مباراة في بيت لحم...

وأخرى في غزة

عبد العزيز كحيل

[email protected]

يوم الجمعة 2009.08.07... المشاركون في مؤتمر فتح يتبارون في مدينة بيت لحم المحتلة ويتنافسون على مقاعد المسؤولية في هيئات الحركة خلف الأسوار، ويبدو أن المباراة كانت محتدّة حتّى تطلّبت مدداً من الوقت وأشواطاً إضافيّةً... في الوقت نفسه كانت غزّة تشهد مباراة أخرى هي غاية في الغرابة، ولولا التحيز الإعلامي السافر لاستقطبت الفضائيات العالمية والمصوّرين والمراسلين ولصنعت الحدث في نشرات الأخبار، ذلك أن تلفزيون "الأقصى" انفرد مرّةً أخرى بنقل حدث مثير هو مباراة في كرة القدم بين قدامى اللاعبين... وكان على رأسهم رئيس الوزراء إسماعيل هنية وبعض وزراء حكومته، ولاشكّ أن ذلك يحمل رسائل سياسيّة عدّةً للرأي العام في الداخل والخارج أهمّها _في تقديري_ الردّ على الّذين يتهمون حماس بأبشع النعوت المستقاة من قاموس إدارة بوش والّتي يتلذّذ المنهزمون و"المطبعون" بترديدها وفي مقدمتها إقامة "إمارة ظلامية" في القطاع، وهي إشارة إلى مرجعيّة حماس الإسلامية وتركيز الحكومة الفلسطينيّة الشرعيّة على عنصر الأخلاق في تسيير شؤون الناس حيث حاربت الرذيلة والمخدرات وأنواع الانحرافات وبسطت الأمن وأقامت العدل إلى حد بعيد، وهذا ما لا يروق الأنظمة العلمانية المتسلّطة وذيولها الإعلامية، وقد انطلقت الاتهامات لحماس بالتضييق على الحرّيّات وإلغاء الحياة العادية... فجاءت مباراة كرة القدم لتؤكّد عكس ما يروّجون له، فالحياة في غزّة عاديّة رغم الحصار الّذي فرضه اليهود وأحكم قبضته الطوق الإقليمي بزعامة مصر ومباركة رام الله...

ثم ها هو أبو العبد وسط الملعب بلباسه الرياضي المحتشم بغير حراسة وأمام مدرّجات مليئة بالمتفرّجين، فأين هذا من حكام لا يجرؤون على المشي راجلين أو راكبين بين مواطنيهم بغير حراسة ظاهرة ومتخفّيّة بمئات الرجال (والنساء كما في ليبيا)؟ أين الظلاميّة؟ أهي هنا في غزّة المستمتعة بالحياة رغم الحصار أم هناك حيث الاستبداد السياسي والتوجس من الانقلابات؟

مباراة بيت لحم تنافس على المناصب _كما هو شأن جميع أحزاب السلطة في البلاد العربية خاصّةً _ لذلك تتمّ في الكواليس ، وللأهداف المسجّلة فيها أبعاد ماليّة وسيّاسيّة تصنع الاستئثار بالكراسي والأموال، أمّا مباراة غزّة فهي معلم من معالم صناعة الحياة السياسية والاجتماعيّة الشفافة النظيفة الّتي نرى فيها الحاكم يتفاعل مع شعبه، فتراه أحياناً يؤمّ المصلّين في صلاة الجمعة فإذا جاء رمضان أمّهم في صلاة التراويح، وتراه أحياناً يفطر مع العائلات الفقيرة كواحد منها _وهو مازال يقطن في منزله القديم في مخيم للاجئين_ ويشرف على برامج تحفيظ القرآن الكريم ويحضر المهرجانات الإنشاديّة، كل هذا إلى جانب عمله السيّاسيّ الّذي يشهد له المراقبون النزهاء بالكفاءة في تسيير شؤون المواطنين وصرف الأموال العامة بكل احترافية وشفافية، فإذا أعلنت الحرب كان في مستوى التحدّي وساهم في تحقيق النصر كما حدث أثناء العدوان على غزّة... ومع كل هذا فهو في ملاعب كرة القدم يصنع الأمل ويعيد الابتسامة، وهذا السلوك عين ما درج عليه الملوك والرؤساء والوزراء في البلاد الغربية الراقيّة حيث تراهم في الأسواق والملاعب وبيوت الفقراء وشوارع المدن ملتئمين مع شعوبهم، وهذا التقليد الحضاري الّذي تنتهجه حماس هو بالضبط ما يزعج خصومها الّذين ألفوا استبداد المواطنين وصنع الشقاء والانعزال عن هموم الشعوب.

إن الأهداف الّتي سجّلها إسماعيل هنيّة وفريقه هي بمثابة طلقات ناريّة في شباك أدعياء "التنوير" الّذين ينعتون حماس بالظلامية وهم دعاة الظلام يغيظهم أن تنتشر الأخلاق الكريمة والحياة النظيفة ويعتبرون "غزّة" نموذجاً سيّئاً يجب اجتثاثه ليحل محلّه نموذج العواصم العربية ونموذج "أريحا" الّتي بدأ بها أول مشروع استثماري بعد تنصيب السلطة الفلسطينية فكان ملهى ضخماً به أنواع القمار والعهر وسمّوه "مؤسّسة سياحية" ليكون نواةً للدولة الفلسطينية المرتقبة حتّى لا تشذ عن شقيقات العربية الّتي لا تتضايق من شيء تضايقها من القيم الدينية والأخلاق لأنّها _في رأيها_ من خصائص الإرهاب والظلامية.

أجل، لقد سجّل أبو العبد أهدافاً تتجاوز الشباك المنصوب في ملعب اليرموك، وساهم في التسجيل حماس المجاهدة وغزّة الصامدة... ووصلت الرسالة فأثلجت صدور من يحب المقاومة ويحبّ الطهر ويحب الحياة، وبالقدر نفسه كانت همّاً وغمّاً على آخرين في داخل فلسطين وفي دوائر إقليمية وعربية.

فإلى أهداف أخرى في صالح غزة وفلسطين كلّها والإسلام وعالم القيم والطهر والأخلاق.