بلاد العُرب، قرار إعدام أم انتحار
فادي الحسيني
ما عاد للأسماء مكان، وأصبحت الأرقام هي العنوان، وعلى الرغم من أن كل رقم يحمل إسم وقصة وكيان، بات وبكل أسف تعداد الأرقام أكثر وأبلغ أهمية من قيمة الإنسان. في الأسبوع الأول من رمضان، سقط ما يزيد عن 700 قتيل وآلاف الجرحى في خمس دول عربية فقط، وما أن مر بضع أيام قليلة، تسارعت الوتيرة أكثر، فبدأت تختلط الأرقام من جديد، وفقدنا قدرة العد والحساب بكل تأكيد.
في تصفحنا للتاريخ، ومراجعتنا للوثائق وجدنا الكثير والكثير مما يؤكد وجود مؤامرة على أمة العرب خاصة، والمسلمين عامة، ومازلت فئة عريضة من شعوبنا تشكك في وجود هذه المؤامرة، معتقدة أن في هذا الحديث مغالاة ومبالغة ليس إلاً. وعلى الرغم من أن حجم الدمار والدماء التي تسيل كل يوم على تراب بلادنا لا يترك أي مجال للشك في وجود مؤامرة تنفذ بحرفية عالية، إلاً أننا وجدنا من الأهمية أن نكتب مجدداً في هذا الأمر.
في مقال سابق بعنوان " بوابة المنطقة وتبادل الأدوار" أوضحنا بالبراهين رغبة الغرب الإستعماري المستميتة في إبعاد الدول الثلاثة الرئيسة في المنطقة (مصر، إيران، وتركيا) عن بعضها البعض، حيث أن تقاربها يعني إغلاق أية فرصة لدخول القوى الأجنبية إلى المنطقة، ثم ألحقنا هذا المقال بمقال آخر بعنوان "هكذا ينظرون إلينا ....هكذا يريدوننا"، حيث كشفنا فحوى وثيقة تعود للقرن السادس عشر أرسلها بطريرك اليونان لقيصر روسيا، يضع فيها خطة لإنهاء القوة الإسلامية، من خلال إضعافها من الداخل، وإلحاقها بتبيعة إقتصادية إلى الأبد، وهو الأمر الذي ما زال قيد التنفيذ في المنطقة إلى يومنا هذا.
اليوم نشير إلى وثيقة أكثر وضوحاً لنوايا وخطط الغرب الإستعماري، وتأثيراته وتبعاتها على منطقتنا، وهي الوثيقة التي صدرت عن مؤتمر كامبل بنرمان "نسبة إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك هنري كامبل بانرمان"، حيث عقد المؤتمر خلال الفترة 1905-1907، بمشاركة كل من بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا وإيطاليا.
وصل المجتمعون إلى نتيجة أن البحر الأبيض المتوسط هو شريان هام للغاية، وتقع الإشكالية في أنه "يعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية بوجه خاص شعب واحد تتوفر له وحدة التاريخ والدين واللسان"، وعليه قام المجتمعون بتقسيم دول العالم إلى ثلاث فئات، الفئة الأولى هي دول الحضارة الغربية المسيحية (دول أوروبا وأمريكا الشمالية واستراليا) والواجب تجاه هذه الدول هو دعم هذه الدول ماديا وتقنيا، أما الفئة الثانية فهي دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية ولكن لا يوجد تصادم حضاري معها ولا تشكل تهديدا عليها (كدول أمريكا الجنوبية واليابان وكوريا) والواجب تجاه هذه الدول هو احتواؤها وإمكانية دعمها بالقدر الذي لا يشكل تهديدا عليها وعلى تفوقها، وأخيراً الفئة الثالثة وهي دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية ويوجد تصادم حضاري معها وتشكل تهديدا لتفوقها (وهي بالتحديد الدول العربية بشكل خاص والإسلامية بشكل عام) والواجب تجاه تلك الدول هو حرمانها من الدعم ومن اكتساب العلوم والمعارف التقنية وعدم دعمها في هذا المجال ومحاربة أي اتجاه من هذه الدول لامتلاك العلوم التقنية.
ومن هنا، كانت أهم نتائج المؤتمر "ضرورة إبقاء شعوب هذه المنطقة مفككة جاهلة متأخرة، مع محاربة أي توجه وحدوي فيها،" ولتحقيق ذلك دعا المؤتمر إلى إقامة دولة غريبة عن نسيج هذه المنطقة في فلسطين تكون بمثابة حاجز بشري قوي وغريب ومعادي، يفصل الجزء الأفريقي من هذه المنطقة عن القسم الآسيوي والذي يحول دون تحقيق وحدة هذه الشعوب وتكون أداة معادية لسكان المنطقة، كما دعا إلى فصل عرب آسيا عن عرب أفريقيا فصلاً مادياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً.
وبالفعل، فقد تم تنفيذ ما توصل إليه المجتمعون، وبعد أن عاش شعوب هذه المنطقة موحدون لقرون من الزمان، بات التفتت عنوان هذه المرحلة بحلول اتفاق سايكس بيكو، ثم وعد بلفور الذي أسس نواة الدولة الغريبة وسط بلاد العرب، ثم جاء الإستعمار لينهك مقدرات البلاد، وليعمل جاهداً على إبقاء سكانه بعيداً عن التقدم والعلم والمعرفة.
على الرغم من مرور السنين، والنجاح الكبير في تطبيق الخطط المذكورة، بدا وكأن الغرب الإستعماري ما زال يخشى وحدة هذه الشعوب، متوجساً من تاريخ غابر لهذه المنطقة، فعادت الكرة من جديد لتأمين الخطط السابقة بخطط أكثر دموية وأشد قسوة. ومن ثم، بدأ الغرب يعد الرأي العام العالمي والغربي لهذا الصراع، ودمغ شعوب المنطقة بعلامة مسجلة- عمادها أن شعوب هذه المنطقة مختلفون عن غيرهم، متطرفون، بل لا يسعون سوى للدمار والقتل والعنف.
لم تكن مصادفة أن لقت مؤلفات كبار كتاب الغرب عن صراع الحضارات رواج كبيراً، فأفرد كل من صامويل هنتجتون وفرنسيس فوكوياما مؤلفات تصب في ذات الخلاصة، بمباركة وتأييد سياسيين الغرب الإستعماري. وكما كانت رسالة بطريرك اليونان لقيصر روسيا تفيد بأن هدم دولة الإسلام العثمانية لا يمكن أن تتحقق سوى من الداخل، بدأ تفتيت المنطقة يأخذ نحواً أكثر عمقاً وأبلغ خطورة.
البداية الجديدة كانت في أفغانستان، فدعمت الولايات المتحدة الأمريكية كل من حارب التواجد السوفييتي هناك، ثم إستثمرت أكثرفي المتطرفين الإسلاميين. المصادفة "وهي ليست صدفة بطبيعة الحال" أن إنتشار وإستفحال وباء التطرف الديني في المنطقة العربية حمل بصمة أمريكية واضحة أيضاً، تجلت بالاحتلال الأمريكي للعراق، حيث بدأ بعدها ينتشر هذا التطرف في كل أركان المنطقة كالنار في الهشيم، أما العلو الأخير للتطرف بإسمه الجديد داعش أو الدولة الإسلامية كان يحمل بصمات أمريكية غربية بإمتياز، حيث كانت بدايتة في سوريا، تذرعاً بدعم المعارضة.
ومن إعتقد بأن هذا هو أسوأ كوابيس هذه الأمة فهو واهم، فالتطرف الديني خطراً ولكن الأخطر إن تقاطع مع التطرف الطائفي، فجميع هذه الجماعات المتطرفة حملت لواء عقيدة بعينها، ووجهت أسهمها نحو أي طائفة أو عرقية تخالفها، فضُرب الشيعي، وقُتل السني، وشُرد المسيحي، أما المثير هو أن إسرائيل كانت ومازلت منيعة تماماً من هجمات جميع هذه الجماعات ودون أي إستثناء.
لم يكتف المتآمرين بهذه النتائج، بل ذهبوا في خططهم أبعد لمحاولة تفتيت هذه الأمة أكثر ومنع وحدتهم أكثر وأكثر. وبالفعل، لم يجانب الصواب أولئك الذين قالوا بأن المنطقة تمر بمخاض جديد بعنوان "سايكس بيكو الجديدة"، فكل المؤشرات تؤدي إلى نتيجة واحدة مفادها بأن قوى الغرب الإستعمارية رأت ضرورة لتحديث وتجديد الخطط المرسومة في القرن الماضي.
إنهالت تصريحات كبار المسؤولين الغربيين، وعلى رأسهم الأمريكيين للحديث عن فوضى خلاقة تارة، وشرق أوسط جديد أو كبير تارات، يكون عماده تقسيم وتفتيت المنطقة أكثر وأكثر. فعلى سبيل المثال- وليس الحصر- كان جورج بوش الإبن ووزيرة خارجيته كونداليسا رايس أكثر من حاولوا جاهدين تطبيق مشروعهم الجديد "الشرق الأوسط الكبير"، ثم جاء بول بريمر- الحاكم العسكري السابق للعراق- ليتحدث صراحة عن تقسيم العراق، وهو ذات الأمر الذي كرره جو بايدين ومؤخراً بنيامين نيتنياهو. قُسم السودان، وغرقت ليبيا في مستنقع القبلية التي تنذر بتوجه البلاد إلى قسمة لثلاثة دويلات، ولم يسلم اليمن بعد إنتفاضة الربيع من المتطرفين الإسلاميين من جهة والحوثيين من جهة أخرى، ورسمت العديد من الصحف الأمريكية المتنفذة خارطة جديدة للمنطقة تفتت ما هو مفتت.
حتى المعسكر الواحد لم يسلم من الفٌرقة، وما إنقسام الرأي العام العربي والمسلم حول المقاومة بشكل عام والفلسطينية بشكل خاص- وهي التي كانت بوصلة وحيدة وفريدة لأي إنتماء وكل إنتماء- وتركها تنزف يوماً بعد يوم من عدو باتت شفاه البعض تتردد في إنتقاده، لا يدعو أي مجال للشك حول هول المؤامرة التي تحاك لهذه الأمة.
يبدو أن البعض قد غابت عنهم حقيقة أن قرار الإعدام هذا قد صدر بحق جميع سكان المنطقة دون إستثناء، أما الكأس الذي يتجرعه بعضنا في الصباح لن يطول الوقت على الآخرين الذين سيتجرعوه بلا شك في المساء، وما الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة إلاً حلقة جديدة من حلقات إعدام ما تبقى من روح وطنية غرّاء، فيصبح تردد البعض أو تخاذلهم قرار ذاتي بالانتحار وإستعجال البلاء.