أشواق أندلسية
كان عدد من الشبان المغاربة يتجولون في جنة العريف في حمراء غرناطة بملابسهم الجميلة المميزة، ولما حان وقت الصلاة أذن أحدهم ثم أدوا الصلاة جماعة والزوار يرمقونهم بدهشة، والأندلس تنظر إليهم بلهفة وحب وحنان وقد استيقظت فيها أشواقها لأيام المسلمين .
أطوي القرون القهقرى=شوقاً لأيامي الحسان
والمسلمون مواكب= تترى وصعب الدهر لان
وهم الميامين الألى=لا يركنون إلى هوان
وفتوحهم في زهوها=هي والحضارة توأمان
موسى وطارق والأباة=ومجدهم والعنفوان
يبنون في أرضي العدا=لة والهداية والأمان
تمشي المآثر بين أيْـ=ـديهم فيخضرّ المكان
والناس والأطيار ها =نئة تزغرد كالقيان
بِشْراً بأنبل فاتحيـ=ـن كأنهم هبة الجنان
جاؤوا كما سرت الطيو=ب العاطرات ونسمتان
وأتوا على ظمأ لقفْـ=ـرٍ مجدب فزها ولان
بيض الصنائع بين أيـ=ـديهم يشير لها البنان
وهمُ شهود عهودهمْ=إن أبرموها والضمان
ولهم مع الظفر المؤزَّر=في الضحى تكبيرتان
حنوا الجباه لربهم=شكراً وضاعت([1]) سجدتان
وبنوا أجلّ حضارة=طلعت على الدنيا افتتان
الشمس تروي عن عوا=رفها ويروي الفرقدان
ما ملّ منها المادحو=ن، وسل يجبك العاقبان
فأنا العلوم أنا الفنو=ن أنا الغِلاب أنا الطعان
المجد أزهر في ربو=عي والفخار له لسان
والشعر أزهر والموشَّح=والقوافي كالجمان
والعلم أبذله فينـ=ـهل صفوه قاص ودان
تأتي الوفود إليه ظا=مئة فتمتلئ الدنان
طوّف معي حيث استطعـ=ـت فإن أرضي مهرجان
غرناطة طابت وطا=ب رواؤها والأقحوان
اعكف عليها ساعة=ثم ارتقبني في جيان
ثم ارتحل بي صوب قر=طبة وجلجل بالأذان
سترى الشيوخ الأكرميـ=ـن بحور هدي أو بيان
والمسجد المعمور محبو=ر بمرآهم وهان
شمخت سواريه اللدا=ن كأنها أغصان بان
ورحابه العباد والز=هاد والجمع الحسان
والمؤمنون أهلةٌ=وسرائر زُهْرٌ حَوان
ومواكب خشعت لخا=لقها وثمة تاليان
وعلى المحاريب الوضيـ=ـئة والمآذن داعيان
يتسابقان إلى المكا=رم والهدى لا يألوان
فرحت بهم زهر النجو=م وطيبة والمكّتان
وعلى ذرا الحمراء أشـ=ـعارٌ وآيات دوان
وشعارها ولواؤها=عبر الدهور يناديان
الغالب الرحمن جل=جلاله والكل فان
يجتاحه الهول المدمَّى=وهو غابة سنديان
والموت يزحف وهو يهـ=ـتف إن لي قصب الرهان
ما كان سيفي بالكها=م ولم أكن يوماً جبان
الهول دربي بيد أني=والشهادة عاشقان
سأظل أقتحم الصعا=ب شهاب نار أو سنان
وأنا البطولة لا تخا=ف غوائل الحرب العوان
لا لن أخاف فعهد أمـ=ـثالي وقد كرموا يصان
سأموت صقراً لم تلو=ث جفنَه سنةُ الهوان
فاتبع خطاي إذا قدر=ت ففي الغيوب بشارتان
نصر كما تهوى العلا=أو ميتة ولها إران
وهما جوادا حلبة=في مجدها يتنافسان
ومضى عليه عناده=وجلاله والعنفوان
ومشى وعينا روحه=فيما يؤمل تحلمان
تتسابقان وتنظرا=ن وتبسمان وترنوان
حتى تكلل بالشها=دة وهو محبور الجنان
فعليه من نعمائها=أطيابها والأقحوان
وعليه من دمه الطهو=ر مطارف من أرجوان
فحياته ومماته=للمكرمات قلادتان
جاد الزمان له بأكـ=ـرم ما يؤمل من أمان
السعد ملء رحابه=وركابه والصولجان
وجيوشه الظفر المجلجل=والعلا والمهرجان
وعليه من ظفر الملو=ك الغالبين عباءتان
هذي إذا أدنى قرا=ه وتلك إن كان الطعان
يا طيب ما احتوتا عليـ=ـه لعسر دهر أو ليان
صفت له الرايات والـ=أجناد وازدان المكان
جثت الوفود ببابه=ترجو السلامة والأمان
الروم بين يديه خا=شعة وراعشة الجنان
وهنا مؤمل رفده=وهناك يرجو العفو جان
فإذا تبسم أو تجهم=أو تحكم أو ألان
خضع الزمان لحكمه=وأتاه تسلمه اليدان
أكرم به من ظافر=ومناه زهراء هجان
وأجلّ من ظفر الملو=ك سماحها لمن استكان
ظفر النبيل له مع الـتا=ريخ أخلاق دوان
ظفر تسامى أن يُدنـَّ=ـسَ بالمظالم أو يشان
فعهوده وفتوحه=صنوان لا يتفرقان
ويداه بالصفح الجميـ=ـل وبالندى مبسوطتان
عينان طاب نميرها=فكأنه فيض الجنان
تسقي الظماء الوارديـ=ـن بخير ما اختزنت دنان
وبكل ما تهوى الشمو=س وقد تمنت تجريان
عينان بالأمجاد يحـ=ـرسها الهدى نضاختان
الماء بين رحابه=قيثارتان تغنيان
وخريره وهديله=في مسمعي أنشودتان
وحبابه عقد تلأ=لأ في الغواني كالجمان
صاغته في ألق الضحى=تلك النوافير اللدان
والياسمين قلائد=وضفائر من أقحوان
والورد يدنو إن دنو=ت وإن رأته المقلتان
وفراشتان تطايرا=ن وبلبلان يغردان
والحسن يضحك كالربيـ=ـع الطلق في شرخ الزمان
والطيب نفح المسك ترْ=سله العشي غمامتان
وخميلة هشت لزا=ئرها جوانبها الثمان
وعرائس جئن الضحى=يختلن زهواً وافتتان
يمشين والدهر الشمو=س لهن قد أرخى العنان
يرفلن في مرح الشبا=ب كأنهن الخيزران
زمراً وأتراباً كوا=عب قد نزلن من الجنان
جن العريف بهن لما=جئن سرباً من غوان
يرنو ويحلم بالوصا=ل وهن أحلام روان
والنيرات حواسد=عضت من الحقد البنان
قال الجمال أنا العريـ=ـف إذا تبدّى للعيان
ومواكب الزوار تتـ=ـرى والقصائد شاهدان
والحاقدون عهودهم=أضغاث عربيد وحان
نقضوا الذي قد أبرمو=ه فلا سلام أو أمان
وعدا على غرناطة=يوم الكريهة حاقدان
خانا عهود الصلح والـ=ـخوّان غدار جبان
فالصل([2]) رغم عهوده=زيف ومين وامتهان
وإزاءه الأفعى([3]) التي=جمعت مع الغدر اللعان
ملكان ما عرفا الوفا=ء فليس ثمة ما يصان
مشيا إلى الحمراء يو=م الروع مشية أفعوان
ووراء جيشهما المدنس=بالفظائع كاذبان
قسيسه وصليبه=في غبطة يتجولان
ويعذبان المسلميـ=ـن سفاهة وينصِّران
ويباركان الإثم والـ=ـبطش الحقود ويتلوان
قطعاً من الإنجيل تمـ=ـنع آيها ما يفعلان
وتقاطرت هوج الجرا=ئم مثل حالكة الدخان
قتل وتنصير ونير=ان وملحمة عوان
ومحاكم التفتيش عا=ر الدهر والحقد المدان
مرت أخس نقيصة=والسر يشهد والعلان
طرب اللئيم لعسفها=وبكى الكريم وما أبان
بكت الفضيلة بالدما=ء، ولا مجير مستعان
وشكا المسيح وأمه=ما يبصران فيألمان
والمغربان مدامع=مسكوبة والمشرقان
ما هنت يوم الروع=لكن الذي قد باع هان
وبقيت في هام النجو=م ولي مع المجد اقتران
وبقيت في سفر الفخا=ر سطوره لمّا دعان
وبقيت أتبع أحمداً=فهو الرسول وقد هدان
وبقيت رغم مصائب الـ=دنيا المرزأة الحصان
وبقيت في هوج العواصف=صخرة من عنفوان
أما الذي قد باعني=فمضى كما يمضي الدخان
باع التلاد وأهله=في صمت مقهور وعان
يا ليته وهب الرجو=لة ما تشاء من الطعان
وسقى ثرى الحمراء حتى=أصبحت مثل الدهان
واختار ميتة حمزة=والغافقي وما استكان
وأظل أنتظر البشا=ئر وهي في خلدي أغان
أرنو إلى الفجر الجميـ=ـل يزف لي أغلى لُبان
والدهر دولاب يدو=ر وربما آن الأوان
وغداً أعود كما بدأ=ت وملء أرجائي الأذان
أحلام يومي في غدي=فلق الصباح إذا استبان
ها قد دنون بواسماً=فبأيهن تكذبان
فارقب بشائرها الملا=ح ورتل السبع المثان
([1]) ضاع العطر: انتشر.
([2]) الملك الإسباني فرديناند.
([3]) الملكة إيزابيلا.
وسوم: العدد 872