المشهد السياسي في لبنان

المشهد السياسي في لبنان

 بين الاغتيالات والانتخابات

م. حسن الحسن *

[email protected] 

يطرح مسلسل الاغتيالات السياسية في لبنان أسئلةً عديدةً عن أبعاد تلك العمليات التي هزّت الرأي العام المحلي، ووضعت علامات استفهام مفعمة بالقلق على مستقبل لبنان، في ظل عددٍ من المعطيات الإقليمية والدولية الساخنة، ما دفع إلى الاستنجاد بمجلس الأمن الذي اتخذ قراره بالتدخل من أجل الكشف عن ملابسات تلك الحوادث.  

ولإعطاء فكرة حول هذا الموضوع الشائك لا بدّ من سرد مجموعةٍ من الوقائع التي لا يتأتى الحكم والتحليل للأحداث الجارية في لبنان من غيرأخذها بعين الاعتبار.

يعتبرُ لبنان على الرغم من صغر حجمه أحد أماكن الصراع الدولي الهامّة، ويرجع ذلك إلى محاذاته لفلسطين، قلب الصراع في الشرق الأوسط، وبسبب قدرته على التأثير في العالم العربي، ثقافياً وسياسياً، حيث صنع ليكون جسراً لتغريب المسلمين وعلمنتهم، كما شكل قاعدةً تطبخ فيها الانقلابات العسكرية والمؤامرات السياسية في المنطقة، وعلى وجه الخصوص في سوريا، التي لم تهدأ حركة الانقلابات فيها، إلا بعد أن دخل الجيش السوري لبنان عام 1975. 

وقد أفرز الاستعمار، الإنجليزي-الفرنسي، لبنانَ رسمياً عام 1920 بجغرافيةٍ جديدة وبتركيبة طائفية تشكل عبئاً على نظام الحكم فيه، تهدد استقراره وتسهل العبث به، آخذين بعين الاعتبار، منذ تأسيسه، جَعْلَ الموارنة أسياداً له، لكونهم دعاةَ التغريب والأكثرَ قناعةً بالمهمة المنوطة به، أي في استعماله كجسرٍ لإعادة صياغة العالم العربي ثقافياً وفكرياً وقيمياً بعد أن تمّ ذلك سياسياًَ. 

وعلى الرغم من النزاعات التي شقت صفوف الموارنة مراراً منذ استقلاله عام 1943، فقد سعى هؤلاء في كافة الحقب السياسية، للتكاتف سوية في الأوقات الصعبة، بغية الحفاظ على امتيازاتهم في الحكم، ما جعل أبناء الطوائف الأخرى ينظرون لأنفسهم كمواطنين من الفئة الثانية أو الثالثة حتى السابعة عشرة (عدد الطوائف الرسمية)، فالمناصب الحساسة في الدولة من نصيب الموارنة، وفي مقدمتها رئاسة الجمهورية ذات التأثير الكبير. يحصل هذا على الرغم من الادعاء بأن النظام السياسي في لبنان هو نظام علماني ديمقراطي!  

لذلك حرصت القوى ذات الثقل بين الموارنة في أوقات الأزمات على حشد قواها خلف من يمنحها القدرة على الحفاظ على تلك الامتيازات، بغض النظر عن اختلاف رؤاهم الفكرية والسياسية ومع تباين ارتباطاتهم بالقوى الدولية،  وهذا ما يفسر معادلة التحالفات التي قام بها أعيان الساسة الموارنة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، حيث وضعوا ثقلهم وراء الجنرال ميشال عون، مع أنّ الأخير قد دأب على التهجم والحطّ من شأن حلفائه الجدد بالأمس القريب، واتهامهم بالعمالة لخصمه اللدود سوريا.  

ومن هنا كان لزاماً على من يريد فهم الواقع السياسي في لبنان أن يأخذ بعين الاعتبار طبيعة تركيبته الطائفية، التي يتم استناداً إليها توزيع المناصب الهامة في الدولة والجيش وأجهزة الأمن. إضافة إلى فهم ارتباط الأطراف الداخلية بالقوى الدولية. واستناداً إلى معرفة التفاصيل المتعلقة بهذين العاملين يتمُّ تحليل ما يقع من أحداث. 

ومما ينبغي لفت النظر إليه أنّ الحرب التي اشتعلت في لبنان مدة 15 سنة (1975-1990)، كانت قد انتهت باتفاق الطائف الذي رعته الولايات المتحدة الأميركية، والذي وضع امتيازات الموارنة على المحك، حيث اعتبر الاتفاق مقدمة لمعالجة أزمة الصلاحيات الطائفية، فقلصت بعض صلاحيات رئيس الجمهورية، كما منحت بقية الطوائف ترضياتٍ طفيفةً، على أمل المعالجات التدريجية لاحقاً، وفقد عامة النصارى الأكثرية النيابية التي ظلوا يتمتعون بها دستورياً منذ ذلك الاتفاق. 

كما انسحب الجيش السوري من لبنان عقب اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري إثر وضع فرنسا ثقلها في الساحة الدولية للضغط على النظام السوري، بينما قامت الولايات المتحدة بتبني تحركات فرنسا نفسها بل ومع بعض المزايدات عليها، بغية احتواء الساحة السياسية في لبنان وضمان عدم انهاء نفوذها منه بخروج الجيش السوري، وهو الذي كان قد دخل إلى لبنان بطلبٍ واضحٍ ومباشرٍ وموثقٍ منها، وذلك لاقتلاع نفوذ أوروبا، ولفرض تفرد هيمنته على الشرق الأوسط، ولتسويق خططه فيه من غير إزعاج الآخرين له، بخاصةٍ بعد أن استقر الأمر لرجالاتها في كلٍّ من مصر والسعودية وسوريا. 

وبعد أن أوفدت أميركا نائب وزير خارجيتها، جون ساترفيلد إلى لبنان، الذي أدار المعركة السياسية ورتب الانتخابات ببراعةٍ فائقة، استطاعت الولايات المتحدة من خلالها إعادة صياغة التركيبة النيابية بشكلٍ يمنحها القدرة على كف يد أوروبا ورأس حربتها فرنسا إلى حدٍّ بعيد، بخاصةٍ أنها بغنى عن متاعب لبنان في المرحلة الحالية، في ظل غرقها في المستنقع العراقي، وعدم استتباب الوضع تماماً لها في أفغانستان، ومع تعثرها في إحداث أي تقدمٍ ملحوظ في عملية التسوية في الشرق الأوسط، فضلاً عن جبهات صراعٍ أخرى. 

وفي ظلّ هذه المعمعة نجد أنّ الصورة الكاملة للأزمة السياسية في لبنان التي تدور في ظلالها حملات الاغتيال السياسي تتلخص في وجود أزمة حكمٍ حقيقية، منبتها هو منشؤ لبنان الذي لا بدّ لمن يحكمه من التعويل على قوى خارجية للاستقواء بهم على فرقاء الداخل.  

فضلاً عن آفة ارتباط سياسيي لبنان وزعمائه منذ أن أنجب سايكس - بيكو لبنان الحالي بالخارج، كان اعتبار الطائفة فيه هو الأصل وهو نهاية المطاف، إلى جانب المحاصصة في السلطة والثروة على أساس نسبٍ تفرضها القوة المهيمنة، لا على أساس الحق والعدل، وكأنه شركة مساهمة، إضافة إلى التمييز المقيت بين المواطنين، في وطنٍ تنظر كل طائفة فيه على أن طائفتها هي وطنها ولا هوية حقيقية موحدةً تجمع بينهم لا أيديولوجياً ولا تاريخياً. 

في خضم ذلك الاحتكاك والتنافس المذهبي ينشط الصراع الحزبي والعائلي والشخصي ضمن الطائفة الواحدة، مما يحول لبنان إلى كتلة من المشاحنات العصبية المقيتة والنفعية الحادة البشعة، في الوقت الذي تجتاحه القروض الأجنبية التي وصلت سقف 40 مليار دولار والتي ترهن لبنان بمن فيه إلى الخارج، إضافة إلى الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها كافة دول المنطقة بشكلٍ أو بآخر. 

وتقع الأحداث السياسية في لبنان بين تحرك مشهود لرجالات الأم الحنون فرنسا، الطامحة إلى استعادة بعض أمجادها الاستعمارية والتأثير في الشأن الدولي، وبين عملاء بريطانيا التي تتحين الفرص بغية إرباك أميركا في المنطقة ولإبقاء الأخيرة بعازةٍ لها، حتى لا تسقط هي عن دائرة التأثير والتدخل، فتحافظ على ما تبقى لها من مستعمراتٍ ومشاريع ومصالح، وبين السائرين في ركاب الولايات المتحدة وما أكثرهم، في ظلّ إدارةٍ متغطرسة ومتعجرفة، لديها مشاريع طموحة وكبيرة في العالم وتريد أن تنسف كل من يقف في طريقها، وبين عملاء دولة "إسرائيل" التي تريد تصدير أزماتها وحلّ مشاكلها والهروب من الضغط الأميركي للسير في عملية تسويةٍ تحدُّ من طموحها التوسعي. 

في ظلّ هذا التشاحن الطائفي الذي تغذيه هذه القوى الأربع، نجد أنه ليس من السهل أبداً تحديد من يقف وراء عمليات التصفية الأخيرة التي جرت في لبنان، إلا أنه ينبغي ذكر بعض الوقائع التي تضيء جوانب تفيد في فهم ما يحصل. 

إن الجهات التي تقف وراء الاغتيالات لديها قدراتٌ عاليةٌ، وتتميز باحترافٍ وتدريبٍ وخبرة ملحوظة وليست مجرد هواة. كما أن العمليات تجري وتتكرر مع ثقةٍ واضحةٍ بالنفس من قبل مقترفيها، مع عدم ترك أية خيوط حقيقية تكشف هويتهم.  

إنّ اختيار الشخصيات المستهدفة منصبٌ على رموز تستثير الرأي العام وتؤثر به ما يعني إمكانية تأليب الناس لإحداث مزيدٍ من الضغوط على الأجهزة الأمنية وشلّ السلطة (المعلّبة أميركيا). بخاصة أن النظام السياسي المستند إلى الأجهزة الأمنية له ثقل لا يستهان به، ولا يمكن تحويله إلا بأحداث كبيرة.

  إن اهتزاز النظام الأمني الذي رعته أميركا في لبنان (إن نجح)، سيفسح المجال لاحقاً إلى عودة رجالات فرنسا وبريطانيا وحتى "إسرائيل" إلى تصدر الساحة والمساهمة في ترتيب أوراق اللعبة من جديد. 

إنّ الثقل الذي تتمتع فيه قوى الطوائف الثلاث من سنة وشيعة ودروز في الوقت الراهن داخل مجلس البرلمان وعلى أرض الواقع، يسلط الضوء على الحاجة إلى إحداث توافقٍ سياسيٍ جديد، يكسر احتكار الموارنة لامتيازات معينة، وهذا ما تأباه نفوسهم إذ أنهم قبلوا باتفاق الطائف على مضض وغير مستعدين لمزيدٍ من التنازلات، ما يعني أن ا ستقرار الأمور على الوضع الحالي ليس لمصلحتهم.

 واعتماداً على المستجدات التي ستحطّ رحالها في المنطقة، سواء فيما يتعلق بعملية السلام ومقتضياتها من توطين الفلسطينيين في لبنان لقاء إعفاءٍ جزئي أو كلي له من ديونه المتراكمة، أو لتسوية معادلة الصلاحيات والمناصب الطائفية التي لم يعد التمييز لصالح الموارنة فيها مقبولاً بعد كل التطورات التي شهدتها الساحة اللبنانية وشهدها العالم في الفترات الأخيرة. ولذلك فإن صفقاتٍ قد تطال أموراً جوهريةً في الكيان اللبناني ستعمل أميركا على إنجازها بخاصة أنها على دراية بأن أكثر زعامات الموارنة موالين لفرنسا التي تحاول أن تلعب دور الند لها.  

 ولذا فإن المتوقع أن تستمر عملية الاغتيالات، بغية خلط كل أوراق اللعبة، ولإعادة الجميع إلى المربع الأول الذي سبق بداية الحرب الأهلية. وهذا ما ستحاول أميركا منعه وهو ما جعلها تخصص فريقاً من الإف بي آي للإقامة في لبنان لمتابعة الأمور عن كثب، ولقد شاهدنا حركته النشطة إثر اغتيال جورج حاوي مؤخراً. 

أخيراً فإنّ الزعامات السياسية في لبنان ستبقى واضعة نصب عينيها مصلحة العائلة والطائفة فوق أي اعتبارٍ آخر، وستعمل على استغلال المتغيرات وكافة الأحداث لتستفيد منها بتقوية مواقفها وتعزيز مصالحها الخاصة، وستبقى اللعبة السياسية مرهونةً للنفوذ الأجنبي والصراع من قبل الدول الغربية على لبنان والمنطقة عموماً. 

 ومالم تحدث تغييرات جذرية في أرجاء العالم الإسلامي لصالح إعادة توحيد الأمة الإسلامية وإقامة الخلافة وصياغة المنطقة وفق اعتباراتٍ جديدةٍ قائمة على عقيدة هذه الأمة، فإن الفوضى والعبث وتردي الأوضاع ستبقى سيدة الموقف ليس في لبنان وحده بل قد تمتد إلى بلادٍ أكثر أهمية وأخطر شأناً في المنطقة طالما تركت أميركا طليقة اليد فيها.   

          

* نائب ممثل حزب التحرير في المملكة المتحدة  11 / 06 / 20005