الشهادات العليا
الشهادات العليا
نجدت الأصفرى
مما لا شك فيه ان العلم نور والجهل ظلام لذا نجد كافة الاديان السماوية تحث على العلم. والاسلام كان واضحا في الحث على العلم من اول وحي نزل على رسوله الكريم بقوله (اقرأ) ومن ثم (والقلم وما يسطرون).. الى ان خلص الى قوله (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون).. وقد طبق الرسول (ص) لاول مرة فدية الاسير ان يعلم عشرة من رجال المسلمين وحث على طلب العلم ولو كان بالصين، فتسابق الناس لتحصيل العلم. والعلم نافع كان ما كان اتجاهه وسبيله.. يفتح عيون الناس الى الاستفادة مما خلق الله لهم من بيئة جميلة تختزن الكثير من المنافع لا يصل اليها الا من بحث وفكر وعمل ففشل عدة مرات ثم نجح اخيرا فقطف ثمرة جهوده وعلمه.. وما تتمتع البشرية به اليوم من منجزات حضارية في كافة المجالات الا ثمرة هذا العلم العظيم..
والعلم نوعان.. نظري يبقى سطورا تنتقل من الكراريس الى الصدور لا تغادرها وتذهب مع صاحبها الى قبره. وعملي يطبق فيه النظري على تجارب وتطبيقات وتعديلات عملية حتى يقتطف ثمرة جهد متواصل طويل قد يشترك فيه اشخاص بل اجيال حتى يصل الامر الى تمامه وتستمتع المجتمعات بما وصل اليه العلماء من منتجات نافعة.
بدا العلم مجمعا ثم تجزا لاختصاصات ، والطبيب الذي كان يعالج ويصف الدواء لكافة أجزاء الجسم من رأسه وشعره حتى أقدامه و أظافره أصبح اليوم اختصاصات مختلفة يدور في فلكها علم واسع واجهزة معقدة سهلت التشخيص والمعالجة.. نفس الشيء يحصل مع مهندس كان يخطط ويحسب ويرسم وينفذ ويحمل بيديه وعلى كتفيه حتى اصبح الان وبمساعدة التكنولوجيا لا يغادر مكتبه الا في زيارة قصيرة لموقع العمل تخدمه آليات ومعدات تعمل دون كلل او ملل ليل نهار وقد حلت مكان آلاف العمال والمهندسين.
ونخلص من هذه المقدمة الى الفوائد التي قطفها الناس من تطور العلوم وتقدمها.. ويعرف التقدم بحصول المتعلم على شهادات تبدأ متدرجة من الروضة وحتى الجامعة ومن تتاح له الفرصة شد العزم الى الدراسات العليا حتى ينتهي الى اعلى الشهادات الدارجة اليوم والمسماة
"الدكتوراه " لاختصاص معين يحصل عليها من حصر دراسته على مادة معينة بحثها بالتفصيل في المراجع القديمة والحديثة واجرى عليها التجارب والتعديلات حتى اذا استوفاها بحثا وتمحيصا.. ناقش الرسالة امام مجموعة من العلماء في المجال نفسه يوسعونه مناقشة واسئلة وبحثا حتى اذا اقروا له بالاجازة اصبح يدعى دكتور في مادته التي اختارها.
ينظر الكثيرون للدكتور بانه عالم فذ يختزل الجواب لأي سؤال في مجاله بجمل بسيطة واضحة مقنعة تغني السائل عن البحث الطويل في المراجع ليصل الى ما افاده الدكتور المختص بالاجابة.. يعني ان الدكتور عالم خبير في اختصاصه يغنيك عن البحث الطويل والعمل الشاق، وقد حاز الدكتور على الوظيفة التي يريدها وحصل على المركز الذي يريد .. مميزات لا يحصل عليها الا من حمل الشهادة المذكورة.
الناس في الغالب قسمان: احدهما ذكي بالفطرة سريع الفهم خال من المعوقات يحوز على هذه الشهادة بيسر وسهولة اذا توفر له الوقت والرغبة والمال، والثاني كسول خمول ليس لديه الرغبة حنى ولو كان لديه الوقت والمال.. لذا يبحث عن وسائل اخرى ليحصل على هذه الشهادة ومن ثم المركز.
هذا الصنف من الناس ممن يرغبون في الحصول على اعلى الشهادات دون جهد او تعب يلجؤون الى اساليب جانبية قصيرة تجنبهم سهر الليالي لطلب العلى، فبدؤوا يبحثون حتى وصلوا الى ما يريدون ومن ذلك القصة التالية:
الرقيب رفعت الاسد كان بعد الانفصال وبدء الانقلاب البعثي سنة 1963 احد عناصر الأمن العسكري في مدينة ادلب ثم نقل الى سلاح البحرية في اللاذقية .. حتى اذا ثبت اخوه حافظ الاسد اقدامه في النظام الجديد واعيد للخدمة كقائد للواء الجوي السابع في قاعدة الضميرالجوية ثم بدأ يتسلق سلم المسؤوليات والقيادة حتى وصل الى وزير دفاع.. انعكس هذا التطور على اخيه رفعت واستفاد من منصبه في الحصول على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) التي اهلته لدخول قسم الجغرافية بكلية الاداب بجامعة دمشق، وفتح المنصب الجديد طموحه لتكملة السلم، وكان قد اسس سرايا الحراسة والدفاع (الاسم المرعب في سورية) لمليشيا اشد واخطر على الشعب السوري من اي عدو داخلي او خارج.. استغل الرعب الذي عشش في قلوب العباد فتجنب الناس اي عمل او قول يجعلهم في تماس مع هذه السرايا. كان هذا ينسحب على الهيئة التدريسية في الكلية، فكان يحصل بجدارة على (امتياز)في كل مادة قدم اختبارا لها.
في السنة الرابعة عند التخرج تفتق ذهن العبقري على التالي:
حدثني ضابط مخابرات عمل معه كان احد ابطال هذه الرواية (اقدمها على ذمته مع انني لا اثق بما يقولون) .. كان الوقت ليلا فكلفنا العقيد (القائد رفعت) نائب رئيس الجمهورية احضار (سَوق) عميد كلية الجغرافية من بيته الى الفرع الذي يديره رفعت ضمن الاجراءات المتبعة.
احتلينا الحارة التي يسكنها الدكتور المسكين وتسورنا البيوت وكنا عدة سيارات واكثر من خمسة عشر عنصرا برتب مختلفة.. والقينا القبض على المذكور وسقناه بالبيجامة بعد منتصف الليل واجلسناه في الممر ذو الاضاءة الضعيفة ليكون الجو رهيبا، وجلس ساكتا لا يتكلم ولا يكلمه سوى الضابط المناوب الذي لا يعرف السبب في قبضه واحضاره، فاتبع معه اجراءات الترهيب بأسئلة قصيرة:
من انت؟.. عمرك.. تولدك.. عملك.. افراد اسرتك.. لماذا انت هنا؟.. ماذا تفعل؟.. والرجل يرتعش خوفا، وتركوه هكذا حتى الرابعة صباحا حيث حضر رفعت فسرى في الفرع نشاط غريب.. جاء المعلم.. جاء القائد.. وأظهر رفعت دهشته عندما رآه كانه لا يعلم بذلك وطلب من العناصر ان يدخلوه الى مكتبه وسلم عليه بحرارة قائلا.. ياا لهي لا اصدق.. يا دكتور لماذا احضروك؟.. هل فعلت شيئا؟. قال أبدا.. نادى على الحاجب الواقف على الباب هات با ابني قهوة او شاي.. شوف الدكتور ماذا يشرب وهات لي ملفه لأرى ما المشكلة.
رجع بالقهوة العربية والشاي معا وآخر دخل بيده ملف فيه بضع ورقات مكتوب على الملف الأصفر اللون اسم الدكتور بالخط العريض ووضعه امام (القائد) رفعت بعد ان ادى التحية وانصرف.
الدكتور المسكين على بعد امتار من المكتب يغوص في مقاعد جلدية فخمة لكنه لا يرى ولا يسمع من الخوف ..
وتصفح القائد الاوراق وهو يهز رأسه ويزم شفتيه ويرفع حاجبيه، ثم التفت الى الفريسة يسأل دكتور استغرب ما اسمع عنك.. سأل المسكين ماذا تسمع قال لا استطيع ان اخبرك فإن ذلك ضد مصلحتنا في افشاء اسرار مصادرنا التي نحرص عليها.. لكن اود انا وانت ان نحمد الله انني اتيت الى هنا على غير عادتي.. فقد اصابني ارق منع النوم عني فحضرت الى هنا لأنه ليس لي مكانا اخر اذهب اليه.. ولولا جئت لكان حصل لك ما تحمد عقباه.. انت تعرف ان في شعبنا حمير كثير لا يفهمون ولا يعطوا الناس كرامتهم ومنازلهم (بحضي بديانتي) امك وبيّك رضيانين عليك .. الحمد لله انني جئت بالوقت المناسب فانا غادرت من هنا حوالي الساعة 12.00 منتصف الليل.
فرح العميد وتهلل وجهه وشعر انه كسب عمرا جديدا لأن الدارج وقتها بين الناس (داخلها مفقود وخارجها مولود) وشكره من الاعماق ولم يعاود السؤال حول ماذا؟.. ومن هو الذي وشى عليه ما لا يكتبه او يقوله؟.. لأنه حريص على كل ما يفعله او يقوله بحق السلطة والمسؤولين تمسكا بالقول (ما متنا لكن ما شفنا اللي ماتوا؟) المقصود لا تضع نفسك موضع من يجرجر للمخابرات، فقطع لسانه واغلق عينيه واذنيه..
انتقل الحديث الى العموميات في البلد.. سمع العميد ولم يعلق واذا علق كان بهزة من رأسه او بسمة يابسة على شفتيه ثم فجأة سأل (القائد) دكتور.. سمعت انه في قوانين الامتحانات.. اسلوب امتحان الطلاب السجناء بأن ترسلوا لهم الاسئلة مع مراقب الى السجن ليشاركوا مع زملائهم بالاختبار.. فهل هذا صحيح؟.. اجاب الدكتور نعم .. نعم. عنها تبسم القائد فقد نجحت الخطة فقال.. الا ترى يا دكتور باننا كالسجناء يل نحن اصعب منهم حياة واتعس عيشة .. نحن مسجونين مثلهم.. ليس لنا وقت لحياتنا الخاصة ولعائلاتنا.. فهل يمكن ان تعاملوننا مثلهم؟.. تعرفون ان الامتحانات النهائية على الابواب ونحن مشغولين في مهمات لا تنتهي. اختصر الدكتور الحديث فقد فهم اللعبة قال.. طبعا، كان الله في عونكم وانتم حتى افضل من السجين فإن السجين لايد انه قد ارتكب مخالفة او ذنبا يعاقب عليه القانون بينما انتم من تسهرون على امن البلد والمواطنين وتصرفون عمركم ووقتكم بعيدا عن الحياة وعن اولادكم واهلكم.. كان الله في عونكم.. قال القائد اتفقنا وارحتني فإنني كنت على ابواب ان اذهب اليك خلال اليومين القادمين لأسالك هذا السؤال، لكن رب صدفة خير من ألف ميعاد..
وأعيد العميد وقد بدأت شمس النهار تشرق على الناس توقظ النيام الا الدكتور وجميع عائلته الذين كانوا يقرؤون له القرآن طوال الليل فلا حول ولا طول في معرفة من؟ ولماذا؟ واين اخذ ابوهم..
كانت فرحة اللقاء لا توصف ولم يتفوه الدكتور شيئا سوى ان ابن حرام كذب علي بتقرير لكن مشي على خير.. وانهالت التعليقات لكن الدكتور كان في نفسه يقول (الى جهنم وبئس المصير.. وهل ستخسف الشمس ان اخذ حمار شهادة جامعية؟!.. فكم من الحمير سيأخذونها مثله في عصر يقود الحمير شعوبهم دون وجه حق).
وارسلت للقائد صباح يوم الاختبار لجنة من مراقب واحد يحمل الاسئلة وصفحة الاجابات ينقصها الاسم فقط.. وكان ان حصل الرقيب/ العقيد/ القائد ليسانس في الاداب – فرع الجغرافية من جامعة دمشق العظيمة.
بقي القائد على خطوة من الدكتوراه وكان ان بحث ذلك مع السفير الروسي الذي دعي لزيارة نائب رئيس الجمهورية فسأله ماذا سيقدم لي الاتحاد السوفييتي كهدية وتقدير لدوري في توطيد العلاقات الودية بين بلدينا.. غمزه السفير على طاولة الفودكا التي يتناولونها مع الفستق الحلبي والفواكه بما فيها الموز الذي اختفى من الاسواق الا على طاولة القائد الذي تأتيه الفواكه من لبنان في كل لحظة. وسأله ضيفه ماذا تريد؟.. قال اريد ان اكمل دراستي للدكتوراه.. قال هل حصلت على الماجستير.. قال لا.. قال لا يمكن ان تبدا دراسة الدكتوراه حتى تحصل عليها الا اذا قبلت منحك الدكتوراه الفخرية.. وهكذا كان وأصبح بعد شهور الدكتور نائب رئيس الجمهورية القائد الرفيق.. رفعت.
اما الاستاذ ذاكر الدوري الذي تعرفت عليه في المملكة العربية السعودية ثم لما حضرت الى الكويت وجدته امامي متعاقد مع وزارة التربية والتعليم الكويتية مدرسا للغة العربية في احدى المدارس الثانوية هناك والذي لا يعرف من العربية الا اسمها وبعض ابيات الشعر الجاهلي، ولم تتأثر ثقافته بأي كلمة مؤدبة ليستخدمها في جلساته الاجتماعية، فلا يخرج عن تكرار اسماء الاعضاء التناسلية الذكرية والانثوية في احاديثه سواء كان الحاضرون رجالا او نساء.
كانت احاديثه دائما عما يفعله من عنتريات في المدرسة ضد المراقب والمدرس الاول وكبير المدرسين والناظر.. فكم ضرب هذا ابن ال... وهذا أخو ال... مستغلا الرعب الذي كان يسيطر على الكويت شعبا وحكومة من العراقيين .. اكبر جالية عربية في الكويت وسفارتهم التي كان عدد موظفيها 8500 موظف.
اختفى ذاكر ولم نعد نراه وامتدت غيبته سنة كاملة ثم ظهر فجأة.. عرفنا بنفسه الدكتور ذاكر.. دكتوراه في الادب العربي من امريكا.. عجيب يا ابو عمر هل كنت تحمل دراسات عليا قبل الدكتوراه.. لا.. عملتها كلها هناك.
وهل هذا كله انجزته في سنة؟.. نعم.. ما شاء الله ما أشطرك.. وهل تعلمت الانكليزية بهذه الفترة.. طبعا طبعا.. الامريكان شعب عظيم.. قالوا الفرق بيننا وبينهم اننا نغسل ايدينا بعد الطعام وهم يغسلونها قبله وهم يستحمون قبل النوم مع زوجاتهم ونحن نغتسل بعده.. وحتى لا يطول الحديث تبين ان ابو عمر هذا عمل لمدة سنة هناك سائق تكسي ولا تعلم ولا كلمة لكن استطاع ان يحصل على شهادة (ملونة) بمقدار من المال لاغير..
اما جريدة القبس الكويتية بعد ان حصل الامير السعودي على الدكتوراه.. كتبت التعليق التالي: كانت الرشوات للحصول على هذه الشهادات تقدم كهدايا للبروفيسور المقيّم والمشرف على البحث في المناسبات، لكنها لم تكن تتعدى طقم اقلام باركر او زجاجة عطر او ولاعة ونستون مذهبة حتى وصلت هدايا للبيت من تلفزيون وثلاجة... لكن اخونا سمو الامير "ابو سعود" (مسخها) فقد حمل الاسبوع الماضي سيارة "الرولزرويس" بطائرته الهليوكوبتر التي يستعملها للذهاب بين الجامعة وقصره وانزلها في حديقة بيت البروفيسور المشرف على بحثه للدكتوراه.. ويقال كانت هذه ( الهدية) قيمة كتابة البحث واجازته معا.. والله (وهقتونا) ماذا تركتم لنا لنقدمه بعد هذه الهدايا عندما نفكر (نحن الغلابا على باب الله) في الحصول على الدكتوراه؟..