المعارضة السورية بعد سقوط حلب
في أحد الاعتصامات اليومية التي كانت تنظم في مدينة غازي عنتاب، جنوب تركيا، تعبيراً عن التضامن مع مأساة حلب إبان حصارها القاسي، حدث توتر بين السوريين المجتمعين وصل حد التدافع بالأيدي، على مرأى من الشرطة التركية التي كانت تراقب الوضع. فقد حاول بعض ممثلي أحزاب سياسية إلقاء بيان سياسي، فارتفعت أصوات رافضة ومستنكرة، لينتهي الأمر بمنعهم من تلاوة البيان.
كان هذا مشهداً معبراً جداً عن حال العلاقة بين التشكيلات السياسية وعموم الجمهور، وخاصة جمهور الشباب، جاءت مأساة حلب ومشاعر الغضب والإحباط المواكبة لفصولها كعود كبريت أشعل فتيلها. وتنسحب حال انعدام الثقة نفسها على الإطار الأهم للمعارضة السياسية، الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وربما بدرجة أقل الهيئة العليا للمفاوضات التي جمعت إلى ممثلي الائتلاف ممثلي مجموعات معارضة أقل شأناً كهيئة التنسيق وغيرها.
لا فائدة من تكرار المآخذ الكثيرة والكبيرة التي سبق، لي ولغيري، التعبير عنها مرات، في إطار نقد الحريص من الموقع المعارض نفسه، لا في إطار النقد العدائي من مواقع النظام أو «المعارضات» المحسوبة على النظام. سيركز النقد هنا على ظواهر جديدة ترافق ظهورها مع حصار حلب وسقوطها، أي في لحظة مفصلية تتطلب مراجعة مسار الثورة والمعارضة السياسية التي تنطحت لتمثيلها.
كل المعارضين اليوم يتحدثون عن ضرورة المراجعة وإعادة النظر ومحاولة رسم استراتيجيات جديدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سوريا، قبل أن تسقط في أحد الاحتمالين الكارثيين: سيطرة النظام التامة على كل سوريا، أو تفكك الكيان السوري. وإذا كان الاحتمال الأول أقرب إلى الاستحالة، فالثاني متحقق عملياً وإن لم يتكرس بعد بصورة رسمية. كما أن استحالة سيطرة النظام على سوريا لا تعني استحالة تعويض ذلك بقوى الاحتلال وبالتغيير الديموغرافي اللذين يتقدمان على الأرض باطراد. فمنذ الآن لدينا ربع سكان سوريا أصبحوا في المنافي، ويتم تجريف السكان في مناطق عدة، من المحتمل أن يحل محلهم فيها أجانب من جنسيات مختلفة هم قوام الميليشيات الشيعية التي تقاتل دفاعاً عن النظام.
كانت الثورة السورية، في جانب منها، ثورة تحرر واستقلال وطني، منذ البداية، وذلك بسبب بنية النظام القائم على قهر استعماري لـ»السكان المحليين» كما على تراتبية طائفية – طبقية أقرب إلى نظام التمييز العنصري. فكان على المعارضة أن تفكر وترسم سياساتها انطلاقاً من هذا الواقع، أي أن تشكل قيادة تحرر وطني جامعة، لا تمثيلاً لأحزاب سياسية من طبيعتها أن تكون مختلفة ومتنافسة وربما متناحرة. بكلمات أخرى: كان من شأن إقامة إطار صغير نسبياً من شخصيات وطنية تحظى بقدر معقول من الإجماع الوطني، بصرف النظر عن انتمائها إلى أحزاب من عدمه، تضع برنامجاً سياسياً وخطة عمل قابلين للتنفيذ ويتمتعان بالمرونة الكافية، بحيث يكون أعضاء هذا الإطار على قلب رجل واحد، يتمتعون بوعي لدورهم الوطني والتاريخي، ويكون ولاؤهم وطنياً، وليس حزبياً أو شخصياً أو لدول أخرى.. كان من شأن ذلك أن يصنع فارقاً، على رغم كل الشروط الموضوعية غير المؤاتية.
كان واقع حال المعارضة وأطرها الرسمية بخلاف ذلك على طول الخط، إلى حد قد يسمح باعتبار الوصف الافتراضي أعلاه لما كان يجب أن يكون، طوباوياً. ولكن بما أن الزمن هو زمن المراجعة، وباتت المهمة مهمة تحرير وطني، بأكثر مما كانت في السابق، فلا بأس بالتوكيد على وجوب مطابقة الأداة للمهمة، أي تشكيل قيادة حركة تحرر وطني، بهذا الاسم والمضمون. وذلك بصرف النظر عما إذا كان للأطر القائمة نفسها أن تتحول بهذا الاتجاه، إذا كان هذا ممكناً، أو إنشاء إطار جديد وحل القديم. ولا يعني الإبقاء على الأطر القائمة ضرورة بقاء الأشخاص أنفسهم في عضويتها، بل المرجح أن يتطلب الأمر استبدالهم كلياً أو جزئياً.
في هذا الإطار يمكن التعليق على مبادرة قدمها، مؤخراً، عدد من المعارضين بعنوان «نداء من أجل سوريا». فالمأخذ الأول الذي واجههم به جمهور المتابعين لشؤون المعارضة هو أن القائمين عليها هم أنفسهم الذين قادوا المرحلة السابقة في إطار «الائتلاف»، وينصب عليهم غضب جمهور الثورة باعتبارهم مسؤولين، شخصياً أو بالتضامن، عما وصلت إليه الأوضاع. ولم يقدم «النداء» نقداً ذاتياً أو اعتذاراً يحقان عليه، بقدر ما حاول إلقاء المسؤولية على الآخرين. وعلى رغم صحة كثير من الملاحظات النقدية التي تضمنها، كرر «النداء» تقديم تصورات إيديولوجية لا سند لها في الواقع عن تصوره لسوريا المستقبل. أي أن المفهوم النظري الذي يقوم عليه «برنامج النداء» لم يتجاوز سقف التصورات التقليدية للمعارضة السورية التقليدية منذ ثمانينات القرن الماضي في أقرب تقدير. وهي تصورات منقطعة الصلة بالواقع وبتطوراته قبل الثورة وأثناءها. وإذا أردنا الإيجاز في عرض تلك التصورات لقلنا: (هناك شعب سوري واحد، له تطلعات مشتركة في الانتقال من النظام الأسدي إلى نظام جمهوري ديمقراطي، يتكون من مواطنين أفراد متساوين أمام القانون، يؤمنون بعلمانية الدولة وحيادها تجاه الأديان والمعتقدات.) والحال أن الأمر يتطلب، لكي تشكل هذه التطلعات برنامجاً للعمل، وجود شعب يتكون من المواطنين الأفراد الموصوفين أعلاه، بصورة مسبقة! وإلا تحول «النداء»، وكل برنامج سياسي مشابه، إلى برنامج انقلابي لنخبة صغيرة منفصلة عن الناس العيانيين، يتم فرضه بالقوة. بحيث لا يختلف برنامج من هذا النوع عن برنامج السلفية الجهادية مثلاً: كلا الفريقين يؤمن بصحة النموذج النظري الذي يدعو إلى تطبيقه، إيماناً يبلغ بأصحابه إلى فرضه بالقوة إذا تطلب الأمر.
مثال على ذلك هو تقديم تصور يعتبره أصحابه «متوازناً» عن حل المسألة الكردية في سوريا، فقط لأنه يبدو لهم كذلك، بدلاً من استشارة الشريك الكردي نفسه عن الموضوع، للوصول إلى قواسم مشتركة يتم التوافق بشأنها. وينطبق الأمر نفسه على مسائل خاصة بالمكونات السورية الأخرى، ليس فقط الاثنية أو الدينية ـ الطائفية، بل كذلك ما يتعلق بالأطر الأهلية والجهوية. ويبرز موضوع البيئات الموالية بوصفه الأشد صعوبة في البحث عن معالجات وطنية لها. لكنه، في الوقت نفسه، الموضوع الحارق الأشد إلحاحاً.
لا يتسع المكان هنا لتناول المعارضة المسلحة، وهي تحتاج نقداً جذرياً بقدر حاجة المعارضة السياسية نفسها إن لم يكن أكثر.
وسوم: العدد 703