الرأس الزاحف نحو البحر
الرأس الزاحف نحو البحر
على ضفاف شط العرب
العراقي الزاحف نحو البحر
كاظم فنجان الحمامي
على الرغم من انكماش سواحلنا البحرية وتقهقرها التدريجي, وعلى الرغم من خسارتنا المتكررة لمساحات كبيرة من مسطحاتنا المائية الملاحية, منذ بداية القرن الماضي, لصالح الدول المتشاطئة معنا بسبب جهل الساسة وغبائهم المفرط, وعلى الرغم من حرمان سفن وزوارق الصيد العراقية من ممارسة نشاطاتها المشروعة في عرض البحر, وعلى الرغم من حرمان أصحاب المهارات والمهن البحرية الحرة من الحصول على الجواز البحري, وبالتالي عدم السماح لهم بالسفر والعمل على السفن الماخرة في بحار الله الواسعة, أسوة بأقرانهم من العاملين في سفن كوكب الأرض, وعلى الرغم من تجاهل الحكومات العراقية المتعاقبة لصيحاتنا المطالبة بضرورة الالتفات نحو استعادة سيادتنا البحرية المفقودة, وإصرارنا على أهمية تنفيذ المشاريع الرامية إلى صيانة حقوقنا الملاحية والمحافظة عليها. وعلى الرغم من كل الظروف والعوامل الحربية والسياسية القاهرة فقد أصر هذا الجزء الساحلي من ارض العراق المقدسة على مواصلة الزحف نحو البحر, وهذه حقيقة جغرافية يجهلها معظم الذين عملوا في حقل الجغرافيا, اما العاملون في الحقل السياسي فلا شغل لبعضهم هذه الأيام بهذا الزحف الوطني النادر. فقد انصبت اهتماماتهم, للأسف الشديد, على ابتكار طرق جديدة تضمن لهم مواصلة الزحف نحو المقاعد القيادية العليا والاستحواذ عليها, ولا شغل لهم بما يجري على مسطحاتنا البحرية من تجاوزات ومضايقات وانتهاكات واعتداءات متكررة. أما أولئك الذين مازالوا يذودون معي في الدفاع عن حدودنا البحرية فهم متهمون دائما بالسفسطة والتخلف.
لا أريد أن أطيل عليكم, ولكني أود أن أحدثكم هذه المرة عن التحركات العجيبة الغريبة لرأس البيشة, وهو الجزء الذي يمثل أقصى الجنوب العراقي. فمن المعروف لديكم إنّ إحداثيات المواقع تتشكل من تقاطع خطين اثنين لا ثالث لهما. هما خطا الطول والعرض. ويعبر عنهما في علم الرياضيات بمحوري (X,Y). أو (س , ص). أما رأس البيشة. فلا يمكن تحديد موقعه إلا بتقاطع ثلاثة أبعاد. فقد شاءت إرادة الله تعالى أن تمنحه بعدا ثالثا, يميزه عن غيره من المناطق الساحلية بهذه الميزة الفريدة. ويمنحه حرية الحركة نحو البحر, ويجعله متمردا على قوانين المكان. فهذا الجزء مرهون بالبعد الثالث. وهو البعد الزمني الذي يرسم ملامحه ويثبت موقعه على الخارطة. ولا يجوز أن نذكر إحداثيات موقع (رأس البيشة) من دون أن نشير إلى السنة التي سجلت فيها تلك الإحداثيات, فهذا الجزء العراقي المتحرر لا يتقيد بحدود المكان مثل بقية المناطق. ولا يتسمر في موضعه أبدا. ويعزى ذلك إلى رغبته بالزحف والتحرك باتجاه البحر, وارتبط وجوده بعوامل ظاهرة الإرساب الطبيعية. وهي الظاهرة, التي كانت ولا تزال صفة ملازمة لمصب نهر شط العرب في شمال حوض الخليج العربي. فحدود ساحل رأس البيشة غير مستقرة على حال. وتتقدم سنويا نحو البحر بفعل تراكمات الكميات الهائلة من الأطيان المضافة إليه كل عام. وبمراجعة سريعة للخرائط الملاحية الدقيقة المرسومة في الأعوام المنصرمة, ومقارنتها مع واقع رأس البيشة الآن. سنجد أن المسافة بين الفاو ورأس البيشة. قد تباعدت خلال السنوات الماضية بشكل ملفت للنظر. وهذه دلالات أكيدة على أهمية الإشارة إلى البعد الثالث (البعد الزمني). وان لا تكون إحداثيات هذا الموقع مقتصرة على تثبيت تقاطعات خطوط الطول والعرض.
وسيواصل رأس البيشة زحفه وتحدياته لكل القيود الجغرافية المعروفة, وسيبقى هو الجزء الوطني العراقي المشرئب دائما برأسه نحو الأعماق السحيقة, فيتمدد على هواه, ليرسم خطوطا سيادية عراقية متجددة في الفضاءات البحرية المفتوحة. انه مارد عملاق أيقن بان جذوره العريقة مغروسة هناك في قلب الخليج العربي الذي كان يسمى يوما خليج البصرة. .