشروعه السياسي، ويبدأ "أبو مازن" معها مرحلة جديدة من الانقلاب على التجربة الديمقراطية الناشئة، ومحاولة تفريغ نتائج الانتخابات من مضمونها، والدفع باتجاه تصفية حماس سياسيا عبر إجبارها على تبني نهجه السياسي تحت ذريعة الامتثال لالتزامات منظمة التحرير كمدخل للقبول الدولي والإقليمي.
لأجل ذلك فُرض الحصار السياسي والاقتصادي لتقويض حكم حماس وتجربتها الجديدة، وكان "أبو مازن" ركنا ركينا فيه وأحد أعمدته الكبرى، واستمر الحصار، واستمر حكم حماس، ولم تلحْ في الأفق أي بادرة للسقوط.
لم يزدجر "أبو مازن" ويأخذ العبرة من فشل أساليبه السياسية في إسقاط حكم حماس، بل انتقل في غيّه خطوة نوعية أخرى حين تواطأ مع فريقه على إسقاط حماس بالقوة العسكرية، ومنح الضوء الأخضر لخطة "دايتون" في إجهاض المقاومة وضرب بنيتها التحتية، وترك أجهزته الأمنية رهنا لإعادة الصياغة والتشكيل وفقا للمشيئة الأميركية والإسرائيلية، وسهر على تطبيق بنود ومقررات خطة الانقلاب التي شملت توريد السلاح الأميركي والإسرائيلي، وإرباك الوضع الأمني والميداني عبر سلسلة متعاقبة من الاغتيالات وأشكال العبث والتخريب الأمني، توطئة للضربة العسكرية الكبرى التي أجهضتها حماس قبل وقوعها برسم الحسم العسكري الذي وضع خطة "دايتون"، ومعها "أبو مازن" وفريقه، خارج السياق.
وفي مرحلة ما بعد الحسم أصدر الرجل قراراته التي عاقب فيها أهل غزة جماعيا، فأقال حكومة الوحدة الوطنية، وشكل حكومة "فياض" اللاشرعية، وأقدم على فصل آلاف الموظفين، وتعاقبت مراسيمه الرئاسية تترى في تعطيل القانون الأساسي الفلسطيني وتجريم المقاومة وإخراجها عن القانون، وأقسم أغلظ الأيمان على عدم الحوار مع "القتلة" و"الظلاميين"، وتواطأ مع المتواطئين على خنق غزة وتشديد الحصار عليها، يحدوه أمل جارف في انهيار مدوّ لحماس وغزة وأهلها الذين احتضنوا المقاومة وصمدوا صمودا أسطوريا عزّ نظيره في العصر الحديث.
وعندما تجرّع مرارة الفشل، وجرّ ذيول الخيبة بفعل صلابة غزة وجسارة أهلها لم يبق في جعبته سوى تحريض "إسرائيل" على إسقاط سلطة حماس وسحق غزة عسكريا، والعودة على ظهر الدبابات الإسرائيلية، ليكابد أهل غزة ويلات حرب شرسة مجنونة أتت على الأخضر واليابس، ولم ترقب في أحد إلاّ ولا ذمة.
ولم يكتف "أبو مازن" بذلك، بل بلغ به التواطؤ والانسلاخ من جلده الفلسطيني مداه حين سولت له نفسه سحب تقرير "غولدستون" من أروقة مؤسسات العدالة الدولية، وتبرئة الاحتلال من مجازره الوحشية، وحرمان الفلسطينيين من فرصة تاريخية تبدو سانحة للمرة الأولى لمحاكمة قادة الاحتلال على جرائمهم البشعة، مما ينفي عنه الصفة الوطنية، ويقذف به إلى معسكر الأعداء، ويجعل منه شخصا غير ذي صلة بقضية الشعب الفلسطيني وحقوقه السليبة.
بإيجاز، تلك هي سيرة "أبو مازن" التي أورثتنا النكبات، وذلكم هو نهجه الذي أوردنا المهالك، ووضع رقابنا تحت سيف الأعداء، وأعاد قضيتنا سنوات وسنوات إلى الوراء.
قد تكون حماس وقوى المقاومة مضطرة لمصافحة الرجل لإبرام اتفاق المصالحة الوطنية واستعادة التوافق الفلسطيني الداخلي، لكنها حين تفعل ذلك لا تفعله رغبة في إنقاذه أو سكوتا عن مسلسل غيّه السياسي وانحداره الوطني، وإنما تفعل ذلك لاستنقاذ الوضع الفلسطيني من الأزمات الخطيرة التي صنعها وتسبب فيها "أبو مازن" وفريقه، وإخراج القضية الفلسطينية من براثن الاستهداف الذي يتربص بها دوائر التصفية والتذويب.
خلاصة القول إن على "أبو مازن" أن يرحل مهما تمسكت به حركته، ومهما حاز من دعم إقليمي ودولي، وأن صلاحيته الوطنية والسياسية يجب أن تنتهي عقب اتفاق المصالحة، ولئن بقي من بعد فإن عمره السياسي ينبغي ألا يطول كثيرا، وأن يُصار بعدها إلى محاكمته وطنيا أمام محكمة عادلة كي يكون عبرة لمن يعتبر.