فاعذرني يا وطني

فاعذرني يا وطني

ثائر معتوق

[email protected]

لولا أن أحب الوطن من الإيمان لما أحببتك يا وطني ، يا أيها السجن الكبير ..  ولولا أن محمداً – صلى الله عليه وسلم – أحب وطنه ، بل وكان أحب بلاد الله إليه ، لما أحببتك يا وطني ، يا وطن الشقاء والعناء والظلم والطغيان ..

ولولا أن نفس محمد – صلى الله عليه وسلم – تاقت واشتاقت إلى مسقط رأسه لما تاقت نفسي إليك يا وطني ، يا وطن العذاب والمعاناة والقهر المستمر ..

       أنا لا أقول هذا جحوداً بحقك يا وطني الحبيب ، وإنكاراًَ لحقوق المواطنة عليّ .. بل لأنني اكتويت بنار جلاديك مذ وعيت على الدنيا .. أجل ! فمنذ فتحت عينيّ على هذه الدنيا ، فتحتهما على كل أساليب المنع والقمع والبطش والرعب والظلم والإرهاب ، ومصادرة الحقوق .. تلك الممارسات الوضيعة التي تصدر عن جلاوزتك وجلاديك ، ومصاصي دماء شعبك .. فمنذ نعومة أظفاري بدأ الأهل يتوجسون خيفة عليّ  ، وراحوا يوجهونني إلى تحاشي التحدث مع بعض الأصناف من الناس ، أو التعامل معهم ، تلك المخلوقات التي لها شكل إنسان ، وأفعال الوحوش والضواري .. ففلان أهله سيؤوا الذكر ويشك في كونهم ..... وفلان تأكد أنه يعمل لصالح الجهة الفلانية من جهات القمع المتعددة في البلد ، وفلان  بلغ أهله من مضرة الناس مبلغاً عظيماً ، حتى أن ضحايا وشاياتهم الملفقة وتقاريرهم الكيدية الكاذبة لا تعد ولا تحصى .. وآثار أفعالهم تجلت في مضرة فلان الطيب المسكين الذي لا ينتمي إلى حزب النظام الحاكم .. وفلان الملتزم المتدين الذي يحتل مكانة مرموقة في أعين أفراد مجتمعه .. إلا أن ذلك لم يرق لتلك الشرذمة المنبوذة الفاسدة المفسدة ، فراحت تكيد له بدافع الحقد والكراهية لكل ما هو نظيف وشريف من أبناء هذا الوطن المبتلى ..

      وعندما أصبحت في مرحلة الشباب ، بدأت معاناتي الحقيقية فيك يا وطني المفدى .. فقد بدأ الاحتكاك المباشر مع تلك الأصناف ، التي لم تكن يوماً بريئةً من التسبب في إحداث الضرر للآخرين ، وخاصة أولئك الذين يرفضون الانضمام إلى حزب النظام الحاكم ، والانضواء تحت لوائه ، فهم الأعداء الألداء ، وعملاء الاستعمار وفلول الرجعية – على حد تعبيرهم – ومن هنا وبمجرد شعوري بكياني الذي بدأ يأخذ طابع الاستقلالية ، ومنذ بدأت أشعر بذاتي المنتمية لهذا الدين الحنيف ، الرافضة للانتماء لكل ما يخالفه من قيم وعقائد ومبادئ فاسدة ضالة ، تقوم على رفض الدين مبدأ ومنهجاً للحياة .. وتكرس امتهان الآخر ، من خلال التحكم بمصيره والتضييق عليه  إلى درجة الإقصاء ، والسعي لتصفيته الجسدية ، دون أي وازع أو رادع ، بدأت المعاناة الحقيقية ، وبدأ الإحساس بالقهر ، والشعور بالظلم يزداد يوماً بعد يوم، فلكل حركة أتحركها أنا وزملائي ـ أولئك الذين تجمعني بهم نظافة المسلك ، والتنزه عن كل ما هو دنيء  ووضيع ، ولا يرضي رب العزة جل شأنه ، ولا يرضي المجتمع المتصف بالمحافظة والالتزام بمبادئ الدين السمحة .. ـ إن لكل حركة تنضوي تحت هذا الإطار تفسير  ، وربما تفسيرات خاصة .. فللبسمة البريئة تفسير ، وللكلمة العابرة تفسير ، وللتواجد في مكان ما تفسير، ولزيارة شخص ما تفسير ، ولإبداء السرور من موقف ما تفسير ، ربما ينقلب إلى كارثة حقيقية ، والتذمر من موقف معين ربما عدّ كفراً ومروقاً من الوطنية وربما القومية بأثرها ، وأي تململ يبديه أحدنا ربما عدّ جناية لا تغتفر ، وذنباً لا يدانيه ذنب ..

أجل هكذا وأكثر .. ففي هذا المجتمع الموبوء ، وفي هذه الظروف الاستثنائية كانت نشأتي ، وكانت الانطلاقة في هذه الحياة ، حتى إنني وزملائي بدأنا نعيش في جو من الغربة .. الغربة في الوطن ، الغربة بين الأهل والأقارب والأصدقاء ، جراء إصرار تلك الشراذم المقيتة على الكيد دون توقف ، ودون حساب لأية عاقبة ، لم لا ؟ ورأس السلطة ومن لف لفه ، وزبانيتهم وجلاوزتهم ، تلقي آذاناً صاغية لأمثال هؤلاء ، بل وتشجعهم على الاستمرار في هذا السلوك المشين ، وتقدم لهم المكافآت السنية ، حتى تحولت الحياة فيك يا وطني الحبيب إلى ما يشبه الجحيم ، إلى أشباح وكوابيس ، تطارد كل شريف ، وتنال من كل أبي ، خاصة بعد اندلاع الأحداث ، التي تولت السلطة الظالمة كبرها ، في مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم ، عندما راحت تعتقل كل متدين ، لا لذنب اقترفه سوى أنه متدين ، حتى بلغت الأحداث ذروتها ، فاعتقل من اعتقل ، ليلقى مصيراً مجهولاً ، وصل في كثير من الأحيان حد التصفية الجسدية ، وما مجزرة تدمر ببعيد ..  تلك التي راح ضحيتها ما ينوف على ألف شخص على يد شرذمة من شذاذ الآفاق من سرايا الدفاع  في ليلة واحدة ، حيث هوجم السجناء في زنزاناتهم بشتى صنوف الأسلحة والعتاد ، وهم العزل الأسرى ، ليدفنوا خلال ساعات في صحراء تدمر بعيداً عن أعين الرقباء ، وتحت سمع وبصر السلطة الظالمة المستبدة فيك يا وطني المفدى ...  وتبع ذلك مجزرة حماة التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الرجال والنساء والأولاد ، حيث قصفت الأحياء بشتى صنوف الأسلحة الخفيفة منها والثقيلة ، وهدمت البيوت على رؤوس أهلها .. ناهيك عن الإعدامات في السجون التي استمرت قرابة عقدين من الزمن بصورة دورية ووفق محاكمات صورية تفتقد لأبسط  أنواع النزاهة وأقل حقوق الدفاع عن النفس ، فقتل النظام المستبد نحو سبعة عشر ألفاً من خيرة أبناء الشعب وخلصه الأطهار ، وشرد من شرد ، ونفي من نفي ليلقى مصيراً مجهولاً ، فلا عجب بعد ذلك من أن ترى أبناء الوطن الشرفاء تحت كل نجم في هذه المعمورة ، في غيبة القانون والضمير ، وتحت سمع وبصر العالم أجمع ، دون إنكار أو حساب أو عقاب للجناة ..

وها أنذا .. وبعد خمس وعشرين سنة من غيابي عنك  واغترابي القسري لا أزال أدفع الضريبة ، تلك التي صارت مضاعفة  ، ضريبة الغربة والبعد عنك ، وضريبة التشريد والقهر والحرمان من أبسط حقوق المواطنة أنا ومئات الآلاف من المواطنين من أمثالي ..

ففيك يا وطني الحبيب انقلب الجاني إلى ضحية وانقلبت الضحية إلى جلاد وانتهكت الحريات بصورة لا مثيل لها ..     

فاعذرني يا وطني الحبيب إذا ما تجنيت عليك ، واتهمتك بشيء لا علاقة لك به .. فما عهدتك جاحداً لحقوق أبنائك يوماً ما .. تسعى لقهرهم وتشريدهم ..

واعذرني يا وطني المفدى إن وصفتك بأوصاف لا تليق فما هي إلا أوصاف لجلادي ظهور أبنائك ومغتصبي حقوق شعبك ..

واعذرني يا وطني إذا ما قارنتك بأوطان العالم لأعود بخيبة الأمل حتى أصبح المثل الدارج على لساني ولسان  كل حر ( كل الكلاب أحسن من حمّور) هو المثل الذي ينطبق عليك ...عفواً ... عفواً ... أقصد  ينطبق على مغتصبي سلطتك وسجاني أبنائك ، وقتلة الخيرين من أهلك ، أولئك الذين تغولوا واستأسدوا واستنسروا واستكبروا واجترؤوا على أبناء جلدتهم ، ظناً منهم أن الظلم يدوم ، وأن الحقائق يمكن أن تخفى بالأوهام والأباطيل ، وأن القهر والاستبداد يمكن أن يكون وسيلة للحكم ...

وأقولها بصراحة جارحة .. خسؤوا جميعاً وباؤوا بالإثم والبوار والشنار .. فلن يخلو الوطن من أبنائه الشرفاء ، الذين سيبقون على العهد في حبه والدفاع عنه ، مهما ادلهمت المصائب وتكالبت الشرور ، ولن يكونوا يوماً في صف جلاديه وجلاوزته ، ولن يبيعوه بالبخس الزهيد ، ولن يراهنوا على مقدرات شعبه أجل إنهم ولله الحمد كثير كثير ..

أما العصابات المجرمة التي لا هم لها سوى استنزاف الخيرات وسرقة الموارد والتسلط على الرقاب وذبح الأبرياء فإن لهم يوماً أسوداً .. يوماً سيلقون فيه مصيرهم المحتوم ، ونهايتهم الأكيدة .. ويومئذ لن تراهم إلا على مزابل التاريخ ، قد لفظهم الوطن ، وتخلص منهم أبناء الوطن الشرفاء ...

وإن غداً لناظره قريب.