المتسلِّقون-2
المتسلِّقون
-2
د. عبد الله السوري
لا أقصد تسلق الجبال، فهو رياضة محمودة، تنمي البدن والإرادة والصبر، وإنما أقصد تسلق البشر لإخوانهم البشر، وتسلق شخص ما لأسرة أو جماعة أو قبيلة أو حزب معين فيصعدون على أكتاف البشر، ويبنون من جماجمهم قصوراً لأنفسهم ولأولادهم من بعدهم ...
والمتسلق هذه المرة هو جمال عبد الناصر الذي تسلق حركة الإخوان المسلمين حتى صار رئيساً لمصر، ثم انقلب عليهم ونكل بهم وأذاقهم صنوف العذاب، لأنه جيء به من أجل القضاء عليهم ...
1- الإخوان المسلمون في مصر حركة سياسية قوية وكبيرة أواخر الأربعينات يقول جورج ميتشل في كتابه ( الإخوان المسلمون ) : ص 84 (( نمت جمعية الإخوان المسلمين ...حتى أصبحت إحدى الهيئات السياسية المهمة المتبارية على المسرح المصري ...وأصبحت عضويتها من الشمول حتى غدت تمثل جميع طبقات المجتمع المصري، وأهم من ذلك أنها تغلغلت في صفوف تلك الفئات التي كان يسعى إليها أكثر من غيرها وهي فئة الموظفين والطلبة وفئة عمال المدن والفلاحين ...وخرج المركز الرئيس ( للجمعية ) من أزقة الأحياء الشعبية إلى شوارع القاهرة الرئيسية، وتبدلت الغرف الصغيرة إلى مبان وأرض يحتلها أمناء ( سكرتاريون ) وكتبة وموظفون، يعملون ليقابلوا النماء في العضوية والتزايد في القوى، وأوجه النشاط في الداخل والخارج ...)) .
2- ويقول الأستاذ محمود عبد الحليم في كتابه القيم ( الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ )( 1/ 345) : (( بحلول عام 1944 وصلت الدعوة إلى أوج الذيوع والانتشار، فلم يعد مكان في مصر يخلو من شعبة، كما أصبحت الجامعة والأزهر قلعتين من قلاع الدعوة ...وصار الإخوان في مصر أعلى صوت شعبي، واتجه الجميع يخطبون ود الدعوة، وينثرون الزهور في طريقها، وحاول الكثيرون من الشخصيات البارزة أن يجدوا لهم أماكن فيها، ...حتى أبناء الأسر الارستقراطية بدأوا يتطلعون إلى أماكن لهم فيها )) .
وأعتقد أن لاحاجة إلى مراجع تؤكد أن جماعة الإخوان في مصر كانت أكبر حركة سياسية في نهاية الأربعينات، وكانت مهيئة لاستلام الحكم وتطبيق الشريعة الإسلامية في مصر، لذلك انتبهت لها أمريكا وخططت ونفذت انقلاب الضباط الأحرار عام (1952) بواسطة جمال عبد الناصر ...
3- والمعروف لدينا أن جمال عبد الناصر التحق بهذه الجمعية، يقول صلاح عبد الفتاح الخالدي في كتابه القيم ( سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد) ص 287 (( أجمع المؤرخون من الإخوان المسلمين على التخطيط الإخواني للثورة المصرية، وأن هذا التخطيط بدأ في الأربعينات، ومن مذكرات عبد المنعم عبد الرؤوف ألخص هذه الحقائق باعتبارها أهم وثيقة عن التخطيط الإخواني قبل الثورة، وتجميع الضباط الملتزمين للقيام بها ...يقرر عبد المنعم عبد الرؤوف أن الأخ المسلم الصاغ ( محمود لبيب ) كان وكيل الإخوان المسلمين للشؤون العسكرية، وقد كان عبد الرؤوف مواظباً على حديث الثلاثاء، ثم صار يدعو معه ضباطاً آخرين كان في مقدمتهم جمال عبد الناصر حسين، في شهر اكتوبر (1942)، وتم تشكيل أول أسرة إخوانية للضباط ؛ مكونة من سبعة من ضباط الإخوان المسلمين، وكان نقيب الأسرة الصاع محمود لبيب والأعضاء هم الضباط : عبد المنعم عبد الرؤوف، جمال عبد الناصر، صلاح خليفة، خالد محي الدين ....
وبعد هدنة ( رودس ) بين اليهود وقادة الدول العربية، عام (1949) عادت قوات الجيش المصري من فلسطين، وكان من بين العائدين جمال عبد الناصر الذي كان محاصراً في الفالوجة( !!!)، وعقدت قيادة (الإخوان الضباط ) برئاسة محمود ليبب وحضور الضابطين عبد االرؤوف وعبد الناصر ؛ اجتماعات عديدة انتهوا فيها إلى وجوب الثار لمقتل الشهيد حسن البنا، ... والقيام بانقلاب إسلامي وتدريب المدنيين من الإخوان المسلمين، وبدء القتال ضد قوات الانجليز، وفي مايو 1949 استدعي الضابط جمال عبد الناصر إلى مكتب رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادي للتحقيق معه بتهمة انتمائه إلى الإخوان المسلمين، لكنه نفى التهمة، وأرسل محمود لبيب مرتب شهر إلى زوجة عبد الناصر وأبلغها اهتمام الإخوان الضباط بموضوع التحقيق مع عبد الناصر، وأنهم لن يتخلوا عنه ... واقترح محمود لبيب المسؤول عن تنظيم الضباط الإخوان تغيير اسمه إلى ( الضباط الأحرار ) لإبعاد اسم جماعة الإخوان المسلمين المكروه من الملك والأحزاب والانجليز ....
وفي سبتمبر 1949 ظهر خلاف بين عبد الرؤوف وعبد الناصر، الذي يريد الإسراع في عمل انقلاب، ويريد فتح تنظيم ( الضباط الأحرار ) أمام ضباط الجيش عموماً حتى الذين لايتصفون بالخلق الإسلامي الكريم ...وضم عبد الناصر صلاح سالم وعبد الحكيم عامر للتنظيم، وبعد بضعة شهور ( !!!) مرض محمود لبيب وأصيب بالفالج وعجز عن الكلام ...واعترف عبد الناصر أنه استلم منه قبل موته أسرار وأسماء وأموال التنظيم الإخواني للضباط الذي عرف ب(الضباط الأحرار).
يقول صلاح الخالدي ص 291(( من هذا التلخيص الموجز نعرف أن تنظيم ( الضباط الأحرار ) الذي قام بثورة عام (1952) في مصر تنظيم إخواني أساساً، وأنه ظل إخوانياُ صرفاُ حوالي خمس سنوات منذ تأسيسه عام (1946) وحتى استقلال عبد الناصر به عن الإخوان عالم (1950) . ثم استقل عبد الناصر بتنظيم الضباط الأحرار بعد عام (1950) وانفصل به عن قيادة الإخوان المسلمين .....)) .
(( وحتى الأيام الأخيرة للتمهيد للثورة، ظل عبد الناصر يتصل بالقيادة الإخوانية، ويريها أنه مازال على ولائه للإخوان، وانتمائه لهم، وأن ضمه لضباط من غير الإخوان؛ لايعني انقطاعه أم انفصاله عن عضوية الجماعة )) .
وصلة جديدة مع الإخوان :
قطع عبد الناصر صلته بالإخوان عن طريق الأخ عبد المنعم عبد الرؤوف وحسين حمودة، وغيرهم من الضباط الإخوان الملتزمين بالجماعة،ويدركون أهداف عبد الناصر.... وأقام عبد الناصر صلة جديدة عن طريق الضابط الإخواني صلاح شادي يرحمه الله كما ورد في كتاب صلاح شادي ( صفحات من التاريخ ) وقبلت قيادة الإخوان بهذه الصلة الجديدة لعبد الناصر، وبذلك تخلص عبد الناصر من الضباط الإخوان الذين كانوا يعرفونه ويحذرون من تغيره المفاجئ في أفكاره، وخفي على الفريق الجديد ( شادي وإخوته حسن العشماوي، عبد القادر حلمي،فريد عبد الخالق، صالح أبو رقيق )؛ خفي عليهم حقيقة أغراض عبد الناصر...
(( وقامت الثورة في 23 يوليو 1952 بتنسيق كبير بين عبد الناصر والإخوان المسلمين، وفي (30 يوليو 1952) عقد أول لقاء بين عبد الناصر والمرشد العام حسن الهضيبي يرحمه الله، في منزل الأخ صالح أبو رقيق، أحد أعضاء لجنة الاتصال مع عبد الناصر، وبحضور الإخوان الخمسة أعضاء اللجنة، ويروي أبورقيق أن عبد الناصر رفض في ذلك اللقاء أب تنسيق أن تعاون أو تشاور وقال : ( إنه يرفض الوصاية من أي جهة على الثورة ) .
((والخلاصة نرى كيف أن تنظيم الضباط الأحراربدأ إخوانياً صرفاً، وكيف أن الإعداد للثورة بدأ عند الإخوان المسلمين، وعلى أيدي ضباطهم،وكيف أن عبد الناصر الضابط الإخواني الموثوق عندهم قد ابتعد بالتنظيم واستقل به وبالثورة عن الإخوان، وبطش بهم شر بطشة )) ..
إذن عبد الناصر انقلب على الإخوان المسلمين ونكل بهم ودمرهم بعد أن وصل إلى حكم مصر على أكتافهم ....
وهكذا يتضح لنا كيف تسلق عبد الناصر على أكتاف جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وسرق منها الثورة المصرية، وسخر الإخوان من أجل قيام الثورة ودعمها، ثم انقلب عليهم بعد أن استغنى عنهم ....
وفي هذا الكتاب تجد صوراً لرجال الثورة ( الضباط الأحرار ) يلتقون ويعقدون اجتماعاتهم في منزل سيد قطب يرحمه الله في حلوان، واستمرت الصلة بينهم وبين سيد يرحمه حتى بعد قيام الثورة عام (1952) ...
ولهذا الأمر حلقة جديدة، تظهر كيف تسلق عبد الناصر على أكتاف سيد قطب يرحمه الله، ثم أعدمه عام (1966) بأمر من الاتحاد السوفياتي ...