معاناة المواطن المغربي بسبب تعقيدات الإجراءات الإدارية والشطط في استعمال السلطة
لقد كان خطاب جلالة الملك في دورة افتتاح البرلمان المنتخب مؤخرا تعبيرا عما يصبو إليه المواطن المغربي، والذي يعاني بسبب تعقيدات الإجراءات الإدارية و بسبب الشطط في استعمال السلطة التي وجدت أصلا لخدمته ورعاية شأنه. ويخيل لهذا المواطن أنه لا يوجد بلد على ظهر الأرض تبلغ الإجراءات الإدارية فيه من التعقيد ما تبلغه في وطننا ، ولا يوجد شطط في استعمال السلطة أشد وأقبح مما هو فيه ، وبيان ذلك كما يأتي :
إن المواطن المغربي وهو يعيش في عصر الثورة التكنولوجية يحتاج إلى كم هائل من الوثائق الورقية لإثبات هويته ، فمن أجل الحصول على بطاقة هوية أو تعريف عليه أن يحضر شهادة ميلاده حيث ولد، وهو أمر يكلفه السفر الشاق إن كان قدره أنه ولد في منطقة نائية . وقد لا يجد من يسلمه شهادة ميلاده أو من يوقعها فتزداد معاناته بعد وعثاء السفر . وبعد سفره الشاق يكون مجبرا انتظار عون السلطة في الدائرة التابع لها ، والذي لا يقرله قرار ساعات طويلة ليسلمه ورقة مخطوطة بخط رديىء ،ولكن قبل ذلك لا بد للمواطن أن تكون بحوزته فواتير الماء والكهرباء من أجل الحصول على وثيقة هذا العون الذي يسلمها له وحاله يوحي بأنه يقدم له عطية أو هبة لا وثيقة مستحقة بموجب حق المواطنة . وبعد هذه الخطوة، وقد تطول أحيانا إذا لم يلتحق عون السلطة بمكتبه ،والذي يبرر دائما غيابه إذا ما اشتكى المواطن منه بأنه كان في مهمة ميدانية كلفه بها رئيسه المباشر ، تأتي الخطوة الموالية ، وهي الحصول على شهادة السكنى والتي لا بد لمن يطلبها أن يدلي بفواتير الماء والكهرباء أيضا ، ولا بد أن يؤدي رسما في قسيمة قيمتها 20 درهما ، وعليه أن ينتظر وقتا معتبرا لا يحدده قانون معين ،لأنه يتوقف على حضورمن له حق التأشير على هذه الوثيقة ،والذي يغيب عن مكتبه أيضا بذريعة ضرورة وجوده في الميدان علما بأنه لا يوجد من يسد مسده إذا غاب فيقضي المواطن المسكين ساعات طويلة في انتظاره ووقته دائما مباح لا قيمة له عند الإدارة . وإذا حصل المواطن على شهادة السكنى المسلمة من طرف الدائرة التي يوجد فيها مقر سكناه، وجب عليه أن ينتقل إلى دائرة الشرطة التابع لها ليقف أيضا منتظرا ـ والله أعلم كم مدة انتظاره ـ دوره لطلب شهادة سكنى أخرى غير تلك التي شهد عليها عون السلطة ورئيسه ، وكأنه يسكن في حيزين مختلفين ، و يطالب مرة أخرى بفواتير الماء والكهرباء، وشهادة ميلاد ،وربما ما يسمى بالنسخة الكاملة ، وكأن بشهادة الميلاد نقص لا يستدرك إلا بتلك النسخة الكاملة ،علما بأنها هي المعتمدة في تسليم شهادة الميلاد ، وكأن المواطن يولد مرتين في هذا الوطن، ويؤدي رسما جديدا مرة أخرى قيمة قسيمته 30 درهما ،وعليه أن ينتظر أيضا أضعاف ما انتظر في دائرته ليوقع المسؤول الأمني شهادة سكناه الثانية ،والذي عادة ما يكون هوالآخر غائبا يقوم بمهام أخرى خارج مكتبه إذا ما سئل عن غيابه ، وكأن تفويض التوقيع لغيره أو تخصيص موظف خاص مكلف بالتوقيع نيابة عنه أمر مستحيل . والرائج في ثقافتنا أن دائرة الشرطة مكان يهابه المواطنون ، ويشعرون فيه بالخوف ، ومن حقهم أن يهابوه ، وكان الله في عونهم لأنهم وهم ينتظرون الحصول على وثائقهم يمر بهم رجال أمن مقطبين ينظرون شزرا ، و يسوقون موقوفين بأصفاد في معاصمهم ، وقد يسمع المواطنون صوت المحققين المرتفع ،وهم يحققون معهم ، وقد يصل إلى سمعهم بعض الكلام النابي أو التهديد، الشيء يجعلهم يخشون ولوج دوائر الشرطة ، وكأنه من المستحيل أن تفصل المصالح الخاصة بتسليم الوثائق عن المصالح الخاصة بالتحقيق مع الموقوفين في هذه الدوائر . ويحتاج المواطن إلى وقت آخر وإلى الوقوف في طابور طويل ليقدم ملف طلب الحصول على الهوية أو البطاقة الوطنية ، وقد ينهر وهو ينتظر دوره ، وقد ينهر أيضا حين تؤخذ بصماته ، ويشعر وكأنه موقوف ، وليس مواطنا يريد بطاقة الهوية التي هي حق لا هبة وصدقة . ومرة أخرى يقدم بين يدي طلب الهوية رسما آخر لقسيمة قيمتها 70 درهما ، وعليه أن ينتظر مدة الله وحده أعلم بها ليحصل على هويته ، وقد يحضر مرات عديدة لتفقد وصولها ،فيعود أدراجه خائبا دون الحصول عليها ، وعليه أن يكون سعيد الحظ إن لم يرد خطأ في هويته ، وإلا عليه إعادة مشوار جمع الوثائق من جديد ،وأداء الرسوم من جديد أيضا حتى لو كان الخطأ خطأ الإدارة . ولا يوجد مواطن مغربي ليس له حكاية يطول سردها في موضوع حصوله على الهوية أو التعريف ، وربما كانت قيمة الهوية بحجم معاناة الحاصل عليها ، لهذا يخشى المواطن عندنا من ضياع هويته حين يحصل عليها خوفا من الإجراءات الإدارية المعقدة ، و خوفا مما يؤديه من رسوم، وكأنه يشتري هويته التي له الحق فيها بموجب انتمائه الوطني .
أما إذا فكر المواطن في الحصول على جواز السفر لمغادرة الوطن، فعليه أن يمر بإجراءات أخرى ، وعليه أن يؤدي رسما لقسيمة قدرها 300 درهم ، ولو وضعت هذه القسيمة في الميزان لكان ثمنها أغلى من الذهب .
وأما إذا أراد أداء فريضة الحج الركن الخامس ،فعليه أولا أن يداوم على صلاة الاستخارة ضارعا لله تعالى ليكون محظوظا في الفوز بالقرعة إن كان ممن يثق في هذه الصلاة أو عليه أن يواظب على قراءة عمود برجه في الصحف إن كان ممن يثق بهذه الأبراج عسى أن يصادف يوم القرعة برجه السعيد ، وقد يبسم الحظ للبعض بمجرد مكالمة هاتفية من جهة نافذة أو بالحصول على ما يسمى مجاملة، والتي قد تباع بثمن باهظ وللسماسرة فيه حظ ونصيب . وإذا كان سعيد الحظ ففاز في القرعة ، أوفاز بمرافقة طاعن في السن من أهله،فعليه أن يخوض في إجراءات طويلة، ويحصل على وثائق متعددة تتطلب رسوما ، فضلا عن نفقة أداء فريضة الركن الخامس ، وهي أغلى نفقة في العالم الإسلامي ، والتي لا تتيسر إلا لذوي الحظ العظيم ، والحمد لله أن الله عز وجل عقب في فرضه فريضة الحج بقوله تعالى (( لمن استطاع إليه سبيلا )) وإلا لكان المواطن في بلاء عظيم ، وفي حرج شديد خلاف أهل الأرض جميعا .
وإذا تقدم المواطن المغربي لاجتياز مباراة لولوج وظيفة، فدونه إجراءات دونها خرط القتاد كما يقال ، وعليه أن يتخطى أولا عتبة الانتقاء بنجاح ، ويقبل ملفه ، وقد يضرب أكباد الإبل لاجتياز المباريات وينفق من أجل ذلك ما عز من ماله خصوصا إذا كان معسرا ، وقد يقترض لعسره، وفي نهاية المشوار لا يبتسم له الحظ ، وقد يبتسم الحظ لغيره ممن هو دون كفاءته وأهليته بمجرد مكالمة هاتفية أو بظرف محشو بسحت . وقد يكون المواطن الراغب في وظيفة ضحية سماسرة الرشوة الرائشين، فيخسر مبلغا كبيرا دون أن يحصل على ضالته ، ويعود بحسرة الراشي وخيبة الأمل معا ،وقد يكون محظوظا فيصيب محز المرتشي، فيسعد بوظيفة مغصوبة لا حق له فيها .
وإذا تقدم المواطن بطلب للحصول على رخصة للسياقة، فعليه أن يواجه أهوالا عدة بسبب تعقيدات ملف طلب هذه الرخصة، والذي فيه شواهد متعددة بما فيها الشواهد الطبية التي تقتنى كما تقتنى السلع ، ويحنث فيها من يبيعها في قسمه الأبيقراطي دون وخز من ضمير أو خوف من جليل . ويصرف الراغب في رخصة السياقة من وقته الشيء الكثير ، ويجد عنتا كبيرا قبل أن يحصل على رخصة في شكلها الجنيني، والتي تتخلق فيما بعد كما يتخلق الجنين في بطن أمه قبل أن تصير رخصة سياقة كاملة الخلق ، ويتطلب ذلك رسوما فضلا عن رسوم التداريب ، ودون احتساب المشقة والتعلب . ومن تعثر به حظه السيء في الحصول على بطاقة السياقة ، فإنه يعيد الكرة من جديد بمتاعبها ورسومها التي لا تغني عنها الرسوم السابقة والتي تتبخر كسراب بقيعة .وإذا ما سعى لتسجيل سيارة اقتناها أو سيارة جلبها من خارج الوطن ،فله الويل والثبور من ملف التسجيل ،ومن السعي بين مكاتب الإدارة قبل جمع وثائقه إلا ، تشفع له رشوة يضطر إلى تقديمها للمرتشي والتي تعتبر قهرا هدية .
وإذا أراد المواطن الزواج بعد مشقة البحث عن شريكة العمر ، وقلما يعثر عليها بيسر وسهولة ، وينجو من تعنت ورفض ولي أمرها الذي لا يرضى حتى تشيب ناصية الخاطب ، وينجو كذلك من مضاربات ومزايدات الصداق الذي قد يكون ضريبة العمر القاسية ، فإنه يجد نفسه أمام ملف ثقيل من الوثائق قبل أن يحصل على عقد زواج . فهو مضطر لإثبات عزوبته بوثيقة ، وخطبته بأخرى ، وبشهادة طبية مغضبة لأبيقراط في قبره ، ويؤدي ثمن رسوم الوثائق ، و هي رسوم العدول ، ورسوم العقود . وويل له إن تعثر حظه في الزواج، وواجه إجراءات الطلاق الكثيرة التعقيد ، والتي تطول معاناته بسببها قبل أن يغادر قفصا بدأ ذهبيا، وانتهى قضبان سجن وجحيم . وقد تستوفي المطلقة عدتها بوقت طويل بعد طلاق شرعي بعد نطق الزوج به نظرا لطول مسطرة الطلاق الإداري الذي تتولاه محاكم الأسرة ، والتي لا يكفي عندها أن تصدر كلمة الطلاق عن الزوج ليحصل الطلاق .
وإذا رغب المواطن في بناء مسكن يأويه فوق قطعة أرض اقتناها بعد عسر وشدة ،احتاج من الوثائق ما قد يغطي مساحة كبيرة من تلك القطعة برسوم ونفقات ،وربما رشوات قبل أن يسمح له بوضع المعول في قطعته الأرضية ، ولا يستقر تحت سقف بيته إلا بعد مسار شاق ، وبعد أن يأخذ منه الجهد قبل تحقيق حلمه .
وإذا أراد المواطن مغادرة أرض الوطن، فما هي وما لونها كما يقول المغاربة إذ عليه أن يواجه إجراءات معقدة ومتعبة في المطارات من تفتيش ومراقبة، وأخذ ورد ،ومساءلة قد تفوق أسئلة الملكين في القبر حين ينتقل الإنسان إلى دار البقاء. ولا يوجد مواطن فوق ظهرالأرض يعبث بحقائبه كما يعبث بحقائب المواطن المغربي حين يلج المطارات ، وويل له من المراقبة الجمركية والأمنية ذهابا وإيابا إن صدر، وإن ورد ،وإن أخذ ،وإن جلب ، وهو دائما يترقب عبارة ممنوع التي قد تفتح باب الرشوة على مصراعيه .
ولا يخلو موت المواطن كمولده أيضا من تعقيدات الإجراءات الإدارية خصوصا إذا ما انتقل جثمانه من عمالة إلى أخرى إذ لا بد أن يشهد على موته الوكيل والعميد، فضلا عن الطبيب ، وأن تشهد على رحيله ملائكة العمالات التي يمر بترابها ، ولا يرتاح من عناء الوثائق إلا في عالمه البرزخي.
وإذا لجأ المواطن إلى القضاء على اختلاف أنواعه وتخصصاته ، فإنه يعاني المعاناة التي تستمر لشهور بل لسنوات قبل أن يبث هذا القضاء في شكواه إن كان مشتكيا ، وقد يغادر الدنيا إلى الآخرة ،وفي نفسه شيء من القضاء الدنيوي الذي يرفع ملفه بعد الابتداء والاستئناف والنقض والإبرام إلى عدالة الآخرة ، لهذا لا توجد عبارة " عند الله عز وجل الحساب والقضاء " إلا في ثقافتنا ، وهو أوثق قضاء بعد فقدان الثقة في قضاء الدنيا عندنا .
وإذا تنقل أو سافر المواطن كان دائما تحت رحمة دوريات المراقبة العتيدة داخل المدن وفي مخارجها ومداخلها ، وعلى الطرق السيارة وغير السيارة ،وقد زاد من شدة بأس تلك الدوريات ارتفاع ما يؤدى على ارتكاب المخالفات ، وذلك في غياب الرقابات ، فرب مخالفة لم ترتكب وكانت بهتانا أو مخالفة بسيطة تكلف المتنقل أو المسافر ما في حافظة نقوده ، وقد يضطر إلى إلغاء سفره أو تنقله لشغل أو لنزهة إذا ما استهلكت دوريات المراقبة ما بحوزته من مال ، وقد يكون ضحية الرشوة مكرها لا بطلا. ولئن سحبت مركبته إلى مقر الحجز غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو يسعى لتحريرها من الحجز المكلف أيضا .
وإذا مرض المواطن واضطر إلى الاضطجاع في المستشفيات العمومية، رأى بها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . ولئن نجا من جحيم هذه المستشفيات كان عرضة لابتزاز المصحات المقامرة بصحته ، والتي تكشط الجلد ، وتمتص الدم في غياب من يحمي المواطن المريض منها حتى غدا ليس له حق في المرض ككل أهل الأرض . أما مواعيد ولوج المستشفيات العمومية فقد يظهر عرقوب وحنين، ولا يظهر لها خبر ، فكم من مريض لفظ أنفاسه، وحان موعد دخوله المستشفى بعد طول مدة، وفوات الأوان .
وقد يمر المواطن بحالات لم نأت على ذكرها، وفيها من المعاناة مع تعقيدات الإجراءات الإدارية ما فيها مما لا يعلمه إلا الله عز وجل .
ومقابل هذا المواطن البائس، يوجد مواطن سعيد الحظ لا يواجه أدنى مشكل في كل أحواله طيلة حياته ، و هو يحصل بسهولة ويسر على ما لايحصل عليه نظيره البائس إلا بشق النفس . وأين المواطن البائس الذي تعتصره الإجراءات الإدارية المعقدة اعتصارا ، ويطاله شطط السلطة من المواطن السعيد الحظ من أمثال خدام الدولة الذين نسأل الله عز وجل ألا نحذو حذوهم ، ولا نسلك مسلكهم ولا نشهد في الاخرة حسابهم ولا حساب لهم في الأولى لأنهم خدام الدولة، وهو لقب لا يناله إلا ذو حظ عظيم في الأولى وذو شقاوة لا مثيل لها في الاخرة .
هذا هو حال المواطن يحلم بالديمقراطية والعدالة ، وهو المواطن الذي أشار إليه الخطاب الملكي في حضرة ممثليه تحت قبة البرلمان ، فهل سيجد هذا الخطاب آذانا صاغية ، وقلوبا واعية أم أن المواطن المغربي قدره أن يكون مصيره كمصير سيزيف يعاني من إدارة لا ترحمه . وفي الأخير لا بد من استحضار قولة مؤرخ المغاربة القديم ابن خلدون رحمه الله تعالى وهي : " العدل أساس العمران " فهل ستحضر المغاربة قولة أو حكمة مؤرخهم ،فينتقلون من ظلم يخرب العمران إلى عدل يصونه ؟
وسوم: العدد 690