سياسة "الاستبعاد" وراء هجرة الأدمغة

سياسة "الاستبعاد" وراء هجرة الأدمغة

مفهوم "الاستقطاب" وتطبيقه

في المؤسسات السياسية والاقتصادية

علجية عيش

صحافية من الجزائر

[email protected]

 (أيّ طريق يجب أن نسلكه لتحقيق تنمية شاملة؟ "الجزائر نموذجا")

يشكل الاهتمام بالطاقات البشرية و بلورة الوعي الاجتماعي عاملا حاسما في "التغيير"، فالنخب الثقافية لها دور أساسي في ارتقاء الوعي الاجتماعي و في مسار عملية التطور و التقدم، و في التأثير على نهج "السلطة" و تغيير نظامها من أدل تكريس الديمقراطية، و تحقيق هذا المطلب مرتبط بمدى إسهام النخب الثقافية و انخراطها في الحياة السياسية العامة و نضالها من أجل التغيير، حيث آن الأوان لهذه النخب أن تفرض وجودها كـ: "طليعة" لا كـ: "نخبة"، لأن النخبة تفصل نفسها عن غيرها من شرائح المجتمع، بينما الطليعة مسؤولة لأنها منبثقة من معاناة

       يربط الجميع و بخاصة الطبقة المثقفة فكرة " الإنتلجنسيا" بما يدور و يجري في الحياة السياسية و الاقتصادية و المشاركة في جهود التنمية الشاملة و المستدامة في إطار إستراتيجية الحكم الراشد،و لهذا غالبا ما يصطدم رجل السياسة مع رجل الاقتصاد، كون الاثنان يحرصان على أن يكون لهما رأي و حضور في قضايا الشأن العام، و أن يكون رأيه هو الغالب و صوته هو المسموع، ولذا يقع الاثنان في صراع، و هذا الصراع قد يعمق الفجوة بين الشعب و السلطة ، لأن المسألة تتعلق بالكفاءات  و المهارات و الترحيب بأصحابها، و ربما هذه هي أولى الأسباب في تفشي البيروقراطية في مختلف مجالات الحياة، ليس في الإدارة وحدها أو المؤسسات الاقتصادية فقط و إنما في المدرسة و المستشفى و حتى داخل الأحزاب السياسية باعتبارها مؤسسة سياسية.

     فالبيروقراطية عمدت إلى قتل الكفاءات و المواهب و اعترضت طريقهم، لأن من يعملون على تكريس البيروقراطية لا يقبلون دخول العناصر الكفئة الواعية و النظيفة داخل صفوفها، و عادة ما تكون النتيجة " الإقصاء" و هو مصطلح مألوف و متداول لدى العام و الخاص، ولكن الخبراء أعطوه مفهوما خاصا و هو "الاستبعاد"، أو كما يطلق عليه البعض بـ: "الإقصاء"، حيث يكون الشخص موجودا و غير موجود في نفس الوقت، و مهما حاول الإنسان أن يفرض وجوده و قدراته، فهو يظل نكرة بالنسبة للجماعة التي عملت على إبعاده، و هذا النوع من الممارسات له أبعاد سلبية،  قد تؤثر على شخصية الفرد و تجعل منه شخصا سلبيا، وفيما يبقى البعض منهم منغلقون على ذواتهم باسم "الانضباط"، بحيث يعيشون الأحداث داخل الحزب و لا يساهمون فيها،  لا تقبل فئة من الناس فكرة الاستسلام، و تواصل طريقها لزرع أفكارها و  إثبات وجودها سياسيا، و من هذا المنطلق عرفت ظاهرة "التجوال السياسي" انتشارا في الجزائر و في السنوات الأخيرة بالذات، بحيث نجد فلول حزب تنتقل إلى حزب آخر، يجعل من " الاستقطاب" خطة و منهجا في حياته السياسية.

      لقد أخذ مفهوم الاستبعاد و الاستقطاب حيزا كبيرا لدى الخبراء في الاقتصاد و السياسة و أعطوه أبعادا واسعة، و رأى البعض أن هذين المفهومين يدعو إلى طرح مفهوم النضال السياسي و الثقافي في إطار رؤية مشتركة لها دلالة سياسية اقتصادية ثقافية، و لكن تدخل الثقافة في هذين المجالين من شانها أن تضع الصيغة الملائمة لإيجاد حل لهذه المعضلة على الصعيدين السياسي و الاقتصادي،  فالخبراء في الاقتصاد مثلا وضعوا قانونا خاصا  يلزم الشركاء في مؤسسة ما تطبيقه و العمل به حتى تكون العلاقات بينهما متكافئة، تؤمّن مصلحة الطرفين بالمقدار نفسه، حيث لا يوجد لا رابح و لا خاسر في آية عملية يقومون بها، طالما الهدف هو خدمة المصلحة العامة، غير أن الواقع أثبت أن هذا المفهوم، لم يستخدم بالشكل الذي وضع من أجله.

 و إن كان قانون الاستقطاب كما يقول الخبراء يؤكد أن الطرف الأقوى سيزداد قوة و يمتص تلك القوة من الطرف الأضعف الذي بدوره يزداد ضعفا و تبعية للأول، فمثلا في الجزائر تعتمد السلطات العليا في مشاريعها على استقطاب الخبرات الأجنبية و اليد العاملة الأجنبية، يزداد الشريك الأجنبي قوّة، لسبب من الأسباب مثل نقص الخبرات بالنسبة لليد العاملة المحلية التي تجد نفسها مستبعدة، و الأمثلة كثيرة تتعلق باستغلال الطاقات البشرية و بعقود مؤقتة، و ما إن تنتهي مدة العقد تجد هذه الطاقات نفسها مستبعدة.

التنمية الاقتصادية لا تعني التنمية الاجتماعية

     من هذا المنطلق يتحدد دور التنمية الاجتماعية في إحداث التوازن بين التنمية السياسية و التنمية الاقتصادية، كما يتحدد مفهوم الاستبعاد و الاستقطاب فيهما و الكيفية التي يكون فيها الاستقطاب فاعلا في جميع الحالات و المجالات، و يعني هذا أن جلب الجديد لا يعني التخلي عن القديم، أو أن يجلس أصحاب  "المال" على كرسي أصحاب الكفاءات و المهارات، مثلما يحدث في بعض ألأحزاب السياسية التي أغراها المال و باعت مناضليها ، من أجل كُمْشَة من المال دون معرفة مصدرها، و كيف تحصل عليها صاحبها، فأبعدت إطاراتها و مناضليها الذين ساهموا في وضع أسس الحزب، و رشحت كفة  "الكَمّ" على "الكيفِ" ، فكان مصيرها الانشقاق و الانقسام، لأنها بكل بساطة لم تعمل على إنتاج علاقات ديمقراطية حقيقية مثلما أشار إلى ذلك حسن قرنفل في كتابه "المجتمع المدني و النخبة السياسية إقصاء أم تكامل".

    و في هذا فإن السؤال الذي يمكن أن نطرحه يكون كالتالي: " أيّ طريق يجب أن نسلكه لتحقيق تنمية شاملة؟ فالكثير من يعتقد أن التنمية الاقتصادية تعني كثرة المشاريع و الإنجازات و تجده يقدم أرقاما خيالية حول عدد الكيلومترات التي فتحت من الطرقات و عدد المباني و الهياكل التي شيدت، و ..و..الخ، و قد تذهلك الأموال التي أنفقت على هذه المشاريع، و نسمع كذلك عن وجود فائض في الحساب الإداري خلال مناقشة الميزانية على مستوى المجالس المنتخبة في حين مشاريع معطلة و متوقفة لسنوات بحجة وجود خلل في الدراسة التقنية، أو تماطل على مستوى لجنة الصفقات العمومية و غيرها من الأمثلة، في الوقت نفسه يعتقد البعض أن التنمية السياسية هي تكاثر الأحزاب أو جمع عدد كبير من المناضلين، ولكنهم تجاهلوا أن التنمية الحقيقية  هي الاستثمار في العنصر البشري، و غالبا ما يسبب تنافر المفاهيم هدرا كبيرا في الطاقات و الإمكانات البشرية، لأن العديد من الناس من لا يفرق بين التنمية الاقتصادية و التنمية السياسية و التنمية الاجتماعية.

 و إن كانت التنمية الاقتصادية تعني إقامة المشاريع في مختلف القطاعات من أجل تلبية احتياجات المواطن و تحقيق له الاكتفاء الذاتي و الحد من عمليات الاستيراد للمواد و السلع من الخارج، و تحقيق إنتاج محلي، و تشجيع اليد العاملة، و منح الفرص للشباب للاستثمار بدون خلق عراقيل بيروقراطية أو استعمال الجهوية و المحسوبية و الرشوة ، فإن التنمية الاجتماعية فهي تعني اتخاذ التدابير التي تسمح بتحسين مستوى حياة الناس و مشاركتهم في الحياة السياسية و الديمقراطية في اتخاذ القرارات و تنفيذها، و ضمان الحياة و الحرية للجميع في التعبير و تكافؤ الفرص، و يرى البعض أن التنمية الاجتماعية تتوقف على توزيع الدخل الوطني بين جميع الطبقات والأفراد.

     و الحقيقة أن كل الفاعلين في هذه الحقول لهم دور مشارك في تحقيق التنمية، لكن غياب هذه العناصر تولد عنه صراعات و أمراض اجتماعية و هدر كبير في الطاقات البشرية ( هجرة الأدمغة)  فكم من طبيب و كم عالم و مفكر " مُهَجَّرٌ "، لأنه غاير منظومة القيم التي وضعتها  النخبة الحاكمة و وقف ضدها، و طالب بتغييرها،  لا لشيء،  إلا لأنها لا تتماشى مع القيم الوطنية و مبادئ الدين الحنيف مثلما هو الشأن بالنسبة لمسألة استيراد الخمر، و الشيفون الذي يعتبر إهانة كبيرة للمواطن الجزائري، و يضرب السيادة الوطنية، و مثل الكشف عن بارونات المخدرات و من وراء اختطاف الأطفال و اغتصابهم و قتلهم، و جميع المتورطين في قضايا الفساد.

كيف يتحقق الانتقال الديمقراطي ؟

    فالجدل القائم بين المثقف و السلطة قديم جديد، و يتجدد بتجدد الظروف و الأجواء بحيث يكون دائما في موقف " المعارض"، و إن الحزب كوسيط سياسي بين الشعب و السلطة فإن هذا المثقف قد يفقد قدرته على خلق القيم و المعايير الصالحة لتحقيق انخراطه في إستراتيجية التنمية، و لهذا نجد المعارضة تنتقد المعارضة و تخرج عنها، و هذا الانقلاب يعتبر "انتحارا سياسيا" للمعارضة نفسها، و خير مثال انسحاب بعض الأحزاب من تنسيقية الأحزاب من احل الحريات و الانتقال الديمقراطي التي دعا إليها المرشح للانتخابات الرئاسية رئيس الحكومة الأسبق علي بن فليسو الذي تحصل على المرتبة الثانية في نتائج انتخابات 17 أفريل 2014 ، بعدما أعلنت هذه الأحزاب دعمها للمشروع و السباحة في فلكه، و خروج المعارضة عن المعارضة يعني انتحار للمعارضة، وهي حالة استثنائية و تحدث للمرة الأولى في الجزائر، و هذا لسببين اثنين: إمّا لتغلب المصلحة الفدية على المصلحة العامة، أو أن هذه الأحزاب لها أجندات سياسية  أخرى ( لها ميول للسلطة من أجل الظفر بحقيبة وزارية) و أنها تقف ضد  مشروع إنشاء حكومة انتقالية مستقلة تضمن مراحل الانتقال الديمقراطي، لأنها ترى الديمقراطية مشروع لم ينضج بعد، ما يمكن استنتاجه أن مشروع إنتاجية الطاقات البشرية و بلورة الوعي الاجتماعي غير قابل للنقاش و مؤجل لمواعيد غير محددة و ربما لن يناقش طالما هناك مجموعات متنافرة و متناقضة تتصارع في قلب المجتمع مما يزيد الأوضاع أكثر شرخا و انقساما.