النخب العربية والموقف من حرب غزة
منير شفيق
قبل تقديم ملحوظات، أو تقدير موقف، حول معالجة النخب السياسية العربية عموماً لحرب العدوان على غزة وما برز من مقاومة وصمود شعبي استثنائيين وعظيمين، يجب، بداية، أن تُقدَّم ملحوظات على الموقف الشعبي العربي والرأي العام عموماً.
الإنسان العادي العربي من المحيط إلى الخليج، وبغض النظر عن دينه أو إثنيته أو مذهبه، أو طائفته، أو قطره، تمزق قلبه حزناً وألماً أمام مشهد الدمار والدماء وأشلاء الأطفال لا سيما بعد أن فشل الهجوم الصهيوني البري وتحوّل إلى حرب انتقام من المدنيين وبيوتهم ومراكز تجمعاتهم في مدارس وكالة الغوث. فهذا الانسان كان طوال الوقت مستعداً للنزول إلى الشوارع لو خطت النخب خطوة حازمة في هذا المجال، أو طالبته بتقديم التضحيات.
من هنا يمكن القول أن الغضب على العدو الصهيوني ومؤيديه الدوليين فضلاً عن الغضب على الموقف الرسمي العربي بلغ حداً عميقاً في الوعي والضمير سيعبّر عن نفسه لاحقاً بأشدّ مما يعبّر عنه الآن. فالغضب حين يُختزن في الأعماق أشدّ هولاً على مسببيه مستقبلاً منه آنياً، ونوعياً منه كمياً. فالذي فعلته حرب غزة سيُشكل في المستقبل القريب والمتوسط بعداً أساسياً في الموقف الشعبي. ويخطئ أشدّ الخطأ من سيعتمد على النسيان. فما تتركه الحرب في الوعي والنفوس أضعاف ما يتركه الهدوء أو السلم أو الإعلام.
على أمريكا بسبب ما فعلته طائرات الفانتوم، مثلاً، في حرب غزة، وعلى الأنظمة العربية التي تواطأت أو سكتت أو قصّرت بسبب مواقفها قبل الحرب وفي أثنائها وحتى اليوم أن تحذَرا من الناس العاديين الذين راحوا يتلقون مشاهد الدمار والأطفال ومن دون أن يتمكنوا من النزول إلى الشارع للاحتجاج ورفع الصوت. ثم هنالك حساب آخر من نوع آخر سيكون من نصيب النخب، بخسارة الشعبية والمكانة السياسية والمصداقية.
هذا البعد المتمثل في ألم الإنسان العربي العادي وفي غضبه المكبوت يجب أن يُحسَب له كل حساب ممن يظنون أن باستطاعتهم خداع الناس أو تضليلهم أو الاعتماد على عنصر النسيان. ويكفي أن تُستعاد، لو لحظة، الشعارات المندّدة بأمريكا وبريطانيا وهي تدوي في العواصم العربية والإسلامية. ويكفي أن يُستعاد شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” وهو يرعد، وكان صاحب الصولجان وبطانته وأبواقه قد ظنوا كل الظن أن الشعب مات، أو أنه في غفوة لا صحوة بعدها. وكانت الدول الكبرى تظن أنها تستطيع إذلال العرب والمسلمين والاستهتار بقضية فلسطين من غير دفع الثمن يوماً ما أو أياماً ما.
على أن البعد الآخر الذي جاء مفاجئاً مع حرب غزة مثلته أطياف كثيرة من النخب العربية لا سيما تلك العاملة في ميدان النضال أو التي بحّت حناجرها برفعها شعار “ضرورة اعتبار فلسطين القضية المركزية” أو التشديد على استراتيجية المقاومة، المقاومة، المقاومة. فهذه النخب لم تترجم شعار أولوية القضية الفلسطينية أو التشديد على استراتيجية المقاومة في حرب غزة من خلال النزول اليومي إلى الشوارع أو في حشد القوى والطاقات لدعم مقاومة في قطاع غزة فاقت كل تصوّر طوال الاشتباك بالنيران أو بالقتال القريب براً، وقد حققت نصراً ميدانياً على العدو وهي محاصرة حتى الاختناق، وهي تواجه مع جماهير غزة حرباً قاسية على المدنيين. ومن دون أن تجدا موقفاً رسمياً عربياً، ولا سيما مصرياً، يقف إلى جانبهما ويشدّ من أزرهما. بل وجدت موقفاً من الجامعة العربية يؤيد مبادرة مصرية أسهم العدوان في صوْغها وتبنيها. ولم تشذ ربما غير ثلاث أو أربع مواقف رسمية عربية وبمستويات متفاوتة.
ولولا ما عبّر عنه الرأي العام الأمريكي والأوروبي وما عبّرت عنه عدّة دول في أمريكا اللاتينية طوال أيام الحرب وفي فترات وقف إطلاق النار، حتى اللحظة، لكانت المقاومة والشعب يقومان وحدهما في مواجهة العدوان، بصورة يومية، ومتصاعدة. فعلى سبيل المثال ما زالت الشوارع في أوروبا وأمريكا متحركة لا تهدأ. فقد انطلقت يوم الأحد في 17/8/2014 أكثر من 250 تظاهرة ولم تزل في حراك دائم.
صحيح أن هنالك بلداناً عربية لا سيما المغرب وتونس والجزائر والأردن أطلقت تظاهرات كبيرة إلاّ أنها لم تكن متواصلة. ومن هنا أمكن القول أن الشارع العربي بسبب نخبه لم يرتفع بعمومه إلى المستوى المطلوب.
وصحيح أن النخب، عموماً، قامت بواجب إصدار بيانات ولكنها لم تعتبر الحرب حربها وتنزل إلى الشوارع بصورة واسعة ومتواصلة كأن تظاهرة واحدة ليوم واحد تكفي. ولم تُسمع من بينها إلاّ أصوات محدودة تضع النقاط على الحروف بالنسبة إلى المتواطئين مع العدو. الأمر الذي يقود إلى أن نستنتج بأن شعار “أولوية القضية الفلسطينية” يُرفع للعتب أو عند نقد أطراف بعينها ومن ثم لكل منها أولويات أخرى حتى عندما تكون هنالك حرب في فلسطين وتكون المقاومة والشعب الفلسطيني مهدّديْن بالاجتياح والسحق.
بالتأكيد إن شعار “أولوية القضية الفلسطينية” يجب ألاّ يُفهم فهماً سطحياً جامداً بمعنى ألاّ تقوم أولوية أخرى في بلد عربي أو أكثر تقتضيها ظروف التغيير أو هجوم خارجي أو ثورة مضادة. وإذا ما نشأت مثل هذه الأولوية فيجب ألاّ يُفسّر ذلك إسقاطاً لأولوية القضية الفلسطينية أو يُفهَم وضعاً للقضية الفلسطينية على الرف.
ومن يُتابع التجربة العربية المعاصرة منذ نشأت القضية الفلسطينية ومنذ ابتلاء الأقطار العربية بالتجزئة والتبعية والفساد والاستبداد يجد أن ثمة علاقة تبادلية في الأولويات الآنية مع أولوية القضية الفلسطينية. ففي مراحل تصدّرت أولوية القضية الفلسطينية مثلاً في الثلاثينيات أو في أواخر الأربعينيات أو مع اندلاع الثورة الفلسطينية لا سيما بعد حرب حزيران/يونيو 1967 وهكذا. أما في مراحل أخرى فكانت تنتقل الأولوية إلى نضالات الاستقلال والتحرّر من الاستعمار أو الوحدة أو مواجهة عدوان خارجي أو ثورة مضادة.
فهنالك انشغالات وأولويات قطرية وهنالك الأولوية للقضية الفلسطينية وهنالك أولويات التوحيد العربي في ظروف محددة. أما علامة انتقال الأولوية في كل مرحلة فتأتي عبر اشتعالها في معمعان الصراع. الأمر الذي يوجب أن تُعالَج مسألة الأولوية بميزان حساس وبدرجة عالية من التقدير الصحيح للموقف وقراءة الأخطار وموازين القوى مع الحذر الدائم من السقوط بالنزعة القطرية الضيقة أو من تجنب المواجهة الحادّة عندما تنتقل الأولوية للقضية الفلسطينية التي يجب أن تُعتَبر أولوية استراتيجية على نطاق الأمّة وعلى مستوى الأقطار كافة.
أما في اللحظة الراهنة كيف لا تُعطى الأولوية للقضية الفلسطينية على المستويين العربي والإسلامي العام حين تندلع الحرب في فلسطين وتتهدّد مقاومتها في قطاع غزة بالسحق وشعبها بالتركيع، وتكون هنالك إرهاصات انتفاضة في القدس والضفة الغربية. ومن ثم كيف يمكن أن تكون هنالك حرب عدوان مشتعلة ومقاومة فذة وصمود شعبي عظيم مع معاملة عربية نخبوية بأدنى درجات الاهتمام والدعم والحشد. ناهيك عن موقف عربي رسمي بعضه ذهب إلى حدّ التواطؤ وبعضه غرق بالصمت وبعضه الأقل اهتم بدرجات متفاوتة؟
إن اندلاع حرب العدوان الصهيوني على قطاع غزة وما واجهه من مقاومة وصمود شعبي عظيمين، في ظل دمار هائل وجرحى تجاوزت العشرة آلالاف وشهداء تجاوزوا الألفين قوبِل من قبل الرأي العام العالمي لا سيما الغربي وفي أمريكا اللاتينية بإعطاء الأولوية للقضية الفلسطينية فكيف لا يكون الأمر كذلك عربياً وإسلامياً؟ إنه لسؤال جارح لكل من يعنيه الأمر ممن لم يتعامل عربياً مع حرب المقاومة والشعب الفلسطيني باعتبارها حربه وأولويته.
فالمشكلة ليست أن تكون هنالك أولويات أخرى أو اهتمامات أخرى فهذا أمرٌ صحيح ولا بدّ من مراعاته ولكن يجب أن يتكامل مع أولوية القضية الفلسطينية لا سيما حين تدخل مرحلة الاشتباك والمواجهة والحرب.
لقد أخطأ، في حينه، كل من هاجم الثورتين في مصر وتونس، مثلاً، حين اتهماهما بالتخلي عن إعطاء الأولوية للقضية الفلسطينية. وأخطأ من أنكر على أي بلد عربي يواجه حرباً خارجية أو ثورة مضادة ألاّ يعتبر أولويته مواجهة ما يتعرض له من خطر ماحق. هذا ولم يكن الوضع في فلسطين في وضعية الحرب والاشتباك. واليوم يخطئ من لا يعتبر القضية الفلسطينية أولويته والحرب في فلسطين مشتعلة الأوار.
هنا انقلبت النظرية لتقف على رأسها في الحالتين. أي عندما نودي بأولوية القضية الفلسطينية في نقد أولوية قطرية ملتهبة. أما الحالة الثانية فهي نسيانه أولوية القضية الفلسطينية فيما المقاومة والشعب يتعرضان لحرب عدوان، ويخوضانها بقوّة هائلة.
إذا أخذنا في الاعتبار المخاطر التي تحيق وستحيق بالمقاومة والصمود الشعبي وتتهدّد الانتصار العسكري، وذلك في مرحلة وقف إطلاق النار والمفاوضات غير المباشرة، فالأولوية تكون بالضرورة للحشد السياسي الأوسع لدعم المقاومة والشعب سياسياً ومالياً وتسليحياً ولتضميد جراح الجماهير والتعويض عن الخسائر. بل والحث لدعم الانتقاضة في الضفة الغربية والقدس ليُستكمَل الانتصار بتحريرهما من الاحتلال والاستيطان والتهويد، بلا قيد أو شرط.
فالأولوية اليوم ترتبط بشروط الظرف الراهن ما دامت الحرب مشتعلة في فلسطين، والخطر داهم، والانتصارات على الأبواب.
وختاماً، لعل من المفيد، ونحن في صدد الحديث عن الأولويات والموقف الحالي لغالبية النخب من حرب العدوان على المقاومة والشعب في غزة، أن نتذكر موقف الرئيس جمال عبد الناصر في إعطائه الأولوية لنصرة المقاومة الفلسطينية في أزمة أيلول/سبتمبر 1970 حيث تعرضت لمعركة عسكرية استهدفت إخراجها من الأردن، وقد كان الأردن قاعدة انطلاقتها الأساسية.
كانت فصائل المقاومة (م.ت.ف) قد خاضت صراعاً ظالماً مريراً، وبنقد لا يرحم، وبغير حق أو حصافة، ضدّ جمال عبد الناصر بسبب قبوله مشروع روجرز، إذ لم تفرّق بين ضرورة رفضها للمشروع وضرورة عدم هجومها على عبد الناصر بسبب قبوله بالمشروع. ولكن عبد الناصر، رحمه الله، علا على جراحه منها، ووقف إلى جانبها بكل قواه وأعطاها الأولوية داعياً إلى مؤتمر قمة عربية لإنقاذها حفاظاً على قاعدتها الآمنة. والأبلغ أنه فعل ذلك وقلبه في حالة تدهور وانهيار. أي أعطاها الأولوية حتى على حياته الشخصية.
هذا نموذج ودرس لكيفية إعطاء أولوية للقضية الفلسطينية ومقاومتها وشعبها.