حازم حسني: مصر أكبر من السيسي

انتقد الدكتور حازم حسني، أستاذ العلوم السياسية، تناول الإعلام المصري لحادث الطائرة الروسية، والأصوات التي تنادي بالوقوف بجانب الرئيس عبدالفتاح السيسي في تلك الأزمة، مؤكدًا أن حجم مصر كدولة لا تختزل في شخص الرئيس.

ورد "حسني"، في مقال نُشر له بعنوان "إنها مصر .. لا السيسى!"، على من يؤيد أن ذلك الحادث مؤامرة على مصر والرئيس، مؤكدًا أن أي رئيس في العالم يوجد مخطط لإفشاله من أي قوى سواء داخلية أو خارجية وإن عجز نظام يحكم دولة بحجم مصر عن مواجهة "مخطط" لتنظيم دولي إلا أن يكون ما يقدمه من "أخبار" عن هذا المخطط عذرًا أقبح من ذنب.

وسخر "حسني" من الدعوات الإعلامية بالرد "الحاسم" على قرارات الدول الغربية بسحب رعاياها من مصر، متسائلًا: "كيف سيكون هذا الرد الحاسم؟ وبأى عنصر من عناصر "قوتنا" سيكون هذا الرد؟ هل سنسيّر لهم الجيوش ونسوق لشواطئهم الأساطيل لإخافتهم؟ أم سنفرض عليهم حصارا اقتصاديا يهددهم بالإفلاس؟ أم سنقوم بإرباكهم بآلتنا الإعلامية الشرسة التي تتحكم في الرأي العام الإنجليزى وتحركه لمصلحتنا كيفما نشاء؟ أم سنحجب عنهم ثراءنا العلمى والتكنولوجى، ونمنع أساتذتنا من التدريس لطلابهم، ونمنع هؤلاء الطلاب الإنجليز من الالتحاق بجامعاتنا التي تحتل صدارة التصنيفات الدولية للجامعات؟!".

وأنهى أستاذ العلوم السياسية مقاله قائلًا: "إنها مصر أيها السادة التي اختزلتموها في شخص رئيسها، أيًّا كان عدد من يبحثون عنه في مراياهم، وأيًّا كان عدد من لم يعودوا يرونه فيها!".

وجاء نص مقاله كما يلي:

إنها مصر .. لا السيسى!

لا أستريح كثيرًا لنظرية المؤامرة، اللهم إلا بالمعنى الذى مللت من التنبيه إليه في أكثر من مناسبة وهو أن التاريخ ما هو إلا سلسلة من المؤامرات المستمرة.. مؤامرات الطبيعة على الإنسان، ومؤامرات الإنسان على الطبيعة، ومؤامرات الإنسان على الإنسان، ومؤامرات الإنسان على نفسه!

صحف الصباح المصرية التي صدرت منذ صباح الجمعة الأسود امتلأت بمقالات وأعمدة ترتمى فى أحضان نظرية المؤامرة، والمتهم فيها هو بريطانيا "الاستعمارية" والولايات المتحدة "الإمبريالية".. الكل يتعامل مع الأمور بمنطق المفعول به، لا بمنطق الفاعل الجدير بالاستمرار على مسرح التاريخ بقدرته على قراءة "المؤامرة" وعلى التعاطى "الإيجابى" معها.. فهناك دول وممالك وإمبراطوريات سقطت عبر التاريخ لأنها ببساطة لم تكن تملك قدرة القراءة من كتب التاريخ، ولا هي امتلكت قدرة الكتابة على صفحاته؛ فأغلق عليها التاريخ كتابه، أو هو تجاهلها بالكلية، ولم نعد نسمع عنها شيئًا إلا أضغاث روايات، كحكايات العجائز حول نار التدفئة في ليلة باردة لا رائحة فيها لحياة يمكن أن يهتم بتسجيل أطوارها الشيخ ذو اللحية البيضاء الوقورة، صاحب أضابير التاريخ!

قضاء بعض الوقت مع دروس التاريخ ربما يسهم في إزاحة الغشاوة عن عيون البعض ليميز بين مفهوم "المؤامرة" ومفهوم "المصلحة"، فالدول الفتية تتنافس على أيها تحقق أكبر قدر من مصالحها ولو على حساب غيرها من الدول المنافسة، أو -بالأخص- على حساب غيرها من الدول الرخوة الآفلة، فالتاريخ لا يعرف مفهوم الدولة الشريرة الذى صرنا نقيم به دولة كبرى مثل الولايات المتحدة، أو حليفتها المملكة المتحدة، أو صنيعتهما إسرائيل، أو ما تفعله بنا تركيا أو قطر أو... أو... أو...!! فلا دولة من هذه الدول يمكن أن نصفها بالمتآمرة ولا بالشريرة إلا بقدر ما نصف روما أو بيزنطة أو قرطاج أو حتى دولة محمد على أو مصر تحت حكم الأسرتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة الفرعونيتين بأنها دول شريرة أو متآمرة!

كل دولة تكبر وتقوى ليس من سبيل أمامها إلا أن توسع من فضائها الحيوى، ومن حيز نفوذها وتأثيرها السياسى والاقتصادى والثقافى المعرفى، بتوظيف عناصر قوتها المادية والمعنوية على ما حولها من دول ضعيفة لاهية لا تملك من أسباب القوة والمنعة ما يردع خصومها، ولا من أساليب الدفاع عن وجودها إلا نياتها "الطيبة" أو "الخيرة"، أو قوة عسكرية لم تسأل نفسها ولو للحظة عن متى وفي مواجهة من يمكنها أن تلجأ إليها!

إسراف الدولة، أى دولة، في بناء قدرة أو قوة عسكرية لا توازنها قدرة وقوة مدنية هو بداية الأفول لأى دولة حين تواجه من الأزمات ما لا يصلح السلاح العسكرى لمواجهته، فحين تكون المواجهة مع خطر مصدره دول تمتلك من القوة العسكرية ما لا تملك فإنه لا ملجأ لك من الخطر إلا قوتك المدنية، وأخطر ما في قوة الدولة المدنية هو قوتها المعرفية والرمزية، وكلاهما مهدر في مصر لمصلحة أوهام وأحلام انفصلت عن واقع الداخل والخارج، بعد أن صارت قوتنا المدنية رهينة انتفاخ مريض في الذات العسكرية، لأن كل ما يزيد على حده ينقلب دومًا إلى ضده.. هذه هي قوانين الحياة التي نصرّ، أو يصرّ فريق منا، على تجاهلها.

تحت تأثير وهمية المؤامرة، ووهمية قدرتنا على ممارسة فنون "الفتونة"، وكأن العلاقات الدولية كالعلاقات بين حوارى القاهرة القديمة في روايات نجيب محفوظ، أصيب جل الإعلام المصرى -العام والخاص، المقروء والمسموع والمرئى- خلال الأيام القليلة الماضية بحالة انعدام الوزن، فهو لا يعرف إن كانت مصر تمر بأزمة، أم أن رئيسها هو الذى يمر بأزمة، ولا كيف سنعبر هذه الأزمة في الحالتين؛ فقرر إعلامنا المربك والمرتبك أن مصر هي التي تمر بأزمة لا رئيسها ولا نظام حكمه، وأنه لا مخرج من هذه الأزمة "الوطنية" إلا بإخراج رئيس مصر من أزمته التى صنعها بنفسه، بل وما زال يعاند بمضيِّه قُدمًا فى مشروع ما يسميه "الريف المصرى الجديد"، كما سبق له من قبل أن مضى بغير عقل اقتصادى فى مشروع ما صار يُعرَف إعلاميا بـ"قناة السويس الجديدة"!!

بعض الإعلاميين وكتاب الرأى يرون أن مصر قادرة على الرد على ما اعتبروه "مؤامرة" بأن نحتفظ بحقنا في الرد على "قلة الأدب" الإنجليزى، وأن يكون ردنا هذا ردا "حاسما"، مضيفين جملة مشبعة بـ"الجدعنة" وهى "واحنا قدها بإذن الله"!...

ولكن كيف سيكون هذا الرد الحاسم؟ وبأى عنصر من عناصر "قوتنا" سيكون هذا الرد؟ هل سنسيّر لهم الجيوش ونسوق لشواطئهم الأساطيل لإخافتهم؟ أم سنفرض عليهم حصارا اقتصاديا يهددهم بالإفلاس؟ أم سنقوم بإرباكهم بآلتنا الإعلامية الشرسة التي تتحكم في الرأي العام الإنجليزى وتحركه لمصلحتنا كيفما نشاء؟ أم سنحجب عنهم ثراءنا العلمى والتكنولوجى، ونمنع أساتذتنا من التدريس لطلابهم، ونمنع هؤلاء الطلاب الإنجليز من الالتحاق بجامعاتنا التي تحتل صدارة التصنيفات الدولية للجامعات؟!

الإجابة عن هذا السؤال، أعنى كيف سيكون الرد حاسما، إنما يسعفنا بها إعلامى آخر قرر في لحظة تجلٍّ أن يدخلنا في قصة "الأميرة النائمة"، فنفعل ما كانت تفعله الساحرة "الشريرة" التي كانت تقف كل صباح أمام المرآة لتسألها: "مرايتى، يا مرايتى، فيه حد في الدنيا دى أجمل منى؟!!" ففي نهاية مقال طويل له بالصفحة الأخيرة من صحيفته، نوهت عنه الصحيفة في صدر صفحتها الأولى، قرر صاحبنا أن يفتح لنا باب الأمل للخروج من الأزمة.. "قفوا كل صباح أمام مراياكم وقولوا: كلنا عبد الفتاح السيسى" هكذا!

المشكلة هي أن مرآة الساحرة "الشريرة" كانت أمينة معها، وكانت تواجهها بالحقيقة، وبأنها ليست الأجمل؛ لكن صاحبنا يريد لمرايانا أن تخدعنا، فكتب يقول: "آن لعملاء الداخل أن يخرسوا للأبد، وآن لمن ينتقدون الرئيس ويرونه مقصرًا أن يسكتوا [...] السيسى أو الكارثة [...] انتقاد السيسى في هذا الظرف الحرج خيانة [...] أرجوكم، لا تتوقفوا عن حب هذا الرجل ودعمه، ولا تلتفتوا إلى أكاذيب النخبة وسفسطاتها"!!

هكذا يراد للمرايا أن تكون مغيبة وعمياء منافقة، لا ترى قصورًا ولا جموحًا ولا أخطاء ولا خطايا، لتكون مرايانا التي نرى فيها أنفسنا أسوأ من مرآة الساحرة الشريرة التي أنامت بسحرها الأميرة التي تنتظر أميرًا يوقظها من سباتها، ويحيى بإيقاظها الأرض الحزينة بعد موتها!

إعلامى ثالث يرى أزمة مصر في شعبها الذى لا يستجيب لطموحات الرئيس، لا في الرئيس الذى استبعد الشعب من حساباته التنموية، غير مكترث بالحال الكارثية التي وصلنا إليها، ماضيًا فيما سبق أن أعلنه -وهو بعد قائد الجيش- من أنه لا توجد مشكلة في إشقاء جيل أو جيلين من أجل أن تجد الأجيال اللاحقة "شيئًا"!

صحيفة رابعة يتصدر صفحتها الأولى "خبر" ينقل عن "مصادر رفيعة المستوى بالعاصمة البريطانية" أن التنظيم الدولى للإخوان أعد مخططا دوليا لتدمير الاقتصاد المصرى وإثارة الشعب على الرئيس!! بالله عليكم، ما الجديد في هذا "الخبر" الذى يستوجب اللجوء فيه لمصادر "رفيعة المستوى"؟ وهل يوجد رئيس دولة يحكم دون مخططات تسعى لإفشاله تأتيه من شرق أو من غرب؟ هل هناك نظام حكم لا يوجد له معارضون ومناوئون في الداخل والخارج؟ وبماذا نصف عجز نظام يحكم دولة بحجم مصر عن مواجهة "مخطط" لتنظيم دولى إلا أن يكون ما يقدمه من "أخبار" عن هذا المخطط عذرًا أقبح من ذنب؟

حين يصل أي إنسان لرئاسة دولة فلا يرى منها إلا مؤسسة الجيش التي خرج منها دون أن يغادرها، ويتصور أن الدولة التي يحكمها هي كالمعسكر الذى كان يقوده، وأن على الكل أن ينصاع لأوامره ولو كان في الأوامر هلاك الجميع، ويعيش في وهم أنه ما دام جيش دولته بخير فإن دولته كلها تكون بخير، ثم يستيقظ ذات يوم على واقع لا يصلح للتعامل معه أية حلول عسكرية، وينظر حوله فلا يجد دولة قادرة بقوتها الشاملة على مواجهة الخطر وعلى إخراجه ودولته من الأزمة، حين يحدث كل هذا أو شبيهه في مصر فلا يجوز أن يخرج علينا كاتب عمود يومى يبدأه بعبارة "شعب 30 يونيو في أمس الحاجة إلى السيسى"!

لا أعرف من شعب 30 يونيو هذا؟ ولا ما علاقته بشعب مصر الذى انقسم حول 30 يونيو كما لم ينقسم من قبل، وقد كان حريًّا بمن تحمل مسؤوليته أن يجمعه ولا يفرقه حتى يكون قادرًا -وقت النداء- على موازنة أثقال الأمم التي تداعت علينا.. هي ليست أممًا "شريرة" كما يصر إعلامنا ذو المزاج الفاسد، لكنها الغفلة ما زالت تحجب رؤيتنا لحقيقتنا ولحقيقة العالم من حولنا، حتى لقد اعتقدنا أن أزمتنا هي أزمة الساحرة التي ما زالت تسأل المرآة عن جمالها الذى لا جمال غيره، لا أزمة الأميرة النائمة التي لا يريد لها البعض أن تستيقظ!

إنها مصر أيها السادة التى اختزلتموها في شخص رئيسها، أيًّا كان عدد من يبحثون عنه في مراياهم، وأيًّا كان عدد من لم يعودوا يرونه فيها!

وسوم: 641