انتصار العقلانية الفلسطينية

نبيل عودة

كاتب , ناقد وصحفي فلسطيني – الناصرة

[email protected]

يظن نتنياهو ان ساعته قد حلّت، تماما مثل المبعوثين الإلهيين من القرون الوسطى وما قبل التاريخ. استغلّ عملية خطف ثلاثة صبيان لينفّذ ما يتوهّم انه عملية تطهير ضد حماس في الضفة الغربية.. بهدف إعادة شقّ الموقف الفلسطيني ودفع الفلسطينيين الى نزاع أكثر عنفا من انقلاب حماس السابق.

أودُّ القول انه رغم انتقادات قوى وطنية وقوى من حماس لموقف رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس من موضوع خطف الأولاد وضررها على الوضع الفلسطيني، الا ان ما يتضح أكثر وأكثر ان موقف محمود عباس لم يكن هو الموقف الذي توقعه نتنياهو. الموقف الفلسطيني الرسمي أربك خططه التي بدأت تتّضح اليوم بصورة افضل، وليت منتقدي عباس يعيدون تقييم الأحداث التي أعقبت خطف الأولاد الثلاثة.

هناك ابعاد مختلفة دفعت عباس لموقفه العقلاني، اولا:  تجريد اسرائيل من الحجة التي تكررها حكومة اليمين من رئيسها حتى أصغر موظف فيها، بأن السلطة الفلسطينية ورئيسها معادون للسلام ولا يشكلون مفاوضا مناسبا لعملية السلام التي احتلت جهودا أساسية من جهود وزير خارجية الدولة الحاضنة لإسرائيل، وأعني جون كيري وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، ونجح المفاوض الفلسطيني بجعل كيري يوجه اللوم بأشكال عديدة لا تفسر على وجهين للموقف الاسرائيلي. ثانيا: "مونديال نتنياهو العسكري المتواصل  في الخليل" واعتقالاته لقيادات حماس وغيرها من القوى السياسية في الخليل والضفة الغربية لم تقنع دول العالم وخاصة دول الاتحاد الأوروبي بتغيير سياساتهم من الاحتلال (رغم انه وزّع السكريات على أبناء المعتقلين)، وشهدنا ان دول الاتحاد الأوروبي تأخذ خطوات أكثر فاعلية من موضوع المستوطنات وتعلن بوضوح ان المستوطنات غير مشروعة، وتنذر مواطنيها من التعامل مع المستوطنات.. واعلن سفير الاتحاد الأوروبي في تل ابيب  إن دولا كثيرة في الاتحاد الأوروبي تفقد صبرها إزاء سياسة البناء في المستوطنات... وان الاتحاد الأوروبي يرى ان المستوطنات غير شرعية من جهة القانون الدولي. لذلك هناك مخاطر قضائية واقتصادية قد تصيب الشركات والأفراد الذين يقومون بفعاليات اقتصادية أو ينفّذون عمليات تحويل أموال أو استثمار أو يوقعون على صفقات أو يشترون أراضي أو يحصلون على خدمات سياحية من جهات استيطانية.  ثالثا: على ضوء كل هذه التطورات يبدو الاعلان الحكومي حول القدس الشرقية لمنع تقسيمها مستقبلا، ضربا نحو المزيد من التطرف الاستيطاني، الى جانب تنفيذ خطة الوزير بينيت التي يتبين انها خطة حكومية معدّة سابقا منذ خمسة سنوات، لضم مناطق "ج" الى اسرائيل ومنع اقامة دولة فلسطينية مستقبلا وجاء متواصلا مع "الفرصة الذهبية" التي وفّرتها عملية خطف الفتيان الثلاثة.

من هنا رؤيتي ان موقف الرئيس محمود عباس كان متنبّها لما تخطط له حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة. رأى بوضوح ان عملية الخطف تشكل تهديدا للمشروع الوطني الفلسطيني، توقع السلطة الفلسطينية بشرك تعدّه لها حكومة الإرهاب الاحتلالي وان خطف الشبان الثلاثة لن يقود الى أي مكسب في موضوع الأسرى الفلسطينيين.

بعد كتابة المقال نشر خبر العثور على جثث  الشباب المخطوفين. حتى الآن لم نسمع من نتنياهو الا توعُّده بأن تدفع حماس الثمن. طبعا بدأ القصف على قطاع غزة.. لا اعرف كيف ستتطور المواجهة مع حكومة يمينية متطرفة ورئيس حكومة لا يظهر أي اتّزان سياسي في موقفه. 

لا نرى بالنضال الوطني الفلسطيني للتحرر من الاحتلال  نضالا إرهابيا، بل نرى باستمرار الاحتلال استمرار لسياسة القمع والسيطرة غير المشروعة على الأرض، وتنفيذ اعتداءات على أرزاق الفلسطينيين من حرق حقول وأشجار وإقامة أسوار تفصل الفلسطينيين عن أملاكهم، تمنع التواصل الجغرافي للوطن الفلسطيني، سيطرة الاحتلال على مصادر المياه الفلسطينية، سياسة قتل الفلسطينيين بدم بارد وتبرير القتل بحجج مفضوحة تكشف الوجه الدموي لجيش الاحتلال، الى جانب تنفيذ أبشع انواع الحكم العنصري (الأبرتهايد) وعلى رأس ذلك قمع حقوق الانسان الفلسطيني الأولية، بل واعتبار كل طفل فلسطيني مخرباً محتملاً مستقبلا، كما قال بدون حياء ضابط نيابة عسكرية لوفد برلماني بريطاني.

ان الموقف العقلاني لرئيس السلطة الفلسطينية لم يكن سهلا وبدى غير وطني إطلاقا في أعين الكثيرين من ابناء الشعب الفلسطيني، لكنه كان الموقف الذي جرّد نتنياهو من قناعه السلمي وكشف وجه سياسته على حقيقتها، سياسة رفض اقامة دولة فلسطينية، مواصلة احتلال الأرض، توسيع الاستيطان وخطط ضمّ أراضٍ جديدة بما في ذلك منطقة "ج" كما اعلن  وزير الاقتصاد بينيت  كاشفا مشروعا قديما معدّاً مسبقا في حكومة نتنياهو.. واليوم بعد ايجاد الجثث يتضح كم كان الموقف الفلسطيني الرسمي مسؤولا وصحيحا.

موقف رئيس السلطة الفلسطينية جعل من تصريحات نتنياهو ثرثرة اثارت ضحك الكثير من الاسرائيليين وسخريتهم ، حتى سخرية ذوي المواقف اليمينية، ولم تنجز أي مكسب لسياساته في المجال الدولي، بل عمّقت التقييم السلبي لحكومته دوليا (وأمريكيا ايضا) واسرائيليا. 

تخيلوا لو كان موقف محمود عباس مماثلا بشكل من الأشكال للموقف الصبياني لعضوة الكنيست من التجمّع حنين زعبي التي خدمت نتنياهو وكان يتمنى بسرّه موقفا مشابها من محمود عباس.

لا احد ينكر حق الشعب الفلسطيني في تحرير اسراه، لكن التصرفات غير المدروسة والمتسرّعة لن تكون هي الطريق لتحرير الأسرى. ان القتل العشوائي ليس طريقا للنضال الوطني. 

ما يغضب نتنياهو وحكومته المواقف العقلانية لرئيس السلطة الفلسطينية التي تجرّد حكومة اسرائيل اليمينية من كل مصداقية سياسية لها.. ومن مصداقية أخلاقية تدّعيها وهذا سيبرز أكثر في الأيام القادمة!!