سوريا السنوات الست

لا تعكس صورة الرجل الحلبي، الذي ينفرد بموسيقاه في منزله المدمر في حلب، إلا بتسليمه. فالتسليم، بات سمة مشتركة لسكان سوريا الذين لا يجدون لهم حولاً، ولا قوة، في تغيير وقائع وتداعيات التجاذب الدولي في قضيتهم. 

التسليم نفسه، قاد المواطن الحلبي الى ذاته. الاحلام الكبيرة تكسرت، كما جدران منزله. شُرّعت جميعها على مجهول، لم يكن كذلك قبل 6 سنوات، حين خرج أطفال درعا في تظاهرة تطالب بإسقاط النظام. ومع تشريعها على احتمالات كثيرة، يتشارك الرجل مع نفسه الرضا بما تبقى. فالمجهول مظلم. لا تفك التوقعات ألغازه. ولا أروقة الأمم المتحدة تحتضن ترجيحات بنهاية، أقل مأساوية من القائم. 

لاذ الرجل بنفسه. ثمة ملذات بسيطة، حُرم منها. صحيح أنه نَفَذ بحياته، ولم ينضم الى قائمة الـ320 ألف شخص الذين قتلوا خلال ست سنوات.. إلا أن التفاصيل الصغيرة، الشخصية منها، لها أولوية. الذات لها حقها في حلب. ولن تستطيع الجدران المشرعة على الموت أن تمنعها من لذة الاستمتاع بموسيقى لطيفة، دأبت الآلة القديمة على تردادها في أروقة مغلقة، احتضنت رومانسيته حيناً، وعصفه في أحيان أخرى، تفاعلاً مع أغنية. 

لم يبقَ من الذكرى إلا ما هو سمعيّ. الحرب دمرت رومانسية مفترضة. ولم تستقر إلا على العصف. عصف المدافع الذي ابتعد. وعصف الدمار الذي هدأ، وسكن في جدران الغرفة. الذات هنا، عبارة عن لحظة صفوة. تلذذ بدخان "بايب" لا يتشكل كغمامة في الغرفة المغلقة. وهي لحظة وجع بالتأكيد. فقد بات وحيداً، بلا سياراته القديمة في منطقة طريق الباب التي دُمّرت بفعل البارود، وبلا جدران منزله، وبلا أحبابه. وحيد هو، في لحظة صفاء، لا تستطيع أن تنقذه من التفكير في مجهول قادم، لا محالة. 

هو وحيد، كما ملايين السوريين. لا مجتمع دولياً يتحدث عن "أيام معدودة" للأسد، كما في العام الأول للثورة. ولا عن خطط لتمكين المعارضة لاسقاط النظام عسكرياً، كما في العام الثاني. ولا عن خطط لإطاحة الأسد على خلفية استخدام الكيماوي، كما في العام الثالث. ولا عن مساعٍ لإنقاذ الأطفال القتلى، كما في العام الرابع. جل ما يسمعه السوريون، يتمثل في خطط للتنسيق لمحاربة "التنظيمات الارهابية"، منذ العام الخامس. تمرّ الأعوام، وتكبر المصائب، وتصغر القضايا. 

كان السوريون ينتظرون الآخرين من المجتمع الدولي، كي يقرروا لصالحهم، على مدى خمس سنوات. اليوم ينتظرون حلاً يهبط على السوريين. وبدلاً من الانتظار، إنضم الرجل الحلبي الى نفسه. أعطاها ما تشتاقه منذ سنوات، لكن، وحيداً في غرفة مشرعة على الخوف والدمار، وفي بلاد مشرعة على تسويات واقتتال من أجل نفوذ دولي، ومجهول يبدد أحلام الملايين. 

*رئيس قسم الميديا في "المدن"

وسوم: العدد 711