فَذْلَكاتٌ لُغَويةٌ سياسيّة (7)
فَذْلَكاتٌ لُغَويةٌ سياسيّة (7)
(من وَحْي الواقع البعيد عن منهج الله عز وجل)
( لو قلّبنا النظر في لغتنا العربية ، لوجدناها قد وَسِعَت كلّ المفاهيم والمصطلحات ، لكن بالنسبة للسياسة ، فاللغة تغوص في عُمْقِ أعماقها .. أي في الصميم ) .
بقلم : الدكتور محمد بسام يوسف
فَذْلَكَةُ الجيم (3)*:
( جَعْجَعَ ) وأخواتها !..
جَهَشَ ، جَرَّسَ ، جَهْجَهَ ، جَهُرَ ، جَمَعَ ، جَاهَدَ ، جَبُنَ ، جَبَّ
(أسمَعُ جَعْجَعَةً ولا أرى طَحْناً)!.. مَثَلٌ يُضرَب للرجل الذي يُكثِر الكلام ولا يعمل .. و(جَعْجَعَ) تعني: اشتدّ هديرُهُ وعَلاَ صوتُهُ .. وقد غدت الجعجعة أسلوباً حديثاً لمقاتلة العدوّ!.. فكلما احتلّ العدوّ أرضاً من وطننا ، و(جَهَشَت) النساء ، أي: هَمّت بالبكاء .. وكلما انتفض الأطفال داخل الوطن الجريح في وجه الغاصب المحتلّ ، وفضحت الـ (جرائد) كل جبانٍ (وهو ضد الشجاع) .. فإنّ الجعجعة تمتدّ وتشتدّ!..
قد تأخذ الجَعْجَعَةُ أشكالاً عدة: فمثلاً هناك طريقة التجريس ، و(جَرَّسَ) بالعدوّ تعني: سَمَّعَ به وندَّد .. و(جُرْسَة) تعني: تنديد!.. وغالباً ما تقوم بهذا التجريس مؤسّسة الـ (جامعة العربية)!.. و(جامعة) تعني: مجموعة معاهد علميةٍ تُسمى كليّات ، لها مهمة أساسية هي التعليم وتخريج المِلاكات العلمية اللازمة ، لبناء الوطن وتحقيق نهضته .. أما الـ (جامعة العربية) ، فهي: مجموعة دولٍ تُدعى الدول العربية ، وتختصّ هذه الجامعة بثلاث مهمّاتٍ رئيسيةٍ هي: التجريس أو التنديد ، والاستنكار ، والاستغاثة!.. وفي الظروف الصعبة القاهرة الحالكة ، التي تشتدّ فيها انتهاكات العدوّ واعتداءاته .. قد يتم اللجوء إلى سلاح التوسّل ، بدلاً من التجريس أو التنديد!..
فضلاً عن طريقة (جَعْجَعَ) لمقاتلة العدوّ ومحاربته ، هناك طريقة (جَهْجَهَ) ، أي: صاحَ البطلُ في الحرب .. وبما أننا نعيش عصر السلام والرخاء ، فقد طُوِّرَت هذه الطريقة بتعديل معناها إلى: صاح البطل في السِّلْم!.. والجَهْجَهَة أو الصياح ، تُمارَس عبر كل الإذاعات والقنوات الفضائية ، وعلى كلّ الموجات العاملة: المتوسطة والقصيرة ، بما فيها موجات الـ (إف-إم)!..
أما الطريقة الحربية الثالثة لمقاتلة العدوّ فهي: طريقة (جَهُرَ) ، إذ يُقال: جَهُرَ الصوتُ ، أي: عَلاَ أو ارتفع .. وهذه الطريقة تتحقق على مراحل عدّة ، تبدأ بمرحلة (جَمَعَ) ، أي: ضمَّ المتفرّق بعضه إلى بعض ، كأن يُقال: جَمَعَ القومُ لعدوّهم ، أي حشدوا لقتاله .. وقد ورد في محكم التنـزيل قوله عز وجل: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران:173) ، أي أنّ الأعداء حشدوا لقتالكم .. لكن في عصرنا ، عصر النظام الأميركيّ الجديد ، الذي يستمتع فيه العالَم برخاء السلام العتيد .. فإنّ (جَمَعَ) لا تعني حَشَدَ لقتال العدوّ ، بل حَشَدَ لزيادة كفاءة الحبال الصوتية ، ورَفْعِ سويّة أدائها!..
قد يتم بفعل (جَمَعَ) ، جَمْعُ كل الدول المعنية على اختلاف أنظمتها: الملكية والجمهورية .. في قاعةٍ واحدةٍ خاصةٍ بالجامعة العربية الآنفة الذكْر ، و(جمهورية) تعني: دولة يرأسها حاكِم منتَخَب من الشعب ، وتكون رياسته لمدةٍ محدّدة .. وقد طُوِّرَ معنى الجمهورية فأصبحت تعني: دولة يرأسها حاكِم منتَخَب من حاشيته ، وتكون رياسته لمدةٍ غير محدّدة!.. ومؤخّراً خضع هذا المعنى إلى تطويرٍ آخر ، هو ما أُطلِقَ عليه اسم: (جمهورية وراثية) ، وأُطلِقَ بموجب ذلك على السيد الرئيس لقب: (جلالة) الرئيس!.. كما استُخدِمَ تعبير: (البلاط الجمهوريّ) ، أسوةً بتعبير (البلاط الملكيّ) المستخدَم في الدول ذات النظام الملكيّ!..
حين يلتئم الشمل بفعل (جَمَعَ) ، وترتفع الأصوات بفعل (جَهُرَ) ، ويتجلجل الكون والفضاء بفعل (جَعْجَعَ) و(جَهْجَهَ) .. ثمّة مَن يدعو إلى (جهاد) العدوّ!.. والجهاد يتفرّع -كما نعلم- إلى جهاد النفس ، وجهاد الشيطان ، وجهاد القلم ، وجهاد المال .. وجهاد العدوّ أو قتاله .. لكنّ قومنا ابتكروا أنواعاً أخرى للجهاد ، فهو في أيامنا هذه لا يعني بأي حالٍ من الأحوال -على ذمة المبتكِرين- قتال الكفار ، فـ (جاهَدَ) العدوَّ ، أصبحت تعني بِعُرْفهم: صالَحَهُ أو صافَحَهُ أو دَغْدَغَهُ أو لاطَفَهُ أو توسَّلَ إليه!.. ولا يُسمَحُ بالجهاد في أيامنا ، إلا عبر الإذاعات الرسمية، وهو نوع مبتَكَر من الجهاد يُدعى: (الجهاد الإذاعيّ) ، فإذا كان عبر التلفاز أُطلِقَ عليه اسم: (الجهاد التلفزيونيّ)!..
كلّ أنواع الجهاد التي ذكرناها ، والتي لم نذكرها .. هي -عند حكومات (جَمَعَ)- من العمل الآثم المحرَّم ، إلا النوعين الأخيرين (الإذاعيّ والتلفزيونيّ) ، فهما فَرْضُ عَينٍ على كل (جَيْشٍ) عربيٍ وإسلاميّ ، حتى تحرير الأرض والعِرض والإنسان المسلم ، من كل أنواع الاحتلالات والعدوان!.. و(جَيْشٌ) تعني: الجُند أو جماعة الناس في الحرب ، ومعناها اليوم عُدِّلَ إلى: جماعة الناس في السِّلْم!.. إذ يمكن تجييش الجيوش الجرّارة للقيام بمهمة الجهاد الجديدة المسموح بها من قبل الأنظمة العربية والإسلامية ، وأصبح الجيش جيوشاً ، إذ يُقال: جيشٌ من الموظفين والموظفات ، وجيشٌ من المذيعين والمذيعات ، وجيشٌ من محرّري الصحف والمجلات ، وجيشٌ من المطربين والمطربات ، وجيشٌ من الراقصين والراقصات ، وجيشٌ من الممثّلين والممثّلات .. وجيشٌ من المستنكِرين والمستنكرات ، وجيشٌ من المتوسّلين والمتوسّلات ، وجيشٌ من المستغيثين والمستغيثات ، وجيشٌ من النائمين والنائمات .. بل جيشٌ من الميّتين والميّتات .. إلى آخر قائمة الجيوش الجرّارة الحديثة ، التي تنفِّذ فريضة الجهاد الجديدة العجيبة على أكمل وجه!..
أما أسباب ما ذكرناه ، فتكمن في شيوع حالة الجُبْن ، و(جَبُنَ) تعني: تهيّبَ الإقدام على ما لا ينبغي الخوف منه ، كالعدوّ الصهيونيّ التافه ، أو كالإدارة الأميركية المتخبِّطة الساذجة .. مثلاً!..
أحد أطفال انتفاضة الأقصى المبارك ، الذين يواجهون الآلة العسكرية الصهيونية-الأميركية الفتّاكة ، بصدورهم الغضّة العارية .. أحد أولئك الأطفال الأبطال ، اقترح على أعضاء (جَمَعَ) وجيوشهم الجرّارة ، أن يَجُبُّوا شواربَهم وخِصِيَّهم!.. و(جَبَّ) الشيءَ تعني: قَطَعَهُ أو مَحَاه ، وفي الحديث الشريف: (إنَّ الإسلامَ يَجُبُّ ما قَبْلَهُ) ، أي: يقطع أو يمحو ما كان قبله من الذنوب والكفر!.. لكنّ الطفل البطل صاحب الاقتراح المدهش ، ذُهِلَ للمفاجأة التي اكتشفها ، أكثر من ذهوله لوحشية طائرات الأباتاشي الصهيونية ، إذ اكتشف أن فِعْل (جَبَّ) قد أنجز مهمّته منذ أكثر من نصف قرنٍ سبق لحظة اقتراحه .. وعندها وحسب ، استطاع أن يفهم كل ما يدور حوله ، من الجَعْجَعَةِ والجَهْجَهَةِ والجَهْوَرة!..
ــــــــــــــ
* الفَذْلَكَة - كما ورد في المعجم الوسيط - تعني :
[ مُجْمَلُ ما فُصِّلَ وخُلاصَتُهُ ] ، وهي [ لفظة محدَثة ] .