من المسموح التذمر على الأقل
من المسموح التذمر على الأقل
بقلم: تسفي برئيل
(المضمون: حزب البعث السوري ينهي مؤتمره باصلاحات شكلية تقتصر على محاربة الفساد هنا وهناك، والمطلوب أكثر من ذلك بكثير، مطلوب اصلاحات سياسية واقتصادية عميقة وجوهرية - المصدر).
حكاية المهندس السوري خالد مصطفى رحال، يمكنها ان توضح سبب عدم تأثر المواطنين السوريين بمؤتمر حزب البعث المنعقد في هذه الايام. رحال عُين لادارة فرع شركة المخابز الحكومية في حلب. خلال سنة من دخوله الى المنصب نجح في تحقيق أرباح بمليوني دولار، وهو مبلغ يماثل ضعف الأرباح التي حصل عليها من سبقه في المنصب بوسائل مشابهة. هو ايضا لم يقم بزيادة القوى العاملة ولا وسائل الانتاج، كل ما فعله فقط هو زيادة النجاعة.
في كانون الاول 2004 أُقيل رحال من منصبه، محافظ حلب كتب رسالة لوزيرة الاقتصاد والتجارة السورية وأوضح فيها ان رحال أدار الامور بطريقة سيئة. مدير فرع المخابز في وزارة الاقتصاد خالفه الرأي وطلب تشكيل لجنة تحقيق داخلية في الوزارة. المراقب ظهر في حلب وأجرى تحقيقه فعليا وسجل ملاحظاته، ونظر من حوله وأخيرا أصدر تقريرا برأ ساحة رحال من الاتهامات.
إلا ان المراقب لم يعرف ان المحافظ قام خلال فترة التحقيق بالتوجه الى ديوان رئيس الوزراء وأعلمه بإقالة رحال مُحولا التحقيق الى مسألة لا داعي لها، ذلك لانه اذا قام المحافظ باعلام ديوان رئاسة الوزراء بالإقالة فان المراقب لا يعود مخولا بمخالفة الرأي.
رسالة التوصية المفصلة التي أُرسلت من وزارة التجارة وديوان رئاسة الوزراء - حيث تذكر انجازات رحال الكثيرة - لم تُجدِ نفعا. أحد ما أراد المنصب فقام المحافظ باتخاذ قراره وديوان رئاسة الوزراء أعطى الحسم للمحافظ المقرب منه.
تعيين المقربين والاحتكارات التجارية والشركات الحكومية التي تخنق الاقتصاد السوري والمعارضة الراسخة للاصلاح الاقتصادي، هي الامور التي تكبل أرجل بشار الأسد الذي خلف هذه الطريقة في ادارة الحكم من والده قبل خمس سنوات.
حكايات مشابهة لحكاية رحال تتكرر في سوريا كثيرا، ولكن ما يحدث هو ان الشارع السوري قد أخذ يسردها باستمتاع كبير وجلي من خلال مواقع الانترنت التابعة للمعارضة.
في مؤتمر حزب البعث ستتردد امور كثيرة جدا حول الاخلالات في فروع الحزب الذي يبلغ تعداد اعضائه مليوني شخص، كذلك سيتحدثون عن القطيعة بين مكاتب الحكومة والضواحي ونهب المناصب والبطالة التي تزيد على 20 في المائة والحاجة الى استبدال الحرس القديم.
هذه الامور لم تنشر ولن تنشر في وسائل الاعلام السورية، فسورية هي دولة إشاعات وتسريبات ونمائم. رغم وجود 117 صحيفة ومجلة فيها من كل الأصناف والألوان، إلا ان السيطرة المركزية عليها مطلقة. وخلال العقود الاربعة الماضية لم تصدر إلا رخصة واحدة لصحيفة سياسية جديدة وهي "ابيض أسود" التي يديرها بلال تركماني ابن وزير الدفاع السوري.
ولكن الامور تتسرب الى الخارج، وحسب بعضها يظهر فعلا ان النظام يتعرض لانتقادات شديدة، ولكن ذلك مجرد مظهر خارجي لذر الرماد في العيون. فليس لهذه التسريبات والمداولات التي تقف وراءها أية أهمية طالما انها لا تتبلور في حركة احتجاجية مثلما يحدث في لبنان أو مصر.
الاسلوب السوري القديم ينص على السماح بالشكوى والتذمر من دون نشر علني للامور، ولذلك تبقى الامور والاشاعات في الهواء من دون ان تتبلور في حركة احتجاجية، بينما يبقى الاعلام الرسمي مهيمنا على الرسالة المركزية الرسمية التي تصل الى الجمهور. الاصلاح الذي يتحدث عنه بشار الأسد بلا أساس وبعيد عن الواقع، وهذا يظهر من خلال قطاع الصحافة الذي يتطلب حركة اصلاحية واسعة لزحزحته من جموده ومركزيته الخاضعة لهيمنة الرئاسة والبعث. بشار الأسد لم يؤسس هذا النهج، إلا انه يواصله مع بذل محاولات مجزأة وغير ناجحة لتحسينه. جهود الاصلاح في سورية تجابه بعراقيل بيروقراطية وأمنية كبيرة وتبقى المحظورات في سورية أكبر بكثير من الامور المباحة في اطار الجهود الاصلاحية المتباطئة والخجولة جدا، كنشر قائمة بـ 67 حاجة شعبية لا تتطلب الحصول على تصريح أمني. سورية غارقة في الديون، والنمو فيها وصل الى 2.3 في المائة في السنة الماضي رغم انها بحاجة الى نمو بـ 7.6 في المائة على الأقل. يضاف الى ذلك عدم عودة العمال السوريين الى لبنان بعد قتل الحريري وتوقف ضخ نفط صدام لسورية. وعليه، فان تغيير الاشخاص مثل خدام وغيره ليس هاما في نظر المراقبين.
شرعية نظام الأسد ستقاس في الفترة القادمة من خلال قدرة سورية على توفير مصادر الرزق والغذاء لمواطنيها. وهذا سيعتمد على قوة الأسد في تفكيك الهيكلية الاقتصادية القديمة وخصخصة الشركات الحكومية والتساوق مع الخط الامريكي حتى تتمكن من المجيء والاستثمار في سورية.
من سمع خطاب الأسد أمام مؤتمر حزب البعث أول أمس، سيكون انطباعه بالذات أن الأسد ليس لديه خطة حقيقية لبناء اقتصاد سوري جديد. قطع التعاون الأمني مع الولايات المتحدة لا يشير الى حكمة تكتيكية، وأصلا القراءة الصحيحة للخارطة - السياسية - ليست أمرا يتميز به الأسد. قبل حوالي ثلاثة اشهر، في خطابه أمام البرلمان، لقب الأسد من يتظاهرون ضد سورية في لبنان كجماعة هامشية لا أهمية لها. وبعد ذلك بشهر أخرج كل قوانه من لبنان. في الصيف الماضي اعتقد ان القرار 1559 لمجلس الأمن - والذي يطالب سورية بالانسحاب من لبنان وان على الميليشيات المسلحة ان تتخلى عن سلاحها - لن يكون له مغزى حقيقي. وهنا ايضا اخطأ.
عندما ينتهي مؤتمر حزب البعث غدا، لن تولد دولة سورية جديدة، حتى وإن بدّل بعض الاشخاص مقاعدهم، السؤال الذي طرح بخصوص عرفات - هل يستطيع ولكنه لا يريد، أو يريد ولكنه لا يستطيع - لا ينطبق على الأسد. فالأسد يعرف على ما يبدو كيف يتصرف فقط في محيط قام عدوه بتشكيله، هو يقدر ويعرف كيف يطرد اشخاص، تعيين وزير دفاع جديد أو رئيس حكومة على هواه، وحتى اجراء اصلاحات في حزب البعث. ولكن ليس بهذا يجب قياس حجم قوة الأسد. فقط عندما يتبنى نهج يقرر بحاجة سورية لتغيير استراتيجي وبالذات اقتصادي، وليس فقط "اصلاحات فساد"، عندها بالامكان معرفة مدى قوته السياسية.