غزة 1: الدماء... والصورة على الجهتين
د. ماهر الجعبري-الخليل-فلسطين
تلطخت شاشات التلفاز بدماء الشهداء الزكية، وعلى موائد الصائمين امتزج عصير العرقسوس والتمرهندي بطعم دماء المسلمين, وتناثرت أشلاء الأطفال الممزقة فوق أطباق الإفطار، في مشاهد دموية مؤلمة تعتصر لها قلوب الصائمين المتابعين، وتتحرك حناجرهم بالدعاء.
ومع فظاعة هذه المشاهد الدموية انشغل الصائمون الذي قضوا بفرحة الشهادة عن فرحة الافطار، وانشغل المقاومون عن تحضير موائد الإفطار بإطلاق الصواريخ التي حرثت تل الربيع، وهزت أركان الكنيست اليهودي في مشهد تقاعست عن تحقيقه بأمر من الحكام الجيوش العربية التي خاضت المعارك المسرحية مع كيان اليهود.
وامتزجت مشاعر الغصة عند المسلمين مع أحاسيس فرحتهم وهم يقيسون مدى صواريخ المقاومة الممتد يوما بعد يوم بالرغم من قلة الإمكانات، والتي أدخلت الرعب في قلوب اليهود الجبناء، وذكّرتهم بأن الجهاد إذا تحرك في الأمة، هرعوا إلى الملاجئ كالجرذان، يحرصون على الحياة حرص المسلمين على موت الشهادة في سبيل الله.
وأمام هذا الحدث الصارخ لا بد من وقفة تتناول الصورة المعنوية على الجهتين، وقيمة الجهاد، مع نظرة سياسية على ما يجري وعلى مستوى الخطاب السياسي اللازم... وهذا المقال يتناول المجازر وصراع الصورة، مركزا على النقاط التالية:
1. دولة اليهود... صورة بشعة تمهد لزوال الكيان
لا شك أن هناك صراعا خفيّا على الصورة العالمية، ويتحدث المحللون الإعلاميون في العادة عن نجاح اليهود إعلاميا في إبراز الجانب الإنساني وما يرافقه من دموع كلما قُتل منهم أفراد، بينما يلوم بعض المحللين علو نبرة التحدي والصمود لدى أمهات الشهداء وهم يودعون أبنائهم، ويزغردون. ولعل بعض الدافع في هذا التقويم هو انطلاق أولئك المحللين من أرضية الصراع الدبلوماسي والعلاقاتي ضمن أروقة المحافل الدولية، ومحاولة كسب العالم (مشاعريا).
إن المشاهد الدموية المتجددة لوحدها كفيلة بإبطال الرواية اليهودية، وهي مع تراكمها عبر السنين قد رسخت في وعي العالم (وإن لم ترسخ في خطابه) بشاعة الصورة اليهودية، ولن ينفع اليهود مزيد من الدندنة على نغمة "الحرب ضد الإرهاب".
هنا –بداية- لا بد للمسلمين من أن يفضحوا التاريخ الدموي للكيان اليهودي: إذ من المعلوم أن ماكينة الإجرام اليهودية مشحونة بطاقة الغرب الاستعماري الحاقد هي التي بنت هذا الكيان اليهودي المجرم: فقد أراقت عصاباتها الوحشية دماء المسلمين في مذابح متكررة، ورصفت أرض فلسطين المغتصبة بجماجم المسلمين عبر الحروب المتتابعة، بل قبلها: حيث كانت قيادات العصابات اليهودية قد أعدت الخطط الدموية مطلع عام 1945، ورسمت عصابات الهاجانا خطة أيار 1946، التي باشرت على أساسها مذابحها ضد أهل فلسطين عام 1947 قبيل الحرب: في أعمال تفجيرية للحافلات (حيفا ورام الله في 12/1/1947)، وتفجير قنابل في الأماكن الفلسطينية العامة، مثل تفجير مقهى بوابة دمشق في القدس في 29/12/1948، وهجوم العصابات اليهودية مثل الهاجانا على القرى الفلسطينية، وارتكاب المذابح كمذبحة قرية الشيخ قضاء حيفا في 31/1/1947 التي استشهد فيها أكثر من 600 من الأطفال والشيوخ والنساء، ومذبحة يازور في 22/1/1948، ومذبحة دير ياسين غربي القدس في 9/4/1948، ومذبحة حيفا في 22/4/1948، وهدفت تلك الجرائم والاعتداءات إلى بثّ الرعب والخوف في أهل فلسطين، مما يعني بوضوح أن اليهود مارسوا الإرهاب وإراقة الدماء قبل نشأة كيانهم، وكانوا سباقين في تنفيذ عمليات "إرهابية" ضد المسلمين في فلسطين.
ومع ذلك تجاهل الغرب الحر المنادي بحقوق الانسان ذلك الإرهاب اليهودي، بل كافأه باعتراف دولي بالكيان اليهودي المغتصب لفلسطين وبقرار تقسيم فلسطين، ثم صارت ماكينة الغرب الإعلامية المنحازة ضد المسلمين تتعامى عن ذلك التاريخ الأسود لليهود، وتكيل تهم الإرهاب لمن يجاهد ضدهم.
وتتابعت جرائم اليهود ضد المسلمين في الحروب: منها أنهم قتلوا آلاف الأسرى من الجيش المصري في "جرائم ضد الانسانية" خلال العامين 1967 و1973. ومن ثم ارتكب الكيان الهمجي مزيدا من المجازر ضد أهل فلسطين كما في صبرا وشاتيلا عام 1982، ثم قتل الأطفال وتكسير عظام الشباب كما في الانتفاضة الأولى والثانية. ثم تتابعت مجازر اليهود في الحروب على غزة، وتم طهي أجساد الأطفال الأبرياء بالفسفور الأبيض. وها هي جرائمهم تتجدد اليوم جريا على نفس العقلية الوحشية التي تستلهم تاريخ اليهود العدائي ضد البشرية جمعاء، بل ضد الأنبياء الذين قتلهم اليهود ونكلّوا بهم.
2. فضح جرائم اليهود... دور الضحية أم حرب التحرير
هذا التاريخ الإرهابي الأسود كفيل بتدمير الصورة المعنوية للكيان اليهودي في أعين العالم، وهو يمكن أن يسهم –من الناحية السياسية العالمية- في تقبل بعض دول العالم إزالة هذا الكيان من الوجود نهائيا عندما تتخذ الأمة الإسلامية قرار الحرب الجهادية التي تخلع هذا الكيان من جذوره.
نعم إن كشف جرائم اليهود عالميا يمكن أن يكون خطابا مناسبا عندما يترافق مع حرب التحرير لإنهاء الاحتلال عن كل فلسطين، بحيث يكون العالم قد مل من وحشية هذا الكيان، وما ارتكب من جرائم ضد الانسانية، فيتقبل فكرة إنهاء الكيان اليهودي والخلاص من شروره.
لكن الإشكالية السياسية (إن لم نقل الجريمة الإعلامية) تكمن في أي محاولة للتموضع في موقف الضحية أمام العدوان اليهودي من أجل استدرار عطف العالم حتى "يلتفت لحق الشعب الفلسطيني": وذلك عندما يقتصر الإعلام العربي على تعداد الشهداء وعلى نقل أشلاء الأطفال دون دفع الأمة نحو واجبها الجهادي، بل عندما تصبح أشلاء الأطفال ورقة سياسية وإعلامية من أجل تحريك المحافل الدولية نحو تفعيل الحلول السياسية (السلمية)، التي ثبت فشلها بعد بطلانها السياسي والعقدي.
إن تاريخ الموقف الدولي تجاه "إسرائيل" يثبت بطلان هذا النهج السياسي والإعلامي كما أشار المقال أعلاه، فقد تجاهل مجلس الأمن الدولي جرائم اليهود بل كافأهم بشرعنة كيانهم. ثم وفرت أمريكا عباءتها لستر عورات اليهود في المحافل الدولية.
صحيح أن المشهد قد أثبت فشل القبة الحديدية في حماية الكيان اليهودي، وهو ما كان يقوي موقف اليهود في رفض الأمن مقابل السلام، وهو ما يحاول أن يستغله المفاوضون والقوى العالمية الحريصون على اليهود للتلويح للكيان اليهودي بأن ما يحميك هو سلام حل الدولتين لا قبة حديدية تخترقها الصواريخ حاليا (وهي إن لم تسقط عددا كبيرا من القتلى اليوم فيمكن أن تفعل غدا).
3. إعلام اليهود... هل صار رفع الروح المعنوية أغلى من تحسين الصورة العالمية؟
وعلى النقيض من المشهد الفلسطيني، تجد المشهد "الإسرائيلي" الحالي لا تبرز فيه أعداد القتلى التي تتناسب مع مئات الصواريخ التي تطلقها المقاومة! صحيح أن إعلامهم يبرز نوعا من الرعب على الجبهة الداخلية، وهو إعلام على ما يبدو يخاطب المجتمع اليهودي لا المجتمع الدولي في ذلك، وهو على ما يبدو يخاطب المجتمع اليهودي محذرا لا مخذلا: لرفع الروح المعنوية من جهة، ولتبرير العمليات العسكرية من جهة أخرى، مما يعزز موقف القيادة السياسية. ولا يبدو فيه اهتمام كاف لمواجهة تدمير الصورة "الإسرائيلية" الملطخة بدماء وأشلاء الأبرياء أمام العالم من خلال عرض ما يكافئها من "ضحايا" عندهم.
نعم ليس ثمة من بروز لأعداد قتلى عند اليهود، فإن لم يكن ذلك تكتما بدافع يهودي معنوي، لرفع الروح المعنوية الداخلية ولإحباط الروح القتالية عند المقاومة، لا بد من التساؤل والانتباه:
لا بد من النصيحة أنه من الخطر على أهل فلسطين أن يكون هنالك هدف سياسي يتجسد في بقاء التموضع في دور الضحية، وتجنب إظهار سقوط قتلى من اليهود، لأن دور الضحية يخدم ما بعد العدوان اليهودي من فتح ملفات التفاوض، لا أن يحرك الروح الجهادية في الأمة لخوض حرب التحرير التي تخلع هذا الكيان نهائيا.
خلاصة القول إن عداء اليهود ضد المسلمين مستفحل في عقولهم وقلوبهم، ولذلك فهم لا يترددون في إراقة دماء المسلمين، وهم ظلوا يتصرفون كعصابات إرهابية، تلطخت أيديهم بالدماء الناتجة عن أعمال القتل والتفجير، وهم يدّعون "إرهاب المسلمين" فيما يختبئون خلف تاريخ بشع من الإرهاب. وبينما كانوا يمارسون دور الضحية ويضخمون قتلاهم في محاولة لكسب العالم معنويا معهم، تبدو الصورة اليوم معكوسة بعض الشيء مع عدم بروز قتلى عندهم، فيما تزخر الشاشات العربية بصور أشلاء الأطفال والنساء والبيوت المدمرة في غزة (دون أن يرافق ذلك المشهد الدموي دعوة لغضبة جهادية). وهو ما يقتضي وقفة إعلامية وسياسية لفحص الغاية من هذا المشهد الدموي في غزة والمشهد الناجي عند اليهود؟ وإن نجاعة الصواريخ في اختراق القبة الحديدية لا يكتمل إلا في إظهار نجاعتها إعلامياً في إنزال القتل في صفوف اليهود من أجل أن تكون إنجازات المقاومة تحريكية للأمة نحو واجب الجهاد، قبل أن تستثمر من قبل القوى الدولية والمفاوضين في تحريك العملية السياسية.