بين الديوم والعمارات .. شارع ظلط

بيت البكاء ... بحساب الأيام كلنا فقراء...

إسماعيل حسن الشاعر، طوبى له، عبر في قصيدته التي شارعها:

 بين العمارات والديوم.. شارع ظلط.. لكنه في الحق آلاف السنين.. ). ما يهمني هنا، أنك لن تغتن لو صعدت إلى تلك الضاحية تندس في زمرة الأغنياء. وأنت لن تموت ـ بإذن الله ـ لو هبطت حارة الفقراء، إلا إذا يومك تمّ. تجلّد يا صديقي. كن كما أهل المتمة. إليك الحكاية : من المعروف طبعاً أن خط تقسيم الحدود ـ بحسب 1/1/1956م ـ جعل الجراد والمقبرة تموين الضعفاء. وقضى بالمطار للأقوياء بمالهم. هذه قسمة ضيزى. قال شاعر.. قال شاعر بالحاصل:

اقلاع هناك، وهبوط اضطراري هنا. نحو الثرى.

الأسهم في السماء.. وهنا الكساد كبودَنا.

قال الشاعر بالحاصل ( كبودَنا ) بالفتح، منصوبة بفعل محذوف اقتضته ضرورة التقشف، تقديره أكل. لذا لزم التنويه )

.اقلاع هناك، وهبوط اضطراري هنا. نحو الثرى.

الأسهم في السماء.. وهنا الكساد كبودَنا.

هناك تغريد. هناك تغريد على الأفنان..

وهنا السكات.. السكات بت المنى

هناك الناطحات.. الناطحات قرونها.

وهنا.. النَّطِيح .. لا حي أنت ولا أنا.

لاحي أنت ولا أنا.

الله يجازي الإنجليز، كانوا السبب.

 كانوا السبب ).. شماعة عليها كل هدومنا.

******* لا حي أنت ولا أنا.. لا حي أنت ولا أنا.

البركة فيكم يا صحاب. أحسن الله عزاءكم.

هذا حال الدنيا.

الفاتحة..

** ( أُطفئت الأنوار، أو أن الشاعر بالحاصل أغمض عينيه ثم قال من تحت الثرى ):

كفى كفى.

أخي آدم

أخي أدروب

أخي الفاضل..

كفى كفى.

تحت الثرى

أدع معي.

قل لا عاش من يفصلنا.

لا عاش من يفصلنا.

إيماننا: لو كان الموت من مسغبة لما مات الأغنياء.

أعمارهم طويلة مديدة. كادريليون.. أتدرون ما الكادريليون؟ إنه واحد على يمينه أربعة وعشرون صفراً في بلاد الإنجليز. إني آمنت بالله الواحد الأحد الفرد الصمد. آه.. لو يموت الناس من مال، الخلد كتاب الأغنياء.. لكن.. بحساب الأيام كلنا فقراء. طال عمركم، رأس مالنا: ستون. سبعون. مائة سنة من فئة الجنيه. يا له من ك

هواتفنا على الشاشة

في خيمة العزاء تباينت الآراء حين تناولنا مسألة الأغنياء بالقيل والقال. بالتأمل بدا لي أننا أغلظنا عليهم. بحسب النظرية النسبية هم أيضاً فقراء. لم نجد أسماءهم مسجلة ضمن المائة الأوائل في مجلة فوربس. هذا على المستوى العالمي، ولكن حين الامتحانات المحلية القديمة تشطروا علينا. رسبنا في مادة الفقر، ونجحوا في مادة الغنى فألقينا اللوم عليهم. هذا حظهم واجتهادهم، وما حاق بنا كسل أيدينا. هذه السنة طلعت النتيجة. كدأبها غنت أماني مراد ( مبروك النجاح ). لم تتخلف موسم الحصاد وهي بعيد. النعام آدم، صوته البكاء بطعم المانجو مهنئاً ( خلاص يا منقة منقولة). وعلى كل حال، يُحمد لهذه البلاد أنها تساوي بين أبناء الفقراء والأغنياء على الأقل مرة كل عام، تطعمهم الشهادة السودانية. الشاهد هنا أن العمارات رسبت في الامتحان. لم تعد نتيجتها تطلع الأولى. لا زغاريد. لا شربات ولا ثريات. سبقتها مدارس خاصة كثيرة في الضواحي وطرف المدائن. مفاجأة النتيجة المذهلة أن حي الزهور أمسى بلا زهور. كان فيه عثمان حسين أول الدفعة. المايقوما: شذى زهر ولا زهر. الصافية لم تعد ضمن أندية الدرجة الأولى الممتازة. هبطت إلى الثانية. ثمة مدارس خاصة تصدرت الترتيب العام: المنشية. الرياض. المعمورة. مدن أحلام. أبراج. مسابح. ملاعب. مستشفيات. مدارس. أسواق متكاملة. هواتفنا على الشاشة. وللتواصل على البريد الالكتروني: دبليو دبليو دبليو. أفتح يا وطني أبوابك .. نحن الفقراء.

ترسيم الحدود

من الملفات الشائكة في خيمتنا ترسيم الحدود. يقول العارفون بأن الخط الفاصل بين العمارات والديوم يعود مسحه إلى زمن الإنجليز كما أسلفنا. كان درباً متعرجاً للحمير والجمال. ثم جرى رصفه في عهد الحكومات الوطنية المتعاقبة. جرت عليه عربات كثيرة. يعبره الرعاة بألبانهم وخضراواتهم. وقت الغروب يعودون بالخبز. أصابتهم العدوى. عرفوا المعجنات والمعلبات والآيس كريم ونشق بعضهم الدخان. والأغنياء لا مندوحة لهم من دفن موتاهم في المقبرة الواقعة جهة الفقراء. يقبرون فيها بلا مقابل. لم تنقطع حركة التواصل الاجتماعي طيلة عقود في الأفراح والأتراح. ثم جاء زمان تدهس فيه العربات الناس العابرين. كثرت المشاكل بأسباب ولا أسباب. أحياناً تقع لأتفه الأمور. كأن يحتك حمار لبن بسيارة فارهة. أغنام الديوم الشرقية مليشيات تتلف حدائق السادة. تشتكي الناعمات القاتلات المحييا ت المبديات من الدلال غرائبا يشتكين أن طوابقهن العالية تشرف على القبور. برقيتهن المرفوعة تعلية الجدار. إنارة السور. مكافحة البعوض والناموس. طرد المتسولين. صُنعت المطبات.

فرت الحفر. تم إطلاق بعض الشتائم المتقطعة عبر الحدود. ترسب في النفوس ما ترسب. ولفض الاشتباك والتداخل بين الطرفين كان مقترح الوساطة، عالية الجودة، أن يُجعل الشارع المذكور منطقة عازلة منزوعة السلاح. لا عربات تجري عليها ولا نهيق. يتم فتح مسارات آمنة يتعهد فيها الرعاة ألا تعتدي أغنامهم وجرادهم على حدائق الأغنياء. وعلى السادة ألا يجعلوا حارة أسفل مكباً لأعقاب السجائر. بذلك فقط يتم احتواء التوتر ورفع أسباب الشجار.

شيمة أهل البيت كلهم السياسة الصدفة تلعب دورها. محمد نجيب أول من توسط بين الفقراء والأغنياء، وما زال يؤدي دوره الحيوي جيئة وذهاباً رغم المطبات والحفر. محمد إبراهيم نقد، زعيم الحزب الشيوعي السوداني، من هنا وهناك. ترشح في الدائرة الثالثة التي هي العمارات والديوم. حاول عبور الشارع شأن من يحلم بالتغيير. حدثني أحدهم أن خطته الانتخابية بُنيت على جعل الشارع اتجاهاً واحداً يصب في مصلحة الوطن. وقال آخر أن الشاب لم يكن قد قرأ ( سكة العمر ). أو لعل القصيدة الشهيرة ما كُتبت حينذاك. شغل نفسه بكتاب الطبقة العاملة ورأس المال. وضعت الأغنياء يدها على قلبها تًؤمم نبضاته، وتحسست الفقراء جيوبها تنتفخ بكرات العشر. وما زال الرجل بين الفريقين جيئة وذهاباً، يلتمس الدواء حتى قضى نحبه. رحمه الله، سار ولم يصل.

الأطباء بدورهم أدلوا بدلائهم حتى شاعت وصفة المرار المعروفة. يشخبطون ما لا يُقرأ. الصيادلة أكل عيشهم فك الهيروغليفية بعصوات ثلاث على علبة الدواء. عصوات يتوكأ عليها الأميون: بعد الفطور، بعد الغداء، بعد العشاء. لكن هؤلاء ـ بحسب تقرير المهندسين ـ لا يملكون القوائم، وأولئك ـ أعني حارة أعلى ـ يتجاوزون السقف المسموح به في البناء فأنى الشفاء. أصحاب الحجج لم يتخلفوا. أقاموا المريض وأقعدوه مراراً، يترافعون عنه. أطنبوا الخطابة والتأجيل حتى تعب المسكين من كثرة القيام والقعود. الصحفيون لم يفتهم الركب فتعلقوا بأقلامهم حاملين عواميدهم، فيها الكسرة، الويكة، الهمبرغر والآمال العريضة. حصل تسمم غذائي للجمهور جراء افتراشهم الصحف للأكل، وجراء إفراطهم القراءة، رغم ما كتب بخط صغير، فحواه أن السياسة في السودان سبب رئيس لأمراض القلب والكلى والشرايين.

لقد عرضنا لغير هذا من الطبابة خارج خيمة العزاء. تناولنا النشوق والسفوف. بليناها وشربنا مويتها، فلم يُمح ما بنا. غيرنا مناهج التعليم. حذفنا من المقرر محمد ود فضل في ود سلفاب. صديق عبد الرحيم هاجر من القولد. جربنا الانفصال والبتر حين استحكم الجرب، فلم يشف ما بنا ما دام شيمة أهل بيتنا كلهم.. السياسة. ـ إلا نحن. همنا الكتشينة، والحل عندنا!

ـ عجّل به. خلّصنا يا حكيم.. الله يرضى عليك.

ـ (Game up) نشكّها ونوزعها من جديد!

خروفنا بيج:

للناس فيما يعشقون مذاهب. من هؤلاء رجل أعرف حق المعرفة. من جماعتنا. جده من النازحين الأوائل إلى هذه العاصمة. قيل له وقد تخطى الستين من العمر: ـ هل عشر سنوات يا ابن عوف تكفيك؟

ضحك ثم قال لا:

ـ زيدوني.

ما زدناه. نحن لا نعطي ما لا نملك. هلك ابن عوف قبل أن يكمل العد عشراً. كان صاحب فكاهة. ما فتئ يقص على الحفيد حكاية المفتش الإنجليزي يطوف عليهم يتفقد أحوالهم. كان يغريهم بشراء الأراضي هنا. ثمن بخس.

روش معدودة. متوكل يكمل القصة. كان بوسع جده حينذاك شراء الجملة والقطاعي. ولكن من كان يظن أن عصا الترحال تُلقى هنا. حساب النازحين سنوات قليلة يعودون بعدها كل إلى دياره. متوكل ليس من السادة رغم أنه خرطومي الأنف، وأكثر هذه الزحمة بالتسنين والتجنس والتسلل. المذكور أعلاه تؤذيه المروحة، المكيف، الثلاجة والبنيان المرصوص على البنيان. عشقه الذهاب إلى البلد، والشقي لا يسعد، كما يقول هو عن نفسه. ورث منزل جده في السجانة لأنه أصبح وحيداً بين بنات.

اشترى حصصهن فآل الإرث إليه جميعاً. ولأنه إعرابي قح أهله من أطراف بلدتنا، هواه طلوع الكثبان. يتسلق النخل. يركب الجمال والحمير. حنت نفسه للجذور لولا العاصمية زوجته. يجاهر بأكبر غلطة في حياته أنه تزوج من ربطته بالوتد إلى المدينة. في السجانة أحس بالكتمة.

وللبحث عن الهواء النقي باع. باع طرف المدينة حيث ثغاء النعاج! اشترى في الامتداد. وسرعان ما عمر المكان. ازدحم. الذي أجبره على النزوح من هناك سبب طريف قال به لسامعيه في بيت البكاء. سألوه:

ـ مبروك. قالوا رحلت الصحافة.

ضحك متوكل يعرفهم يسحبونه باللجام. يقربونه. يوهمونه أن الحَب في قبضتهم المعكوفة:

ـ السجانة كتمة!

ـ لا. أنا خفت على ولدي.

ـ يعني ما هي كتمة؟

ـ لا كتمة ولا حاجة. بل مصيبة.

ـ يا رجل!

ـ تتصوروا.. سمعت ولدي سامر، يقول لأصحابه: خروفنا بيج!

ـ يمكن فعلاً خروفكم بيج يا متوكل!

ـ الله يبعج بطنك!

بيت في الصحافة معروض للبيع عُرف السبب. بطل العجب. الصحافة ازدحمت سطورها بالناس والمطبوعات، الأعمدة وقعت. الحفر كثرت. أربعون صحيفة يومية سياسية. خمس عشر صحيفة يومية رياضية. دوشة وكلام جرايد. نفد الورق. ارتفعت أسعار السيخ والعلف والمفروشات تحت الأكل. زمان: الصحافة، الأيام، والرأي العام. الآن أوووه. المباني (full )، ومتوكل كتمة لا يحب الإزعاج والزحمة. يسهر الصبيان عند داره حتى الصباح. جاء بزفت يلصق بالثياب رش به العتبة. جعلوا كرتوناً على الزفت. باتوا يتصايحون عن الغالب والمغلوب في كرة القدم أمس.

زاد الطين بلة، صيوان تجاوزت الأفراح فيه الساعة الحادية عشر مساءً. أٌترعت الشوارع بالغناء. اجتمع الرفاق من جديد والصيوان لما يُطوى . أصحاب الخروف هوايتهم الصيد. نادوا سامراً يتسلون به:

ـ تعال يا ولد.

جاءهم الصغير كسولاً.

ـ أنت ولد متوكل؟ اسمك يا شاطر؟ ـ فكني!

ـ اسمك فكني؟ ما شاء الله. ما شاء الله. ـ فكني.

ـ قميصك حلو. لونه أخضر!

ـ أنت تغشني يا عمو. قميصي بمبي، اشترته ليّ أمي! كان اللقاء حياً منقولاً على الهواء.. الأعناق مثنية. الآذان ترهف السمع. العيون تلحظ. القلوب تنتظر. وحين غنى النعام آدم بالنتيجة سُر بها جميع الحاضرين. ضحكوا. أكلوا اللقيمات والبليلة. قهقهوا حتى سالت دموعهم. ضربوا الأرض بمراكيبهم. سفنجاتهم تقطعت. انبسطوا إلا متوكل أحس بالكتمة.

النعاج شد متوكل الرحال إلى الهمبريب. فيها أحس بانشراح لا مثيل له. ابتنى هناك داراً واسعة المساحة ليس بعيداً عن النيل. من خط الأزفلت المرتفع تراها بيضاء قائمة كما باخرة الضفاف. لم تكن الهمبريب عهد ذاك مزدحمة بالسكان وهذا ما أغرى متوكل بالشراء فيها. تراه يخرج من داره الجديدة قبل الغروب يتمشى. يصطاد السمك، أو يجلس على ضفة النهر يرمي بالحصى في الماء. يتأمل الدوائر. وأهم من ذلك فلاحه: تعليمه ولده البمبي كيف يسبح ويميز الألوان. كان سعيداً مما جميعه.

حين يعود من العمل راكباً المواصلات تتابع عيناه الضفاف خضراء. يلوح النيل لناظريه من فرج البيوت شديد النقاء مثل ساق مليحة لحظة شرود. وإذ العيون تتلصص تسحب المليحة ثوبها تحجب صدراً طامحاً زمن الخريف. نسي متوكل نفسه في حرب الهوى المستعرة من زمان. نظره على جليسة المقعد المقابل. ساكتة تتململ فينة وأخرى. لعل اسمها السكات. متوكل له نعجتان يمسكهما. لكنهما تتسللان ترعيان الضفاف. يعود يسحبهما. لكن جوارحه نعاج كثيرة اجتمعت لها ثغاء. تقفز من فوق شوك الزريبة لترعى. من فوق رمش العين إلى الخضرة والماء والوجه الحسن. نسي المتوكل زوجته العاصمية وتعلق بالسكات. نسي الثريا خر إلى الثرى. نعجتاه الأوليان، فينة وأخرى، من فوق زريبة النظارة تقفزان، يتبعهما القطيع والحملان. البيت الأبيض

حرب الهوى مستعرة لما تضع أوزارها. شهداؤها كثر منهم جميل. قيس. روميو. والأخضر الليموني. الملهمات من النساء كثير:

الناعمات القاتلات المحييا ت المبديات من الدلال غرائبا الفاتنات: بثينة. ليلى. ست النفر. وتاجوج. متوكل مستبسل في قلب المعركة. حسب مقتله من أمام. مقلتا السكات رموشهما السهام. لكن الطعنة النجلاء جاءته من القفا. سمع رجلين خلف مقعده يتكلمان. لم يكن يلقي لهما بالاً مشغولاً بنعاجه ترعى. وجد الأمر يعنيه كما لو برق الصعيد. كما لو رعد الجبال. قال أحد الرجلين لجاره الجليس خلف متوكل والحافلة تمضي. ـ اتفقنا. إذن نتقابل الساعة خمس.

ـ أنا لا أعرف المكان.

ـ المكان واضح وضوح الشمس يا محمد صالح.

ـ أوصفه لي.

ـ البيت الأبيض تعرفه؟

ـ معروف طبعاَ.

ـ إذن نتقابل هناك.

حتى تلك اللحظة لم يكن متوكل يدري أن بيته أصبح علامة على الساحل. يُهتدى به مثل فنار. سمع الكمساري يقول:

ـ المحطة الجاية. البيت الأبيض حد نازل؟

قال الرجلان معاً:

ـ نعم نعم.

وجع الطريق

زمن الرقص انتهى. ثوب المليحة خلق. دارها آيلة للسقوط. حناؤها فضل روث. مالت البيوت على البيوت زمن الخريف. تلاصقت: الضعيف يسنده القوي. اليوم لا مفر: النيل المترع خلفها، والمطر سيل عنيف. المليحة تكشف عن ساقيها تخوض مياه البرك. ولكن لا شيء فيها يشد الانتباه. الملاريا تفقد المرء الشهية: العسل لا طعم له، ولا النساء الفاتنات:

الناعمات القاتلات المحييا ت المبديات من الدلال غرائبا شغل متوكل الشاغل هذه الزحمة التي غيبت البيت الأبيض، وقد كان العلامة. غطته شخبطة السياسة. الأيام دول. شارع الزحمة ممتد طويل تحف به المنازل آيلة للسقوط. مبلولة سمراء كالبسكويت. لا يمكن أن تسير خطك المستقيم. لابد أن تدور حول صينية من صنع البشر منتصف الطريق. تتوسطها بائعة حولها الجلوس على مقاعد مرصوصة. النافورة دوارة تصب الشاي في فناجين القاعدين. وقد ينتهي دربك إلى زقاق مغلق فتضطر أن تعود سيرتك الأولى. تجد نفسك وجهاً لوجه أمام من غاب عنك سنين عدداً، وبالكاد تصافحه حتى يفصل بينكما فيض البشر. عليك الانتظار حين تمر امرأة يشد ثوبها ابن لها. الثوب معقود حول الخاصرة لا ينفك. عليك الانتظار أكثر: الابن أخته تبكي مقطورة به ذيلها طويل من قصب السكر. في سبيل الله قائمة تمد يدها. واقفة محملة بالأثقال. طست على الرأس. طفل صغير راكب على الظهر. وكيس الكتف منفوخ معلق. عربات كارو وزحمة حمير. المشاة العابرون لحم محمر ينضح بالعرق. لحم الأمس وقبل الأمس يعاد تسخينه. متبل بالشطة، الشمار والغبار. وثمة عربات صغيرة وسط الزحام يُقال لها الصلصة. صلصة لسبك اللحم المحمر المتبل. خليط ( الفتة ) الطبق الرئيس. لابد تأكل على عجل وإن عطس العاطسون. اصغر منك أطحنه بالضروس لن يؤذيك. تدور حول صينية البشر مرتين أو ثلاثاً حتى تجد موقفاً. بعد فكة الريق تشرب الشاي السادة بالنعناع. أو أنت تفضله بالحليب. وإن لم تجد موقفاً تشرب من ماء السبيل. طوراً يواتيك الحظ نجمك سعود: الماء يسيل. كوز الشرب مربوط بسلسلة الحديد. طوراً الحظ يعبس فتكرع من حوض الكفين. أو أنت الرجل الرضيع ـ بلا مهد ـ تمص من الصنبور بالشفتين. وإذ لا ماء، موتور قلبك من حديد. يتكتك. يأتيك بالماء مسلوباً من العمارات البعيدة بلا رسم عبور. مجلسك التراب إن حاق بك التعب. ظلك برميل القمامة. الكلاب المندسة وسط الزحام لا تأبه لها. المسكينة تخاف أنت تعضها. القطط لا تحفل بالفئران. مرحى. زمن الحرب انتهى. الهدنة قائمة بينهما والاتفاق. فيم القتال ومكبات القمامة على قفا من يشيل. غابة السيقان على غابة السيقان يشقشق البشر. ألحانهم حزينة متصلة من الفجر حتى الغسق. يرقصون رقصة الكسرة والملاح على الطريق. إيقاع أرجلهم عنيف كما المفراكة في حلة طبيخ. في حرارة تلف. تدور. في تتابع وتسابق وطوراً سكون. غابة السيقان جذوع مدهونة أو يابسة كراع العنقريب. أقدام الراقصين مشققة، أو ناعمة ملمسها الحرير. ذوات نباتات متسلقة. تنتعل أحذية أو هي حافية. ذوات اسفنج وقشور. أظلاف البشر مشقوقة بالسفنجات. الحوافر عالية، لكن موضة المراكيب هي الأصل، وسواها محدثات فانية.

زمن الخريف ينهمر المطر. تمتلئ البرك بالنفايات فتقوم الضفادع عن بيات. تقطع نومها. تفتح عيونها وقد طُرق الباب. تتنحنح ينشرح صدرها. وثابة نقيقها متصل. أنيقة جذابة. ألوانها الفركة والقرمصيص. تشارك هي الأخرى الغناء والرقص. نافخة الأبواق ترجو المزيد من البرك. دعاؤها المهرجان: قوق قوق. يا الله فوق. الصيف زمن السكون. الحر لا يطاق. الأحذية مكواة الحديد. القوم طول الوقت يأكلون. يشربون ثم ينزون مثقوبة أجسادهم كالأزيار. يرمون من علٍ بقايا موز وبرتقال وقشر بطيخ. يرمون الفضلات على قفا من يشيل. يعود الشتاء. ما أسرع الأيام. لا رحنا ولا جئنا. تنشط الرياح تثير الأتربة والغبار. تهز الأشجار هزاً فيسقط تحت غابة السيقان ورق الصحف. الطيور تزرق السفة. ترمي أعقاب السجائر. أكياس البلاستيك ـ سوداء بيضاء ـ تجري فهذا موسم سباقها السنوي الكبير. سباق المسافات الطويلة حول المدينة. الغبار بطعم الشطة ورائحة البصل. فطورنا هذا الصباح فسيخ.

الربيع لم يوقع في سجلات الحضور. العيد جاء. غنى المغني: عدت يا عيدي بلا زهور.

بمبي بمبي

ما يكابده متوكل حين العبور أنه لا يسلم من الأذى. قلما ينجو. لحظة وأخرى يصطدم به أحد السائرين. هذا طريقه الوحيد إلى دياره التي ما بقي من ذكراها الجميلة إلا محطة اسمها البيت الأبيض. حقاً تذهب الملهمات وتبقى المحطات. يافطات كثيرة في الخرطوم معلقة. منها في شارع الزحمة:

ـ البيت الأبيض. حد نازل؟

ـ نعم.

نزل متوكل يتبعه البمبي. أوصى ولده أن يمسك به جيداً. شمر الأب. لف ثوبه. حاكاه الابن برم البنطال.

 دخلا اللجة. موج البشر يحيط بهما. عبرا بالصينية. شربا من محطة السبيل. كانت الأمور على ما يرام. الرياح متوسطة السرعة، تجري كما تشتهي السفن. الموج من متر إلى نصف متر. لكن البمبي سمع صفارة الحريق. المطافئ بيب بيب. آيس كريم. آيس كريم. تلفت الصبي يعنيه الصفير. يقتله الظمأ وهو في اللجة! في جيبه ألف جنيه. نسي جلباب أبيه والوصية. متوكل بمركبه عبر. نزل الركاب جميعاً حاملين أمتعتهم. قفزت الكلاب وكذلك القطط. خرجت الجمال والحمير. حين طوى الرواسي الشراع لم يجد البمبي. تلفت.

نادى: ـ يا ولد. يا سامر.

لكن سامراً لم يظهر. تلفت الرواسي واقفاً على شاطئ البشر. يبحث بعينيه هنا وهناك ولا أثر. عصف به الجزع. يمكن الولد غرق. أعاد متوكل النداء تلو النداء. خطر له أن ابنه لم يسمع، وإن هو سمع لا يعرف أنه المقصود. وليس ذلك من صمم. الغالب على الصغير، السائر ما تناديه به أمه والرفاق. وكان الأب يكره منها ذلك. ينهى ثريا أن تُنادي الصبي بغير سامر. ولكنه الآن مضطر أن يحذو حذوها فأطلق النداء مراً: ـ يا بمبي. يا بمبي!

وطفق يسأل السائرين في جزع عن بمبي. تطوع أحد الواقفين يعينه وقد ظن المفقود كلباً. قال له:

ـ قبل دقائق مر جرو من هنا!

حظيرة الأطفال التائهين

في سعيه الدءوب نسي متوكل كل هم. أمضى نهاره يبحث عن ولده سامر. ذهب إلى مركز الشرطة. فتح بلاغاً. مر على بائعات الشاي. غشي المطاعم. الدكاكين. محلات الفواكه والخضراوات والمراكيب. بيب بيب.هوْ هوْ. مياو مياو. لم يبق إلا مكان أخير دله عليه رجل خبير. قال له:

ـ أسمع كلامي. ستجده إن شاء الله في حظيرة الأطفال التائهين!

ـ حديقة الأطفال التائهين؟

ـ قلت لك: حظيرة الأطفال التائهين. سلام عليكم. ما تاه من سأل. انتهى متوكل إلى حظيرة التائهين. القائمة عليها امرأة شابة. سألها عن ابنه فلم تجد اسمه مدوناً في كراستها. استدار يرجع لكنه سمع النداء:

ـ بابا بابا.

التفت فإذا بالصبي سامر يترجرج نحوه. بمراجعة الكشف تبين أن من خرج ولم يعد سجله المدني بمبي.

حي النسيم

لم تكن هذه المشكلة الرئيسة التي دفعت بمتوكل يفر بجلده إلى حي النسيم. حساسيته مفرطة أن يلمسه أحد من صفحتيه. ينتفض كما لو صعقته الكهرباء. في الطريق إلى داره لابد يمر كل يوم بشارع الزحمة. ومرة تلو مرة تلمس جنبه يد خبيثة أو حسنة النية ـ بقصد السرقة أو الصدفة ـ فينفض صاحبنا كما لو فرقعت بندقية. في صغره كان رزيناً يوشك لا يضحك. واثقاً ليس يخاف. أمه تبحث عن منابع الضحك تحت ذراعيه. تلاعبه: أصابعها تصعد الساعد. تبحث له عن عروس: (

طباح طباح.. كسرة بملاح. دي بقرة. دي غنماية ). أين بيت العروس؟ بيت العروس تحت إبطه. من بيت لبيت تبدل الحال. لم تستقر الأحوال. الحلة الجديدة. الامتداد. الصحافة.

ـ الهمبريب. حد نازل.؟

ـ نعم.

في شارع الزحام الناس تدغدغ المتوكل. لم يعد يضحك.

دهورت أموره. لا طباح ينفع ولا كسرة بملاح. ساءت صحته. غم عليه. تزوج السكات يداوي الجراح. فر بها جهة حي النسيم.

بسكويت الشاي آيل للسقوط كان متوكل يجري خلف العاصمية. لكنها الآن تلهث خلفه كما لو كيس بلاستيك أطاره الهواء. أيامها دول، تسحب البمبي وأخواته. بغتة ضاع زوجها في لجة البشر. بحثت عنه على طول الضفاف. ربما ألقى بجثته الموج على شاطئ النهر. لكن لا أثر. لا خبر. فوضت أمرها لله . شدت المئزر. عاد بها المطاف إلى البيت الأبيض. ليس بوسعها الدخول على المالك الجديد: ( أو ب ميم ). مُلْكها القديم زال. زوجها طار. في ظل الجدار الخارجي رصت آنيتها. قام دوار جديد. مقاعد مرصوصة للشاربين. وثمة أطفال أكبرهم بمبي القميص، وأميرة صغيرة ذيلها قصب السكر، وثالثة ورابعة يسيل أنفها. في الظل ذاك عليك أن تدور مرة بعد مرة. تجد مقعداً تحتسي الشاي. تلوك أحاديث السياسة مع أخيك محمد صالح والرفاق. تأكل فول الحاجّات والتسالي. تلوك قصة امرأة الحي النبيلة التي كانت هنا. المحطة لا تزال باقية تحيط بها المباني. يهبط عندها الركاب ويصعدون. حذار يا صديقي وأنت تحتسي الشاي أو القهوة.. حذار تسمعك ثريا بسكويت الشاي آيل للسقوط في فناجين الشاربين. إعلان آخر أخبار متوكل إعلان صغير صدر عنه. مثل غيري قرأت في الصحيفة المتداولة ما يلي:

محكمة شارع الزحمة للأحوال الشخصية النمرة / 90000/ ق / 2011م التاريخ 9 / 1 / 2011م إعلان بالنشر إلى متوكل هارون ابنعوف بما أن المدعية ثريا رحمة الله الحكيم ، قد رفعت عليك دعوى تطليق للغيبة، خوف الفتنة، ونفقة بنوة، عليه أنت مكلف بالحضور إلى ديوان هذه المحكمة في التاريخ أعلاه الساعة الثامنة صباحاً للرد على الدعوى. عليه فإن لم تحضر أو تعين لك وكيلاً شرعياً ينوب عنك سَمِعت الدعوى في غيبتك وفصلت فيها. الناير سيد أحمد الفانوس قاضي محكمة شارع الزحمة للأحوال الشخصية كان يتم تداول الإعلان في خيمة العزاء. كل من يقرأ السطور يعطي الصحيفة غيره. يشير بإصبعه إلى بؤرة الألم. واحداً بعد آخر يرخي الجلوس رؤوسهم على السطور كما لو يشمون البخور. يتصاعد الدخان برائحة الصبار والحنوط. يفكون عمائمهم الملفوفة حول الرأس. ينشرون طرفها تمسك البخور. تبكي الأنوف. تبكي العيون. يشدون على يد الولد الصغير البمبي: ـ الفاتحة.. شد حيلك. عظم الله أجرك يا ابني! هذا حال الدنيا. عمو.. أنت تغشني في خيمة العزاء كان سامر ينهض كلما دخل معزون جدد. مجلسه بين أخوال له. تكرر قيامه وقعوده. اتصلت دموعه يجففها بطرف قميصه البمبي. أشفقت عليه. قمت إليه وسحبته. أقعدته بجانبي. كان قد سهر الليل كله. منعوه الذهاب إلى المقابر. لا أكل. لا شرب. جوعان لم ينم. كان يمسك بساق أبيه تدلت من النعش. يولول. كنت أجوس بأصابعي في شعره وقد مال على صفحتي. أصابعي في يده. أعيد شريط الأمس في ذهني بالحركة البطيئة. طباح طباح. كسرة بملاح. دي غنماية. دي بقرة. ده خروف بيجي. عمو أنت تغشني. وتارة بعد أخري يدخل الخيمة معزون: ـ الفاتحة. عظم الله أجرك يا ابني. هذا حال الدنيا. لا أدري كيف وقع مني ذلك. أنهضت الولد الصغير. كفي التحمت بكفه. سحبته خارج خيمة بيت البكاء. كان متهالكاً لكنه يمشي. أولينا الحاضرين الظهر. سرنا معاً الأصابع في الأصابع. ابتعدنا. تارة وأخرى وجدتني أضع كفي الطليقة على هامته كغطاء الرأس. عبرنا بحظيرة الأطفال التائهين. درنا حول صينية الشاي والقهوة. مِن على الطريق المرتفع بصرنا بصبية يلعبون كرة القدم. النيل لاح من فرج البيوت صدراً طامحاً زمن الخريف. نلمحه تارة ثم يغيب حسناء تسحب ثوبها. الملاريا تسلبنا المذاق. العسل المصفّى لا طعم له ولا النساء الناعمات. الصبي بجانبي يمشي. انفك حذاؤه فرفعه بيده يصلحه. يلاحقنا النشيج. النواح لا ينقطع وقد ابتعدنا. كنت أموت ثم أحيا. طباح طباح. كسرة بي ملاح. أموت ثم أحيا. بيب بيب. آيس كريم. آيس كريم. يأخذني الموج والصبي يغرق في لجة البشر. أحاول ما استطعت إنقاذه. لكني موت ثم أحيا. أمد يدي إليه. بالكاد أصابعي تلامس يده الممدودة، ولا فلاح. بالكاد أمسك. الموج يغرقه. عمو أنت تغشني. عمو أنت... غ.غ. ( ينتهي العزاء بانتهاء مراسم دفن هذه السطور. شكر الله سعيكم، وأسأله جلّ وعلا ألا يريكم مكروهاً في عزيز لديكم. ) يوسف العطا

وسوم: 642