وصف الشيخ الجليل العلامة الموسوعي علي الطنطاوي البطل العبقري خالداً بن الوليد، مراتٍ كثيرة بأنه أعظم قائد عسكري في التاريخ على الإطلاق، وهي شهادة عظيمة تستمد مكانتها من قائلها العظيم. إن نصر اليرموك الذي حققه خالد نصر حاسم، وممتد؛ حاسم لأنه أخرج الروم من الشام نهائياً، حتى قال قيصرهم يومذاك: وداعاً يا سورية، وداعاً لا لقاء بعده. وممتد لأنه صار في وجدان الأمة جذوة ورمزاً وحادياً يهيب بها أن تغلب الأهوال، وتحقق الآمال.
الهوامش:
(1) يعد شوقي أعظم شعراء عصره، وله قصائد إسلامية رائعة. أما حسان بن ثابت -رضي الله عنه- فهو أول شعراء النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، عند البعثة وأشهرهم.
(2) شرّف الله حمص فأودعها جسد البطل العظيم.
(3) قال عالم هندي حكيم: أراد خالد الشهادة، وما كان له ذلك، لأنه سيف الله، وسيف الله لا يُكْسر.
(4) قال خالد عند موته: "لقد حضرتُ مئة زحفٍ أو زهاءَها، وما في جسدي موضعُ شِبْرٍ إلا وفيه ضربة أو طعنةٌ أو رميةٌ، وها أنا أموت على فراشي كما يموت العَيْر؛ فلا نامت أعين الجبناء!".
(5) خولة بنت الأزور، وقد كان لها في اليرموك بطولة نادرة.
(6) جِنَّان: جمع جنِّي.
(7) جوانب العبقرية عند خالد متنوعة، منها المفاجأة، وسرعة التنقل، وقد رحل من العراق إلى الشام عبر البادية بسرعة في خطة جريئة مبتكرة وناجحة، تعد من الأعاجيب.
(8) الواقوصة خندق صخري عميق، يمر فيه نهر الأردن، وفي معركة اليرموك حصر خالد الروم على حافة الواقوصة، فهي وراءهم، وتلال مرتفعة عن يمينهم، وأخرى عن شمالهم، وسدت أجناده عليهم الشِّعب من أمامهم، فقال خالد: حُصِرت الروم، وقلَّ أن فاز محصور، وقتلت أعداد كبيرة منهم بسيوف المسلمين، وقتلت أعداد أخرى بالتردي في الواقوصة.
(9) كان الروم يجبرون الرقيق على المشاركة في القتال، وربما قيدوهم بالسلاسل.
(10) قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "نُصِرْت بالرعب مسيرة شهر"، وكان اسم خالد يلقي الرعب في قلوب من يقاتلهم. ويروي التاريخ أن المسلمين حاصروا دومة الجندل شهوراً، حتى ضاق بهم صدر الصديق، فأمر خالداً بالتوجه إليها، فلما ذاع خبر ذلك تفرقت القبائل المحاربة، وفتحت القلعة قبل أن يصل خالد؛ إنه أمر مذهل!.
(11) سَحْبان وائل: يضرب به المثل لدى العرب في الفصاحة والبلاغة.
رباه خالد حيٌّ بيننا الآنا=عزماً وحزماً وأسيافاً ومُرَّانا
يهيب أن أقدموا إقدام ذي أمل=يرى الهوان ردىً يسطو بمن هانا
وأنت مَنْ صاغه الرحمن قدوتنا=وصانع النصر أصقاعاً وأزمانا
ولم تزل كالضحى فينا صنائعه=تزداد آلاؤها عزاً وريعانا
رباه مُرْ لي سريَّ الشعر يلهمني=في مدحه درة معنىً وتبيانا
بزَّتْ نظائرها من حسن طلعتها=عساي ألحق شوقيّاً وحسَّانا(1)
هما الشهابان أنواراً ومنزلة=والطالعان بياناً ملء دنيانا
والقدوتان هما أقفو سبيلهما=حتى أنال المنى الغراء أفنانا
وإنني فاعل يا رب في مقة=فكن معيني يجئني الشعر ديوانا
* * *=* * *
بشراك خالد جيش الله منطلق=ملء المدى الرحب أشياخاً وشبانا
فيه عزيمتك الميمونة اتقدت=ناراً ونوراً، وإفناءً وعمرانا
يجددون لنا اليرموكَ في شغف=أورثتَهم ثقةً بالنصر إيذانا
ويصنعون لنا حطينَ رائعةً=تطوي اليهود كطي القبر جثمانا
ويرجعون لنا الأقصى فندخله=متبِّرين بإذن الله أعدانا
غداً تهنيك في حمصٍ(2) كتائبنا=منصورة وعيون الله ترعانا
* * *=* * *
يا ابن الوليد لقد حاولتَ في شغف=نيل الشهادة إن جهراً وكتمانا
وأنت في اللوح سيف الله منتصراً=فليس يُكْسر(3)، والرحمن من صانا
خلوده من أذىً أو ثلمةٍ أبداً=حتى يظل لنا ما الله أحيانا
درعاً وحصناً وأفراساً مضمرة=وللهدى والفدا درباً وعنوانا
تنبو السيوف إذا طال الصِّيال بها=وإنك الآن مغدانا وممسانا
نراك سيفاً تعالى الله صانعُه=فما ترى هنة فيه ونقصانا
والسيف شهم فما تعروك مجبنة=لأنك المفتدي ظمآن ريانا
ظمآن من نصب ريان من عدة=مع الجنان يلاقيهن جذلانا
* * *=* * *
في مؤتة حُطِّمَتْ تسع يصول بها=من السيوف ولكن ظل صوانا
ولم تكفَّ عن الإقدام صولته=لأنه قدر من أمر مولانا
وأسعفته لدى الجلَّى يمانية=ظلت له واقياً براً ويقظانا
لأنها مثله ظلت تؤازره=كذلك الطبع أسيافاً وإنسانا
مضى الزمان وسيف الله في غَلَب=كالسيف في الهول بتاراً وعريانا
وحين فاتته في الأهوال منيته=وهي الشهادة سباقاً وهيمانا
أهداه خالقه الرضوانَ أوسمةً(4)=هي الجراح دماً والمسك ريحانا
كانت له هبة عما يؤمله=جلَّ الوهوب الذي عيناه ترعانا
الحسنيان له عشق وموعدة=هما جناحاه أعمالاً ووجدانا
أعلاهما صادقاً فانظُرْ له تَرَهُ=قد أعلياه وتدري ما الذي كانا
قد نال مجداً جميع الخلق تعرفه=صلباً ولكِنْ قشيب البُرْدِ نديانا
* * *=* * *
بشراك خالد أجناد الهدى ظفر=آتٍ كما تشتهي حسماً وغفرانا
قد طيباه فكان الفوز مكتسحاً=والعدل مكتملاً والجود هتانا
هذي فضائله غراء باهرة=لما تزل أسيفاً ظمأى وبستانا
نعمى لمن طَهُروا سيفاً لمن كفروا=ما أجمل النصر إنعاماً وبركانا
وأروع النصر حسم دون مظلمة=والأروع التمُّ ما تلقاه إحسانا
حتى الألى غُلبوا يلقون غالبهم=وهم يقولون هذا غُرُّ نجوانا
وربما أعجبتهم صدق دعوته=فأسلموا فغدوا أهلاً وإخوانا
وأنت في الجند حاديهم وقدوتهم=لأنك الكُفْءُ يأتي الحق إذعانا
الله غايته محضاً ودائمة=كأنه ملك بالطهر وافانا
فليس يرقب إلا الله في مقةٍ=وليس يرهب لا إنساً ولا جانا
مذ بايع المصطفى أعلته بيعته=إذ صانها والهمام الحر من صانا
لما عُزِلْتَ لقيت العزل مبتهجاً=أطعت آمره الفاروق عجلانا
وقلت إنّيَ جنديٌّ وأوسمتي=أن أجعل الطوع للرحمن قربانا
فازددت عزاً على عز نراه سناً=يضوع طهراً وإجلالاً وعرفانا
من دان أهواءه صارت له تبعاً=يقتادها للهدى فرحى وفرحانا
وآثر الله أعلاه وأكرمه=فهو السبوق لدنيانا وأخرانا
* * *=* * *
لقد مضيت وباقٍ بيننا بطلاً=وناصحاً يقظاً إن نغفُ نادانا
لا تجبنوا واشتروا بالموت جنتكم=ترونها كالضحى للسعد إيوانا
حتى الرزايا إذا عاثت بحوزتكم=قوموا إليها مساعيراً وفرسانا
فإن سطوتها توري عزائمكم=حتى تصيروا بها أُسداً وعقبانا
فتنشدوا وأنا راضٍ ومبتهجٌ=النصر ننزعه من شدق بلوانا
فأقبلي يا رزايا أنت موعدنا=لعزة الدين والحسنى لدنيانا
حتى إذا الظفر الميمون حق لكم=قلتم وفي مقة: شكراً رزايانا
عودي يعُدْ خالد يهدي كتائبنا=والنصر عادته غاراً وتيجانا
والسيف صلتاً لدين الله يحرسه=من كل عادٍ وأحراراً وشجعانا
* * *=* * *
أبا سليمانَ لقيانا تجددها=مواسم الخير ما ظلت سرايانا
تقفو خطاك فيأتي النصر في يدها=وإنه الرأد حيَّانا وهنَّانا
وأنت قدوتها الميمون طائرُه=وحيث توجد فالنعماء تلقانا
وهم بنوك كما ترجو ولا عجب=فالأصل ينبت فرعاً مثلما كانا
"قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم=طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانا"
فروعوه فولى مدبراً جزعاً=يعدو سريع الخطا خزيان ندمانا
فيه من الرعب أهوال ينوء بها=والرعب صار له في العدو سيقانا
وإن نظرت إلى من كان قائده=تجده إبليسَ محزوناً وحيرانا
أما بنوك فبعد النصر تبصرهم=يبكون في سجدة لله شكرانا
وهم سيمضون لكِنْ بعدهم خلف=من كل ناحية سوداً وغُرانا
فما مضت فئة إلا أتت فئة=تقفو خطا أختها نهجاً وإتقانا
وإن مضت نخلة أهدت لنا مئة=من الفسائل أنواعاً وألوانا
وأنت كالنخل ما زالت فسائله=تهدي جناها لأقصانا وأدنانا
* * *=* * *
يا خالداً كنت فينا العزم متقداً=وما تزال حداء في خلايانا
أطفالنا رضعوه مذ طفولتهم=من خير ظئر جعلن الدَّرَّ إيمانا
فصار في دمهم شهداً وطاب لهم=بعد الطفولة صبياناً وشبانا
وحين شاخوا فما لانوا ولا وهنوا=وما يزالون للعلياء أركانا
فرسانه الغيد قبل الصيد في مقة=مذ خولةٍ(5) لبست في الهول أكفانا
من البطولة واجتازت بوقدتها=أقصى ذرا المجد أفعالاً وإيقانا
حتى غدت قدوة غراء خالدة=كخالد وهما في المقلة الآنا
تقفو خطاها بلا وهن نظائرها=يرونها مثلاً أعلى وميزانا
الوافيات إذا عاهدن في أنف=الطاهرات سجياتٍ وأردانا
وانظر إليهن تبصرهن عن كثبٍ=يحرسن – والحافز اليرموك- أقصانا
* * *=* * *
يا قدوة قد براها الله خالصةً=للبغي حسماً وإعصاراً وطوفانا
جديدةً دائماً طهراً محاسنها=لم تقترف قط آثاماً وبهتانا
وكيف تفعل والرحمن أوجدها=تُغْني وتُقْني وتُؤْتي الفضل مزيانا
كأنها بعد ألف من توقُّدِها=تصاحب الآن يمنانا ويسرانا
وقولها الفعل مهما حاطه خطر=وفعلها العدل إيثاراً وإيمانا
وصوتها لم يزل كالرعد هيبته=وعودها لم يزل نضراً وريَّانا
لأنها دوحة ألله منبتها=وجودها لم يزل كالغيث سقيانا
فلن تشيخ ولن تبلى بواهرها=مهما طوى الدهر أدهاراً وأوطانا
نشتار أنعمها الآلاء دانية=هدية منه سوَّاها وسوَّانا
* * *=* * *
في روحنا ألف يرموك لها عبق=وأنت فيها الهمام الثبت رُبَّانا
أسماؤها اختلفت لكنَّ جوهرها=جُذاك تمنحنا عزماً وسلطانا
ونحن جندك في عسر وميسرة=وأنت تأمرنا فيها وتنهانا
حتى ترانا لما ترجوه من ظفر=أهلاً فتجعلنا في الروع جِنَّانا(6)
فنقطف النصر لكن أنت زارعه=فأنت حياً وميتاً في سرايانا
* * *=* * *
وقال لي جاهل غِرٌّ يجادلني=أصبحت في خالد صباً ونشوانا
أغراك حبك حتى كدت تجعله=أنَّى يكُنْ فهو أعلانا وأبهانا
فقلت كلا لقد صار الجهاد له=في القلب عشقاً وأفراحاً وأشجانا
والموت في عزمه المِرْقالِ أمنية=أما المهار فخلاناً ونُدْمانا
لذاك أدرك في التاريخ منزلة=قد حازها وحده فاجتاز كيوانا
إني لأعيا إذا استعرضت سيرته=فهي السوابق إن أمضى وإن لانا
السيف والرمح قد أهدته أجنحة(7)=يطوي بها الوعر صحراءً وشطآنا
بين العراق وبين الشام بادية=طوى مهالكها نجداً ووديانا
وإن نظرت إلى الواقوصة(8) اتضحت=من خالد قدرة كالنور إذ بانا
قد رازها عبقري الحرب من أَمَمٍ=وأطرق الرأس في التدبير إمعانا
وقال أبصرتها للروم مقبرة=لها يساقون أحراراً وعُبدانا(9)
لأنها وهي بالأهوال فاغرة=فاها ستبدو شياطيناً وغيلانا
فإن رأوها وراعتهم ضراوتها=خروا بأشداقها صُمّاً وعميانا
جدرانها الشوك أفواه بها نَهَمٌ=ورملها كان للأجداث ظمآنا
أما التراب فأثواب مضرجة=أعدَّها الموت للرومان ذؤبانا
ذاقوا الجحيم بها عقبى ضلالتهم=أما الحساب فهم لاقوه خسرانا
سيوف خالد أفنت نصفهم عجلاً=والنصف أهوى فذاق الموت حُسْبانا
أردته سقطته حتى غدا مِزَقاً=سرعان ما أصبحت في الترب ديدانا
* * *=* * *
والرعب(10) أهداه جيشاً كان زلزلة=أذاق أعداءه الخذلان ألوانا
كان اسمه الضخم قبل السيف يجعلهم=قتلى قلوباً وأعصاباً وأبدانا
والرعب مبخلة تخزي ومجبنة=تردي وتسقي الفتى الضراء غصَّانا
والرعب أفتك سُمٍّ قاتلٍ نَهِمٍ=لم يعرف الناس مثل الرعب ثعبانا
إذا سطا بالفتى ألقاه في قرف=على المزابل محقوراً وخزيانا
ومدمن الرعب مسجون بسطوته=وبئس ما كان مسجوناً وسجانا
* * *=* * *
يا ابن الوليد سلام الزهو يحمله=إليك أحياؤنا من بعد موتانا
والليل والصبح والأطيار صادحة=ما أنشد الدهر شيئاً من سجايانا
قصيدتي هذه أمليتها عملاً=قبل المقال فجاء النظم سَحبانا(11)
انظر إليها تر الأبيات باهرة=من دونها الدر ياقوتاً ومرْجانا
عساي ألقى من الرحمن منزلة=لديه تزكو وغفراناً ورضوانا