المذابح الجماعية

خالد الأحمـد*

 يقول فلاسفة التاريخ : الهدف من دراسة التاريخ ليس اجترار الآلام ، ونبش الماضي بروائحه المتعفنة ، وإنما هو أخذ العبرة من الماضي ، لنستفيد منها في الحاضر ، وعندما أتحدث عن المذابح الجماعية التي مارسها نظام حافظ الأسـد في سوريا ، لا أقصد منها سوى أن نعتبر من الماضي المؤلم ، وأن نتخذ كافة الاجراءات والاحتياطات كي لايعود هذا الماضي ، ونجتث الأسباب المؤدية لهذا الماضي المروع من جذورها ، وأهم تلك الجذور الحكم الفردي الديكتاتوري ، الذي استخدم الجيش ( جيش الشعب ) كما قالوا عنه ، استخدم جيش الشعب ليقتل الشعب بدلاً من أن يحميه.

ريـف ادلـب :

يمتاز ريف إدلـب بانتشار الصحوة الإسلامية ، وخاصـة في جبل الزاويـة ، حيث يغلب على أهلـه التديـن ، وحب الجهـاد في سبيل الله عزوجل ، ويكثر عدد الأخوة الذين استشهدوا من ريف إدلـب ، كما يكثر عدد الأخوة المنفييـن من هذا الريـف ، وخاصـة من جبل الزاويـة .

وفي أوائل عام (1980) استقدم النظام الأسـدي خـبراء الجريمـة السـوفييت ، الذين تمرسـوا من خلال المذابح الجماعيـة التي نفذهـا ستالين ضـد المسلمين السوفييت فقتل منهم الملايين ، هؤلاء الخبراء الخبثـاء نصحـوا نظـام الأقليـة في سوريا باستخدام المذابح الجماعية ، في الأماكن التي يتواجد فيها عناصر الطليعة التي قادت المعارضة المسلحة ضد نظام الأقلية الأسدي ، وقد ساعدها على ذلك انفجار الشعب من شدة الضغط والاستبداد ، فالتحق بصفوفها أصناف شتى من الشباب المسلم .

 ومن أجل قتل عنصر واحد من الطليعة المقاتلة ؛ لامانع عندهم من قتل خمسين مواطن بـريء معـه ، ومن أجل التخلص من الطليعة المقاتلة لامانع من قتل عشرات الألوف من المواطنين الأبرياء ، وهذا ما طبقـه نظام الأقليـة في سوريا منذ عام (1980م) ، وهذا نموذج لماحدث في سوريا باختصار .

في أريحــا :

في فجر يوم الثلاثاء (13/5/1980م) استيقظ المواطنون في بلدة أريحا على أصوات الطائرات المروحية وهدير الدبابات ودوي القنابل . فقد قامت الفرقة الثالثة بقيادة العميد شفيق فياض بتطويق المدينة مستخدمة الدبابات والمصفحات  في منطقة جبل الأربعين ، الجهة الجنوبية من البلدة ، حيث نشبت معركة بين الطليعة المقاتلة وعناصر من الوحدات الخاصة في ثلاثة مواقع هي : طريق حلب ـ اريحا ، وجبل الأربعين ـ الجهة الجنوبية ، وجبل الأربعين ـ الجهة الشرقية . بينماركزت قوات حافظ الأسد دباباتها لدك مواقع مقاتلي الطليعة بقنابلها مع راجمات الصواريخ ومدافع الهاون ، وبدأ الأخوة المقاتلون من الطليعة بالرد على نيران الأسلحة الخفيفة التي بدأ حاملوها يتقدمون نحوهم بغية تطويقهم وأسـرهم ، وتمكن مقاتلو الطليعة من قتل وجرح عدد منهم وفكوا الحصار عنهم وتوزعوا في منطقة الجبل ، عدا المنطقة الشمالية ( المدجنة) إذ لم يتمكنوا من الانسحاب لقربهم من منطقة تواجد الوحدات الخاصة ، وقدتمكنوا من تدمير سيارتين محملتين بجنود الوحدات الخاصة قدر عددهم بثمانين عنصراً ، واستبسل المقاتلون  في الدفاع عن مواقعهم ، إلا أن الدبابات والمدفعية ركزت نيرانها على مكان تواجد هـم حتى استشهدوا جميعاً وهم كل من الأخوة : محمد زهدي عبد الكريم ( سنة أخيرة هندسة ) وشقيقه صفوح ( موظف ) وأحمد صفوت ( طالب ثانوي)  وحسان عبد الحميد ( طالب ثانوي ) وطلعت خربوطلي ( طالب ثانوي ) . يرحمهم الله تعالى .

أما في المنطقة الجنوبية الشرقية فقد خرج مقاتلو الطليعة وتوزعوا في الجبل ، بعد اشتباك مع الوحدات الخاصة تمكنوا فيه من قتل وجرح أكثر من خمسين عنصرًا من الوحدات الخاصة ، وتمكنت السلطة بعد أربع ساعات من المعركة ونتيجة لنفاذ ذخيرة الطليعة ؛ تمكنت من أسـر خمسة أفراد منهم وسلمتهم إلى فرع المخابرات العسكرية في إدلب وجراحاتهم تنزف ، حيث صب عليهم أقسى أنواع العذاب ثم أعدموا رمياً بالرصاص .

أما في المنطقة الشرقية فقد نشبت معركة بين أحد مقاتلي الطليعة وعناصر السلطة استمرت زهاء ساعتين قتل خلالها أكثر من عشرين عنصراً مع عدد من الجرحى ، وأصيب عدة إصابات ثم نفذت ذخيرته فألقوا القبض عليه ، ثم أحضروه إلى والدته )60 عاماً ) وضربوهما معاً ثم أعدم أمام أمه .

وبعدانتهاء المعارك حول بلدة أريحــا اتجهت الوحدات الخاصة إلى داخل البلدة فعاثت فيها الفسـاد والقتل والتخريب ، واعتقلت أكثر من مائة مواطن منهم دون الخامسة عشر من العمر ، وأدخلوا سجون المخابرات العسكرية للتعذيب والتحقيق انتقاماً من البلدة ، ومن ثم أودعوا في سـجون الأسـد خمس عشرة سنة ولأنه لاذنب لهم أفرج عنهم بعد ذلك .

في قـريـة محمبــل

استيقظ الناس فجر الثلاثاء ( 13 / 5/ 1980 ) على أصوات الطائرات المروحية وهدير الدبابات وأزيز الرصاص ، فقد حضرت أربع عشرة طائرة مروحيةإلى قرية محمبل على طريق حلب ـ اللاذقية ويبلغ عدد سكانها ثلاثة آلاف نسـمة .

أفرغت الطائرات حمولتها من الجنود على الجبل الذي يبعد كيلو متراً  واحدأ  عن القرية ، وجاءت طائرتا استطلاع تستكشف القرية مع مجموعة من عناصر المخابرات العسكرية والوحدات الخاصة ، التي تمركزت شرق القرية ، مع نصب مدفعي هاون ( 80 ملم ) ودخلت عشر مجموعات للتفتيش يقودها ضباط من نظام الأقلية ، ونصبوا رشاشاتهم وقاذفات ( آربجي ) فوق أسطحة المنازل ، وخلال تفتيش البيوت قاموا بضرب النساء والرجال والأطفال وكسروا الثلاجات وأثاث البيوت ، وجمعوا الأواني المنزلية والكهربائية ، وأرغموا صاحب البيت على حملها إلى حيث تتمركز قيادة القوات ، وسـرقوا الحلي الذهبية وسلبوا ما وجدوه من مال مع المواطنين .

وأحضر ملازم من النظام غلامين دون العاشرة وانهال عليهما بالضرب بالكرابيج والعصي أمام والدتاهما ، والغلامان ووالداتهما يصرخون ويستغيثون ، ولما فشلت الحملة في القبض على بعض مقاتلي الطليعة عمدوا إلى كسر نوافذ البيوت وأشجار الزيتون والكرز ، ثم اعتقلوا اثنين وثلاثين مواطناً من أبناء القرية ، وبعد أن نالوامنهم شتى أصناف العذاب في مدرسة القرية ، نقلوهم إلى حلب بالطائرات العمودية وسلبوا منهم ساعاتهم ومالديهم من نقود ( أجرة ركوب الطائرة كما قالوا لهم ) .

وفي يوم ( 15/5/1980 ) عادت الوحدات الخاصة إلى القرية في ست عشرة مروحية وضربوا النساء والأطفال والشيوخ ، وركزوا هذه المـرة على أسـرمعينة ، وأحرقوا الكتب الموجودة في البيوت ، وأتلفوا مزروعات القرية ثم اعتقلوا عشرين مواطناً واقتادوهم إلى حلب .

وفي الساعة الثانية عشرة ليلاً حضرت إلى القرية ثلاث مصفحات وبدأت بإطلاق النار على ثلاثة منازل فيها قبيل مداهمتها ، ثم اعتقلوا مواطناً وعادوا إلى حلب .

وفي يوم ( 25 / 5 / 1980 ) عادوا إلى القرية وفتشوها بيتاًبيتاً حتى المسجد دخلته عناصر الوحدات الخاصة بأحذيتها القذرة ، وصعد ضابط طائفي على المنبر ونزع الآيات القرآنية ، ومزق المصاحف ورماها بأرض المسجد ،ثم أجبر قائد الحملة إمام المسجد بعد إهانته وتعذيبه بمغادرة القرية .

ثم تابعت الحملة اعتقال طلاب الثانوية ومعظمهم من أبناء القرى المجاورة حتى بلغ مجموعهم عشرون طالباً مع عشرة مواطنين آخرين ، وسيقوا جميعاً إلى مقر الوحدات الخاصة في حلب .

في قـريـة بلـين

في فجر الثلاثاء ( 13 /5/ 1980 ) هب أهل قرية بلين من نومهم مذعورين على أصوات الطائرات المروحية ، وهدير المصفحات ، ونزل أربعمائة عنصر من الوحدات الخاصة في هذه القرية الوادعة ، وبعد تطويق القرية ومحاصرتها تماماً كي لايهرب أحد منها ، بدأت مجموعات التفتيش المعززة بعناصر حماية واحتلت أسطحة المنازل ونصبت عليها الرشاشات والقواذف ومناظير الرصد ، وجمع أصحاب كل بيت في ساحة الدار وتصرفوا بهم بما يحلو لهم من التعذيب والضرب والشتم وكسر الأشجار وخاصة أشجار الكرز ، ثم جمع عدد من أهالي القرية في السـاحة الرئيسية ، وصفوا ووجوههم إلى الحائط ، على مرأى من الأطفال والنساء والشيوخ ، واستمر الضرب حتى يسقط الرجل مغمياً عليه أمام ذويه وأطفاله ونسائه ، ثم أخذوهم معهم إلى حلب .

وهكذا انتصر جيش الأسد على أبطال جبل الزاوية الذين عجز الفرنسيون عن إخضاعهم ، والذين شهد الفرنسيون برجولتهم ، انتصر عليهم بدباباته ومروحياته وأسلحته الحديثة التي دفع الشعب المسكين ثمنها من عرق الجبين ، وكـد اليمين ، وحرم صغاره الخبز والحليب ، ليشتري أسلحة يحرر فيها الجولان ، ولكن الأسـد الطاغية وأزلامه القتلة المجرمون ، نقلوا هذه الأسلحة من مواجهة العدو الصهيوني ـ الذي سيتضح عما قريب أنه صاحبهم ـ نقلوها من هناك إلأى حماة وحلب وجبل الزاوية ، وغيرها لقتل الشعب الآمن ، وقتل الشباب المسلم كي ترضى الصهيونية العالمية وتقـر عينها ؛  فقتل منهم ماقتل ونهب من أموالهم مانهب ، وأتلف من محاصيلهم الزراعية الكثير ، واعتقل منهم المئات أودعهم في سـجون الأسـد ، مع التعذيب والشتم والضرب ، خوفاً من أن يساعدوا مقاتلي الطليعة ضد سـلطة الأسـد .

أسـبوع الـدم في حلـب

ركزت الطليعة المقاتلة جهودها في حلب ، ثم حماة ، وذات يـوم من أواخر (1979) وأوائل (1980) صارت الطليعة توزع مجلة (النذير ) علناً في الشـارع ، وسيارة الأمن العسكري تراقب وترى ، ولاتجرؤ على منـع أفراد الطليعة من ذلك .

وحسـب نصيحة خبراء الجريمة السوفييت الذين استقدمهم نظام الأقلية في سوريا ، وخلاصتها (المذابح الجماعية ) التي ترهب الشعب ، لأن معظم الشعب ضـد النظام ، ويتمنى زوالـه ، وأدرك النظام أن معظم الشعب ضـده ، لذلك قـرر أن ينتقم من الشعب ، من معظم الشعب ، بشتى أديانه ، مسلمين ومسيحيين ، ريف ومدينة ، المهم يجبر الشعب على الرضوخ لحكم الأقلية ، ولاستبداد أسرة الأسـد .

ولهذا قام نظام الأقلية بعدة مذابح جماعية ، في حلب ، وحماة ، وجسر الشغور ، وجبل الزاوية ، وغيرها ، وكان لحلب نصيبها من هذه المذابح ، منها مجزرة هـنانـو يوم العيد ، ومنها هذا الأسبوع الدامي من التمشيط ، حيث تعدى جنود ( الجيش العقائدي ) على الأعراض ، والأموال ، والأرواح . والتبرير موجود وجاهز كما ســنرى :

أسبوع الدم في حلب :

 منذ اليوم الخامس وحتى اليوم الثاني عشر من  نيسان (1980) احتل عسكر حافظ الأسـد مدينة حلب ونشروا في أزقتها التاريخية القديمة وفي شـوارعها الجديدة عشرات الدبابات وعشرات المصفحات ، وصدرت الأوامر بمنع التجول منعاً باتاً ، فمات بعض المرضى حيث تعذر إحضار الدواء لهم ، وشرع عساكر الفرقة الثالثة بقيادة شفيق فياض بتفتيش البيوت بيتاً بيتاً ، وكعادة التتار امتدت أيديهم إلى الحلي والأموال والأجهزة الكهربائية والسجاد العجمي والغسالات والثلاجات ، وإذا اعترض صاحبها أطلقوا عليه النار وزعموا أنه من الإخوان المسلمين .

المسيحيون أعداء للنظام أيضاً :

ولو أن الأمر وقف عند حـد السرقة والسلب والنهب لهان الأمر ، ولكن الناس فجعوا بأعراضهم ، فقد امتدت العيون الوقحة والأيدي الآثمة إلى أعراض الناس ، وقد وقعت عدة حوادث اعتداء على الأعراض ، نذكر منها هذه الحادثة في حي السليمانية فقد دخلت مجموعة من الفرقة الثالثة إلى بيت فيه عجوز قال للملازم : ياسـيدي سـكان البناية كلهم مسيحيون وأنتم تبحثون عن الإخوان المسلمين .

فما كان جواب الملازم إلا أن يصفع العجوز كفاً جعله يترنح ويسقط على الأرض ، ثم يتقدم الملازم ( الهمام ) مع عساكره يدوسون على جثته ثم يعبثون في البيت ماشـاء لهم العبث ( وفهمكم كفاية ) والحادثة على لسان كل حلبي . ويقدر هؤلاء الجنود ( العقائديون ) أن بيوت المسيحيين مملوءة بالنفائس التي يبحثون عنها ، والأموال التي يجمعونها ، على مرأى ورضى من قادتهم الكبار .

وفي حي العزيزية دخل التتار الأسديون إلى أحد البيوت لتفتيشه وكان فيه أبوان عجوزان مع بناتهما الصبايا الثلاث ، فحجز التتار الأبوين العجوزين في إحدى الغرف وأقفلوا عليهما الباب ، وسحبوا البنات إلى الغرف الأخرى لاغتصابهن وهن يصرخن ويستغثن ويولولن ، وكانت أصواتهن تقطع أقسى القلوب وتمزق أعصاب الأبوين الكبيرين ، فما كان من الوالد إلا أن فتح باب الغرفة المطل على الشـرفة وصار الأبوان يستنجدان ويصرخان ، وعندها صوب أبطال الأسـد نيران رشاشاتهم عليهما فأردوهما قتيلين ، وتكلم الملازم قائد المجموعة  بجهاز اللاسلكي قائلاً : لقد ظهرت مقاومة من أحد البيوت يبدو أنه قاعدة لعصابة الإخوان ، ولكننا قضينا عليهم ، ولما حضر المقدم ( معلا ) ليشهد بطولة جديدة من بطولات عساكر أسـد ، لاحظ قطعة من المرمر على باب البيت مكتوباً عليها ( أنطون قطوش ) ، ودخل البيت وشاهد جثتي العجوزين وشاهد ثلاث صبايا وشعورهن منفوشة وعليهن آثار اللكمات والكدمات وهن يولولن ويبكين أبويهن المغدورين ...

وأسرع الملازم يقول لقائده : إن هذه العائلة من الإخوان ، وقد حاولت منعنا من القيام بواجبنا ... وحانت التفاتة من المقدم ( معلا ) نحو الجدار فرأى في صدر الصالون صليباً كبيراً من المعدن الأصفر ، وبجواره صـورة كبيرة لمريم العذراء ، فقال : فعلاً هذه العائلة من الإخوان .

فمصطلح [ الإخوان ] صار يعني كل معارض لنظام الأقلية الفـاشي ، كل مدافع عن دينـه ، وكل مدافع عن عـرضـه ، وكل من تتحرك عنـده بقايـا النخـوة والمـروءة ، حتى لو كان بعثيـاً ، كل معارض لنظام الأقلية من [ الإخوان ] . وهذا وسام شـرف ناله [ الإخوان المسلمون في سوريا] .

مذبـحـة هــنانـو

ركزت الطليعة المقاتلة جهودها في حلب ، ثم حماة ، وذات يـوم من أواخر (1979) وأوائل (1980) صارت الطليعة توزع مجلة (النذير ) علناً في الشـارع الحلبي ، وسيارة الأمن العسكري تراقب وترى ، ولاتجرؤ على منـع أفراد الطليعة من ذلك .

وحسـب نصيحة خبراء الجريمة السوفييت الذين استقدمهم نظام الأقلية في سوريا ، وخلاصتها أن هؤلاء الخبثاء السوفييت نصحوا نظام الأقلية في سوريا بتنفيذ (المذابح الجماعية ) التي ترهب الشعب ، لأن معظم الشعب ضـد النظام ، ويتمنى زوالـه ، وأدرك النظام أن معظم الشعب ضـده ، لذلك قـرر أن ينتقم من الشعب ، من معظم الشعب ، بشتى أديانه ، مسلمين ومسيحيين ، ريف ومدينة ، المهم يجبر الشعب على الرضوخ لحكم الأقلية ، ولاستبداد أسرة الأسـد . واتخذ القرار في أعلى المستويات بأن يقتل الجيش العقائدي ( 50 ـ 100) مواطن في الحي الذي تقتل الطليعة فيه عنصراً واحداً فقط من أزلام النظام .

ولهذا قام نظام الأقلية بعدة مذابح جماعية ، في حلب ، وحماة ، وجسر الشغور ، وجبل الزاوية ، وغيرها ، وكان لحلب نصيبها من هذه المذابح ، منها مجزرة هـنانـو يوم العيد ، نسبة إلى المقبرة التي وقعت فيها المذبحة ، حيث تضم قبر المجاهد السوري إبراهيم هنانو ، الذي قاد الثورة السورية ضد الفرنسيين  ، وتسمى أيضاً مجزرة المشارقة نسبة إلى الحـي .

والمميز لهذه المجزرة أنها صباح يوم عيد الفطر لعام 1400هـ الموافق  ( 11/8/1980) ، في اليوم الذي يزور فيه المسلمون أقاربهم يتفقدون أحوالهم ، كانت هذه المجزرة لإرهاب الشعب العربي السوري ، وإجباره على الخضوع لنظام الأقلية .

وربمـا اغتالت الطليعة المقاتلة عنصراً من مخبري الأمن في حي المشارقة ، وعملاً بنصيحة الخبراء السوفييت قام جنود الوحدات الخاصة ، بقيادة العميد شفيق فياض ، الذي كلف بإخضاع حلب ، قامت هذه العناصر صبيحة يوم عيد الفطر ، بجمع عدد من أهالي حي المشارقة عشوائياً ، دون معرفة أسمائهم ولا انتماءاتهم السياسية أو الدينية ، المهم أنهم من حي المشارقة ، واقتادوهم إلى مقبرة هنانو، حيث فتح جنود الوحدات الخاصة النار من اسلحتهم الرشاشة التي اشتراها الشعب السوري من ثمن طعامه وشرابه ليحرر بها الجولان ـ كما يظن الشعب ـ ، وإذ بالجيش العقائدي يقتل بها الشعب الذي دفع ثمنها ليحرر بها أرضـه .

ســقط على الفـور ( 83) مواطناً بريئاً يرحمهم الله تعالى ، وجرح مئات آخرون ، وكان من القتلى الدكتور عبد الرزاق عرعور الأستاذ في كلية الهندسة بحلب ، وهو بعثـي . كما قتل عدد من موظفي الحكومة الموالين لها . كيف يقتل هؤلاء !!؟؟ والجواب بسيط جداً ، وهو أن الجيش العقائدي قتلهم لسبب واحد فقط ، وهو أنهم من حي المشارقة ، حيث اغتيل عنصر واحد فقط من مخبري السلطة . وهكذا نصحهم الخبثاء السوفييت .

ثم حفرت قوات الجيش العقائدي بالجرافات التي كان المفروض أن تفتح بها ثغرات للهجوم على خنادق الصهاينة الذين احتلوا الجولان ، بدلاً من ذلك استخدم الجيش العقائدي هذه الجرافات في حفر خنادق يدفن فيها المواطنون الأبرياء الذين قتلوا ولم يسألوا عن أسمائهم . حفرت الجرافات خندقاً في مقبرة هنانو ، وطمرت جثث الأبرياء في هذا الخندق . وهكذا فعلت عدة مرات  في مجازر حماة الفرعية .

ومما يجدر ذكره أن ذلك كله يجري بمرأى من الأقمار الصناعية الأميركية ، وبرضى أمريكي التي تدعي أنها تحارب الإرهاب ، لأن القتلى من المسلمين ، ولأن أمريكا تساند الطغاة المستبدين إذا حققوا أطماع الصهيانة في العالم العربي ، وهكذا يفعل نظام الأقلية في سوريا .

مجـزرة طريق سـريحين :

يقول فلاسفة التاريخ : الهدف من دراسة التاريخ ليس اجترار الآلام ، ونبش الماضي بروائحه المتعفنة ، وإنما هو أخذ العبرة من الماضي ، لنستفيد منها في الحاضر ، وعندما أتحدث عن المذابح الجماعية التي مارسها نظام حافظ الأسـد في سوريا ، لا أقصد منها سوى أن نعتبر من الماضي المؤلم ، وأن نتخذ كافة الاجراءات والاحتياطات كي لايعود هذا الماضي ، ونجتث الأسباب المؤدية لهذا الماضي المروع من جذورها ، وأهم تلك الجذور الحكم الفردي الديكتاتوري ، الذي استخدم الجيش ( جيش الشعب ) كما قالوا عنه ، استخدم جيش الشعب ليقتل الشعب بدلاً من أن يحميه ، يقتل الشعب بالأموال التي حرم الشعب أطفاله من كفايته من الخبز والطعام والماء والكهرباء .... واشترى أسلحة لجيش الشعب كي يحميه من إسرائيل ، وكي يحرر الجولان الذي تحتله إسرائيل منذ عام (1967م) ، وإذ بهذا الجيش يقتل بها الشعب نفسـه . وكي لانظلم الجيش فقد فرغ هذا الجيش من الشرفاء المخلصين الذين تطوعوا فيه لتحرير الجولان ، وأبعدوا عن مفاصل القرار في الجيش ، وكدسوا في [ الأركان ] ينتظرون إحالتهم إلى التقاعد بعد رتبة العميد ، أو كدسـوا في الشؤون الإدارية والصحية للقوات المسلحة ، كما سجن الكثير منهم ، وأعرف ضابطاً منهم لايهمه في الحياة سوى اتقان السلاح الذي يعمل فيه ، وهو الدبابات ، وكان متفوقاً في ميدان عمله ، لذلك أسندت له مهمة مدرب مادة التكتيك في دورة ضباط كذا ، وقد أبلى بلاء حسناً في عام (1973م) وكان قائد سرية دبابات ، وفيما بعد وفي عام (1981) تقريبا اعتقل ووضع في السجن حوالي أحد عشر عاماً ، ثم يفرج عنه ويحال إلى التقاعد .

أو نقلوا إلى الوزارات المدنية ، ليتسلموا أمين مستودع الأخشاب في مؤسسة كذا ... وغيرها . وترك في قيادات الجيش أزلام حافظ الأسد ، الذين باعوا ضمائرهم للدولار الذي أغدقه عليهم حافظ الأسد ، من أموال الشعب ، ومن عائدات النفط التي لم تكن تدخل الخزينة العامة للدولة ، ومن ملايين الدولارات التي كان يحصل عليها من الدول العربية ، ليبقى صامداً أمام إسرائيل .

 في عام 1982م كانت مجزرة حمـاة الكبرى ، التي خطط لها نظام الأقلية في سوريا منذ عدة سنوات ، فقد نقل عن حافظ الأسـد قولـه في أحد مؤتمرات الحزب : ( ... أما الإخوان المسلمون فلاينفع معهم إلا التصفية الجسدية ) ، كما نقل عن شقيقه وساعده الأيمن في الحكم يومذاك رفعت الأسـد قولـه : ( .. سأجعل المؤرخين يكتبون : كانت هنا مدينة تسمى حماة ..) ...

وهذا الغضب والحقد على حماة سـببه أن هذه المدينة محافظة على دينها ، ترك فيها الشيخ محمد الحامد يرحمه الله ، وتلامذته أثراً طيباً في الالتزام بالإسلام ، والسلوك الإسلامي للرجال والنسـاء ، وقد كانت الفتيـات تخشـى أن تخرج سـافرة في الشـارع الحموي ، لأن الرجال في الشـارع سوف يكلمون والدها حالاً ، ينصحونه فإن لم يستجب وبخـــوه ، وكانت أي فتـاة يـزين لها الشيطان أن تخرج سـافرة تخاف إن شاهدها الشيخ محمد الحامد يرحمه الله الذي سيكلم والدها في الحال ، وكانت مساجد المدينة تعـج بدروس العلماء ، يحضرها الطلاب والشباب والكبار ، وتوجد دروس خاصة للنساء .

كل ذلك جعل حمـاة مدينة محافظـة على إسلامها ، لاتقبل أن تعيش السافرات المتبرجات بين أهلها ، ولاتقبل أن يسـكن فيها الفاسدون المفسدون المتحللون من دينهـم  ، ولهذا السبب كانت مدن سـوريا تعج بهجرة الريـف إليها ، ويشكل أهالي الريف أحياء بكاملها في حمص ودمشق خاصة ، أما حماة فكانت هجرة الريف لهـا محدودة جداً لهذا السبب ، وكانت مقصورة على فئات معينة من المواطنين ، وفئات أخرى يستحيل عليها العيش في حماة ، لأن الشـارع الحموي لايقبل فيـه مثل ذلك السلوك الذي تسلكه تلك الفئات .

وهذه البيئـة المحافظـة كانت مركزاً للإخوان المسلمين ، وقبل تأسيس جماعة الإخوان المسلمين على مستوى سوريا عام (1945م) ، عندما اتحدت خمس جمعيات دينيـة من شـتى مـدن سوريا على يـد الشيخ مصطفى السباعي لتكون جماعة الإخوان المسلمين في سوريا ، قبل عام (1945م)كانت في حماة جمعية اسمها ( جمعية الإخوان المسلمين ) ، شكلت بمعرفة الشيخ محمد الحامد يرحمه الله الذي عرف الإمام حسن البنـا في مصـر ، وكان زميلاً للشيخ مصطفى السباعي يرحمهم الله جميعاً . وخلال الخمسينات والستينات نمت جماعة الإخوان المسلمين في حماة ، وبـرز في مدينة حمـاة بضع دعـاة قـادة منهم الشيخ سعيد حـوى يرحمه الله وغيره ، وكانوا من المدرسين فكان لهم أثر طيب في الشباب والبنات .

لهذه الأسباب وغيرها صارتدمير حماة هـدفـاً استراتيجياً عند نظام الأقلية الذي قاده حافظ وشقيقه رفعت . وقد تعهدوا للصهيونية العالمية بتدمير الحركة الإسلامية ، واجتثاثها من الجذور ، كما صرح حافظ الأسد نفسه  عام (1973م) بعد أن اعتقلت السلطة عدداً من مدرسي مدينة حماة ، وذهب وفد يرأسه الشيخ الشقفة يرحمه الله ( وهو ليس من تنظيم الإخوان ) ، ليشفع لهم عند الرئيس حافظ الأسد الذي واجه الوفد بغضب وقال : لأقطعن اليد التي لم يستطع عبدالناصر أن يقطعها .

ومنذ الستينات صاروا يخططون لتدمير هذه المدينة ، كما ظهر واضحاً في مجزرة حماة الكبرى عام (1982) . 

قـريـة سـريحيـن :

تقع قرية سريحين شرق مدينة حماة على بعد خمسة كيلو مترات فقط ، وفي منتصف هذا الطريق وقعت واحدة من أبشع مجازر حماة الجماعية ، التي لم تعرف التفصيلات الكثيرة عنها ، لأن القتل الجماعي استحر فيها ، وما نجا إلا قليلون كأصابع اليد ، قدر لهم أن يكونوا شهادة حية على ذبح أناس ملأوا إحدى عشرة شاحنة طوتهم الأرض الطهور في طريق سريحين ، يقول ( أبو حيان الحموي ) أحد الناجين من إحدى هذه المجازر:

كنت ضمن أعداد كبيرة ملأت إحدى عشرة شاحنة بازدحام شديد ، كدسنا فيها كالغنم ، حتى كادت تتقطع أنفاسنا ، وسيق بنا إلى سـريحين ، حيث أمرنا بالنزول فنزلنا ، وكان أول مارأينا مناظر تشيب لها الولدان ، مئات الأحذية المتناثرة على الأرض ، وأدرك الجميع أنها تعني مقتل مئات المواطنين من أبناء بلدتنا ، وأننا على الموت مقبلون .

فتشنا بعد ذلك ، وأخذت منا الأموال التي معنا ، وجردنا من ساعاتنا ، ثم أمرتنا عناصر السلطة بالتقدم نحو الخندق العميق الذي يمتد أمامنا إلى مسافة طويلة ، وأمر قـسم منا بالنزول إلى خندق مجاور ، وعرفنا الهدف وهو أن نموت في أسفل الخندق فتطمرنا الجرافات بالتراب ، وبعضنا بين الحياة والموت .

وعندما تقدمت إلى موقعي أمام الخندق ، رأيت الجثث المتراكمة على بعضها البعض ، يلطخها الدم الحار ، وكان مشهداً رهيباً لم أستطع تحمله فأغمضت عيني ، وتحاملت على نفسي خشية الوقوع على الأرض ، وانطلق لساني يردد سراً في قلبي شهادة أن لاإله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وصرت أتذكر بعض آيات من كتاب الله عزوجل أصبر بها نفسي .

وحدث ماكان متوقعاً ، انهال الرصاص الغزير علينا ، وهوى الجميع إلى الخنادق مضرجين بدمائهم ، أما القسم الذي أنزل إلى الخنادق فقد أطلقت عليهم النار داخله .

ويضيف الراوي أبو حيان الحموي الذي نجا بقدر الله :

كانت إصاباتي خفيفة ، ومن نعم الله عليّ أنهم لم يطمرونا بالتراب حالاً ، بل ذهبوا مسرعين ، لمهمة جديدة ، وتركونا نلفظ أنفاسنا في الأخدود ،  وقدر الله لي أن أنجو بأن صبرت حتى خلا المكان من الجزارين ، وهربت متحاملاً على جراحي وأنقذني الله من ذلك المصير ، حيث يموت الجريح تحت الجثث الأخرى .

وبمعالجات بلدية ، قدر الله لي الشـفاء ، ولم أجرؤ على مراجعة المستشفى للعلاج ، لأن أزلام السلطة هناك يجهزون على كل من يتقدم ويطلب العلاج من المستشفى . كما فعلوا بالأستاذ فائز عاجوقة يرحمه الله ، الذي أصيب بعدة طلقات في مذبحة جنوب الملعب البلدي ، ولما أسعف إلأى المشفى الوطني للعلاج ، أجهز عليه هناك ، وقيل بقرت بطنه وأخرجت كبده يرحمه الله .

وقدر الله لي أن أعيش لاأرتجف كلما سمعت اسم سريحين ، ومازلت أصـر أن أتجنب المرور من ذلك الطريق ، لأنني أتصور أنني سيغمى عليّ لو مررت من ذلك المكان الذي شاهدت فيه الجثث ينزف منها الدم الحار في قاع الخندق .

وقد عرف من أسماء الشهداء في هذه المجزرة :

الشهيد ممدوح الوتار – الشهيد محمد علواني – الشهيد معن علواني – الشهيد محمد حلاق – الشهيد منير عدي – الشهيد عدنان زوزا – الشهيد عبد الغني ترو – الشهيد جبار عبد الغني ترو – الشهيد عبد الله خالد عدي – الشهيد منذ عثمان المصري . وكثيرون غيرهم . يرحمهم الله تعالى .

ملاحظة : أرجو من القـراء الكرام أن يرسلوا لي مايعرفون من هذه المذابح على البريد :

ولايذكروا اسماءهم ، المهم ذكر رواية الحدث مع تحري الصدق ، وذكر التفاصيل . وذلك للاستفادة منها في جمع ملف المذابح الجماعية في سوريا ، وسوف يصدر كتاب بهذا العنوان إن شاء الله تعالى .

         

* كاتب سوري في المنفى