هل الصراعات الداخلية ضرورة تاريخية..؟

تعد مسألة الصراعات احدى اهم الموضوعات التي تتطرق اليها الدراسات الحديثة، لِما فيها من موجبات تقتضي التوقف عندها وتأمل الماهيات التي تستجذب هذه الصراعات، وبالتالي فان المجتمعات البشرية قاطبة لابد وان مرت بمرحلة الصراعات الداخلية سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم غير ذلك من انواع هذه الصراعات، والمجتمع الكوردي كغيره يمر منذ نشأة قوام حركته التحررية بحالة من الانقسام الذاتي، وحالة من الصراع الذاتي، بشكل أثر كثيراً على تطلعات الشعب، وحتى تطلعات بعض الاحزاب السياسية الساعية لتشكيل كيان كوردي مستقل.

وقبل الخوض في المعيات التراكمية حول الصراعات المؤثرة على صيرورة الحركة الكوردية المعاصرة لابد من تأمل بعض مفاهيم الصراع حيث يذكر د. منير محمود بدوى في دراسة له حول مفهوم الصراع ان البعد السياسي للصراع "يشير إلى موقف تنافسى خاص، يكون طرفاه أو أطرافه، على دراية بعدم التوافق فى المواقف المستقبلية المحتملة، والتى يكون كل منهما أو منهم، مضطراً فيها إلى تبنى أو اتخاذ موقف لا يتوافق مع المصالح المحتملة للطرف الثانى أو الأطراف الأخرى"، وهذا بالضبط ما يمكن تأمله ورؤيته من خلال البحث حول المسببات والماهيات المتعلقة بالصراع الداخلي الكوردي تاريخياً، فعلى الرغم من ان المتغيرات السياسية والاجتماعية حالة لايمكن تخصيصها لمجتمع بشري اثني قومي ديني طائفي فكري مذهبي دون اخر، فان الامر في كل مجتمع لابد من أن يختلف حسب المكونات الداخلية لتلك المجتمعات من جهة، وحول الماهيات والحراكات السياسية الممنهجة الرائدة لتلك المجتمعات، وبالتالي فان المجتمع الكوردي باعتباره يعيش وسط دوامة من الصراعات الاقليمية والدولية الخارجية فانه لابد وان يتأثر بتلك الدوامة سياسياً واجتماعياً وفكرياً ومذهبياً ودينياً، فالنظر الى كل من ايران وتركيا وما فيها من صراعات اثنية مذهبية طائفية وقومية من جهة والى المجتمع العربي من جهة اخرى باعتباره اكثر الشعوب تماساً بالكورد وذلك عبر الانتماء الديني اولاً واخيراً فان ذلك اثر كثيراً على الرؤية الداخلية للكورد انفسهم حول الماهيات السياسية والمحركات الاخرى التي تقودهم لتبني مواقف تختلف في قضايا كثيرة وتؤدي الى حدوث صراعات داخلية، لاسيما ان نقطة التماس لديهم بالاخص المجتمعات العربية كما يقول د. سامي الحزندار في دراسة له حول اسباب الصراعات " إن الصراعات الداخلية أو الأهلية العربية ذات طبيعة معقدة أو مركبة فهي ذات طبيعة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية ودينية، بأبعاد داخلية وخارجية، وكذلك ذات امتدادات تاريخية ومن هنا فإن أسباب ومحركات الصراعات الداخلية العربية تتداخل مع هذه الطبيعة المركبة بكل جوانبها وأبعادها المشار إليها.."

واعتقد بأن اغلب المجتمعات الشرق الاوسطية تعيش هذا النسق اللامتناغم حول طبيعة الصراع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والديني، وبذلك نجد أن ما يجري على تلك المجتمعات من حيث الرؤية الشمولية والاجمالية يكاد يكون متشابهاً نسبياً بل بدرجة كبيرة، لهذا فان المجتمع الكوردي كواحد من المجتمعات الشرق الاوسطية لابد ان يعيش هذه المرحلة من التناقضات السياسية والاجتماعية والفكرية وحتى المذهبية باعتبار ان الكورد فيهم  الزرادشتي واليهودي والمسيحي" الكلدني – الاثوري – الاشوري " والمسلم( السني – الشيعي) والايزيدي وال " كاكه ئى "  وغير ذلك من الاطياف والمذاهب  الاخرى غير الكوردية التي تعيش داخل دائرة المجتمع الكوردي " التركمان" مثلاً، والتي هي  اجمالا من مكونات المجتمع الكوردي قديماً وحديثاً، لذا فان وجود الصراع امر حتمي على الرغم من ان الصراع نفسه ليست ظاهرة كوردية السلوك، الا انها ترتبط بالدائرة الاكثر شمولية والتي تضم الاثنيات والقوميات والاديان الاخرى في المنطقة باكملها، فالكورد لديهم موطن متناغم من حيث الطبيعة والجغرافية، وكذلك هذا التناغم والتوحد يشمل العادات والتقاليد والشخصية ايضاً، لكنه مجزأ سياسياً وبالتالي اقتصادياً وذلك لظروف دولية فرضت عليه قسراً وليس رغبة ولا طلباً، حيث تقسم ارضه وتوزيعه على اربعة دول بعد مؤتمر لوزان 1923 ( تركيا وايران والعراق وسوريا ) جعل من التجزأة السياسية والاقتصادية مفروضة عليه مسبقاً بحيث لم يجد الفرضة بعد انهيار الخلافة العثمانية ان يلتقط الانفاس ويحاول تقريب الرؤية الكوردية الكوردية لتأسيس كيان كوردي موحد، يمكن ان يكون نواة لكوردستان الكبرى وقتها.

 وهذا ما خلق انقساماً كوردياً واضحاً في الرأي وفي الرؤية النضالية المقسمة بين النضال المسلح والنضال السياسي داخل كل دولة ففي تركيا مثلاً هناك النضال الكوردي السياسي والفكري، وفي الوقت نفسه المسلح، بالطبع كما في الاجزاء الاخرى من كوردستان المجزأة، وحتى هذا الانقسام موجود في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي اصبحت المصالح السياسية الحزبية هي الفيصل والحكم في ادارة الصراعات الداخلية الكوردية الكوردية، يذكر د. منير  بدوي في دراسته ان (( كل من لوبز وستول  يذهبان إلى أن مفهوم الصراع يمثل أو يعكس في هذه الحالة "موقفاً يكون لطرفين فيه أو أكثر أهداف أو قيم أو مصالح غير متوافقة بدرجة تجعل قرار أحد الأطراف بصدد هذا الموقف سيئاً للغاية"، ومن هنا يمكن النظر إلى مفهوم الصراع باعتباره "نتيجة لعدم التوافق فى البنيات والمصالح، مما يؤدى إلى استجابات بديلة للمشكلات السياسية الرئيسية". وعلى ذلك يخلص الكاتبان إلى "أن الصراع بهذه الكيفية، يعد سمة مشتركة لكل النظم السياسية الداخلية والدولية"..)).

وهنا تبرز القيمة المعرفية لمفهوم الصراع الكوردي - الكوردي، لاسيما فيما يتعلق باتخاذ موقف سيء للغاية، وفي الوقت نفسه السمة المشتركة لكل النظم السياسية الداخلية والخارجية، فعدم التوافق صفة وسمة بشرية قائمة منذ البدء، بعبارة اخرى منذ بدء الخليقة، وبالتالي فان المجتمعات قاطبة لابد ان تمر بمراحل الاختلاف وعدم التوافق كضرورة وجودية مغروسة في كينونتها، ولاتوجد في التاريخ مجتمعات مستثنية من هذا الامر، لا المجتمعات الوثنية ولا الدينية ولا الفكرية المعاصرة وحتى المجتمعات التي تطلق على نفسها بالمجتمعات المدنية نجدها تعيش حالة من التناقض بين مفاهيمها ورؤاها وبين ممارساتها الفعلية، وما يعني ان المجتمع الكوردي كغيره من المجتمعات الاخرى يعيش الحالة " الصراع"  هذا وفق معطياته التاريخية ووفق تداعياته السياسية المفروضة عليه داخلياً وخارجياً، وحين يقول د.  عدنان الهياجنة الاستاذ بالجامعة الهاشمية في دراسته حول موضوع الصراعات العربية " إن اختفاء بعض الصراعات العربية أو توقفها لا يعني بالضرورة نهايتها وحلها. ووصول هذه المجتمعات إلى حالة من الاندماج المجتمعي في إطار قد يطلق عليه البعض المجتمع المدني قد يؤجل انفجار هذه الصراعات، إذ إن أسباب الصراعات العربية تعود لأسباب تاريخية وحضارية يعاني منها المجتمع العربي.."، فانه يمكن الاستدلال بمقولته حول اغلب المجتمعات الشرق الاوسطية،باعتبارها تتقات من معين متشايه ومتجذر في كينونتهم وعقليتهم، فالمجتمعات العشائرية والقبلية والدينية والمذهبية والطائفية غالباً ما تتوحد لديهم الاهداف والرغبات فيما يتعلق باقصاء المنافس الاخر، والمسك بزمام الامور ضمن هيكل موحد" الحزب الاوحد " سواء دينياً" مذهبي- طائفي" او قومياً او سياسياً حزبياً، وذلك لأن اغلب المجتمعات في المنطقة تفتقد لاساسيات البناء المنظم والهيكل السليم اصلا لبنائها، سواء من حيث الدور التوحيدي للمجتمع او التنيمة الاقتصادية او استقلال المجتمعات من العصبيات التي غالباً ما تكون هي المسبب الابرز للصراعات الداخلية وتؤثر سلباً على نظام المواطنة ، فالقضاء على العصبيات لايتم فقط عن طريق العنف والاقصاء انما القضاء على المعين الثقافي القبلي العصبي يعد مكسباً مهما في بناء المجتمعات، مما يؤدي بالتالي الى سد الثغرات لاستغلال هذه العصبيات من قبل الاطراف الخارجية، وهذا بالضبط ما نحتاجه ككورد في سد الفجوة المتعلقة بالصراعات السياسية الداخلية" الكوردية – الكوردية" سواء داخل الدول التي فرض عليهم التعايش والبقاء تحت جناحها او الصراع الكوردي – الكوردي الشمولي بين الجماعات السياسية الكوردية في كل الاجزاء، حيث ان اغلب النعرات تبدأ من خلال فرض بعض الاطراف الخارجية بالاخص كل من ايران" العراق"  وتركيا رؤيتها حول الوضع الكوردي وبالتالي استغلالها لبعض الجهات الداخلية الكوردية لتقوم بتنفيذ مخططها " اجندتها" او رغبتها الاقصائية للاخر، فتتحول الى صراع داخلي بين الكورد انفسهم، ولاننسى نشوء تيارات سياسية على حقد تيارات سياسية سابقة، فضلاً عن الانقسامات داخل التيار السياسي الواحد، حيث ينجم عن كل ذلك الابتعاد عن المسارات التنموية الديمقراطية والمدنية وبالتالي الى اضعاف البنية الاساسية للحركة الكوردية التحررية الساعية لانشاء كيان كوردي مستقل ولو في احد الاجزاء المقسمة اصلا، لتكون في المستقبل القريب النواة التي يمكن منها البدء بطرح مشروع  كوردستان الكبرى.

وسوم: العدد 711