***
***
شريف قاسم
*هوامش
*نشرت في مجلة الثقافة الأسبوعية الدمشقية العدد ( 12 ) تاريخ 24/3/1979م .
(1) رحاب الدير : ديرالزور .
(2) الوادي : نهر الفرات .
( 3) الغربة العمياء : في الغربة العمياء قصيدة مطولة أُرسلت للأخ الأستاذ الشاعر عبدالجبار الرحبي يرحمه الله قبيل وفاته بأيام ولا أدري هل قرأها أم لا ومنها هذه الأبيات :
ياقلبُ : أين الربيعُ الحُلوُ مبتسما = وفجرُك الخضِلُ الفينانُ حين همى ؟
فمبسمُ البِشرِ فيَّاضٌ بجنتهِ = أيامَ لم يطوِ بستانُ المنى نعما
تروحُ أو تغتدي جذلانَ مبتهجًا = في ظلِّ أيكِ الرضا ترتادُه عمما
والشوقُ بين رحاب الديرِ تنفحها = من الصَّبا نسمةٌ والشدوُ ما وَجَمَا (1)
بها الطفولةُ كم ماست على فننٍ = والروحُ للحلمِ المفترِّ كم لثما
في مرتع الحيِّ من أقدامِنا صورٌ = على ثراهُ بَنانُ الصَّفوِ كم رسما
كم ليلة حُلوة بتنا بلا كدرٍ = لم نكترث لمصابِ الدهر أين رمى !
ضجيجُنا بين تلك الدورِ أغنيةٌ = شجيَّة الجرس عنها الحيُّ ما فُطِما
وكم على شاطئ الوادي نهيمُ ضحىً = نردُّ عن رملِه الموجَ الذي هجما (2)
يُطوَى النهارُ وما يُطوَى تلهفُنا = وليس يُتعبُ مرماها لنا قَدَمَا
ياقلبُ : ما لك قد ألقيتَها غُصصا = عذب الأغاريد بل طوَّقتَها سأما
عهدي بك الطائر الغرِّيدُ منطلقا = جناحُه فوق روضات الهنا نهما
سموتَ بالطهرِ في أفياءِ دوحتها = وما أثمتَ بدنياها كَمَن أثِما
ملكتَ بالحبِّ كنزًا ليس يملكه = أخو ثراءٍ ولا جاهٍ ومَن غنما
والعيش في عالم الأهواءِ مبتَذَلٌ = فلم تُدَنِّسْ يدا أو عشتَ متهما
ورحتَ تفرشُ أفقَ العيشِ من قيمٍ = تشع نورا من الإيمان منسجما
أذبْتَ بالقلمِ المخضلِّ كلَّ أسىً = وصغته فَرَحًا أذكى به الهمما
ما الأمسيات التي أجرت مدامعنا = وقرَّحتْ بعدُ أجفانَنا والقلبُ ما خُرِما
والصَّحبُ في الليلة القمراءِ قد سهرتْ = فيها عيونُ الوفا صارت لنا حلما
مضت سويعاتُ ذاك العهد واندثرت = خضرُ المباهجِ والحادي لها وَجَمَا
أكابدُ اليوم أيامي وأجرعُ من = كأسِ المرارةِ في جنبيَّ محتدما
باتت تؤرقني الأطيافُ عابسةً = على بساط الدجى في وحشةٍ وعمى
ياقلبُ : قد ولَّت الأفراحُ مسرعةً = و ذوَّبَ المتعَ الفيحاءَ يومُ ظَمَا
وكنتَ في عالَم فاحت أطايبُه = وأسكرتْ كأسُه السُّمَّارَ والنُّدَمَا
واليوم أقبلت الأرزاءُ مفعمةً = يموجُ في ليلِها ماغابَ أو كُتِمَا
فَلْتَحْمِلِ العبءَ مزهوًّا بما ملكت = يداك من عزَّةِ الإيمانِ مقتحما
فلا التَّردُدُ يُجدي مَن لوى عُنُقًا = ولا التَّذمُّرُ يُنجي مَن شكا سَقَما
ويغرقُ الوَجِلُ الهيَّابُ في لججٍ = يمشي إليها الذي لم يرهبِ الظُّلَمَا
ويأنفُ الحرُّ أن يحيا أخا خَوَرٍ = أو أن يقدِّس في تطوافِه صنما
ويرتضي وطأة البلوى على مضضٍ = ولا يعافُ على أنوائها الشَّمما
لابدَّ للمرءِ من ضرَّاءَ تدركُه = مهما تقلبَ في السَّرَّاءِ أو نعما
ومَن يعشْ في زوايا اللهوِ مغتبطا = وقومُه بدماهم واجهوا الحمما
يعشْ ذليلَ الرؤى في كلِّ سانحة = وإن تمتعَ باللذاتِ والتَهَما
فالعصرُ عصرُ كفاحٍ دائبٍ وضنىً = لايرحمُ الغافلَ الخوَّارَ منهزما
مشى بسطوتِه الباغي على حرمٍ = وراحَ يُمطرُنا من حقدِه نقما
وداسَ أقدسَ ماترعاهُ أنفسُنا = وهل يراعي عدوٌّ إن طغى حرما !
ياقلبُ : هيَّجتَ أشجانا بأضلعنا = نامت وأوقدتَ في أحنائنا الضَّرَما
تلك الأهازيج ردَّتْها عقيدتُنا = مع الحوادث شعرًا ثار واحتدما
ولم تزلْ رفرفات الوُدِّ صافيةً = لمَن أشاعوا بقلبي الودَّ والسَّلما
نسجتُها من طيوفٍ هيَّجَتْ مقلي = مخضلَّةَ الحرفِ قد طابت لهم نغما
تموجُ في هدأةِ الذكرى وفي يدها = أطباقُ أشواقنا فوَّاحُها كَرُمَا
لمحُ الأُخوةِ ما وافى دجىً مقلي = إلا أفاضَ شجيَّ الشِّعرِ منتظما
وما تنفسَ صبحٌ بعد حلكته = إلا رأيتُ ضياهم في يديه همى
في منزلٍ عبقت فيه بشاشتُه = وصبيةٌ في حِماهُ لم يروا وصما
وزوجةٌ في رحابِ البيت مؤمنةٌ = أضحت تعلمُهم من دينِها الشِّيما
باتت تعيشُ وسترُ الله يكلؤُها = وإن طوتْ صبحَها بالحزنِ والغسما
وخيرُ ما يٌرزقُ الإنسانُ صالحةً = ترعى بغيبته الأولادَ والذمما
وأمسيات لنا في الدار مابرحت = نتلو بهنَّ كلامَ اللهِ والقيما
فكلُّ همٍّ ترى أثقالَه انفرجتْ = وباتَ جرحُ كرامِ الناسِ ملتئما
من إخوة ومن الجيران باغتهم = سيفُ الرزايا فبات الركنُ منهدما
طابت برحمة مولانا منازلُنا = إن كان كوخا وإن ألفيتَه أُطُما
يحنو عليهم فؤادي بعدَ بُعدِهُمُ = وبستثيرُ النَّوى في مهجتي الضَّرَمَا
ماهزَّني عاصفٌ في غربتي أبدا = ولا شكوتُ لسُمَّاري بها سأما
يلوذُ مَن هدَّتِ الشكوى عزيمتَه = برفرفات أناشيدي التي علما
فتغسلُ الهمَّ عنهُ ثم تخرجُه = من الشجونِ إلى دنياهُ مبتسما
هو الرجاءُ بربي لايقطعُه = وقعُ النوائبِ مهما اشتدَّ وازدحما
لكنه وهجُ التحنانِ أقلقني = وهاجَ بين شغاف القلبِ واحتدما
إنِّي رأيتُ أماقيهم وأدمعها = فرقَّ قلبي لهم شوقا وقد وجما
والمنزلُ العطرُ المزهو بفرحتهم = كأنَّه باتَ يخفي الحزنَ والألما
تركتهم ساعة الترحال إذ غفلوا = والشوقُ في أضلعي رغم النوى كتما
دنيا صغاري أغاريدٌ مجنَّحةٌ = ترنَّمُ العُمْرُ في أفيائها وسما
هذا الصَّدى من بواديهم هفا وعلى = رنين أحرفه أستقبلُ الرُّسُّما
فذا معاذٌ يغنيني قصائدَه = وما تعلم من علمٍ وما فهما
وكوثرٌ بهجةُ الدار التي ملأتْ = أرجاءَها فرحًا مارُدَّ أو لُجِمَا
وذا سعيدُ على دراجةٍ تعبت = يلهو ويلعب عبر الحيِّ مبتسما
بابا : أُجِلُّ معانيها إذا انحدرتْ = بسحرها شفتاهُ أو جرتْ نغما
وذي منار وما أحلى أناملها = تخطُ بالقلم السيَّاحِ ما سئما
وحول فاطمة ألعابُها ضحكتْ = تحكي سرورا بدنياها زها ونما
أحبُّهم والحنايا البيضُ موئلُهم = جعلتُها بعدَ ظلِّ اللهِ خيرَ حِمَى
على ربوعك ديرالزور قد سهروا = وفي دروبك رشُّوا صدرَها عنما
لعلها الغربة العمياء ماغفلت = فليس تطمسُ آفاقا ولا سِيما ( 3)
واليوم في أربُع تاريخُها عبقٌ = بكلِّ سِفرٍ لم ألقى به رَحِما
أحبتي في ربا الوادي هناك ولي = أحبَّةٌ هاهنا لم يخرموا الذمما
هم فتيةٌ من بطون المجدِ موئلُهم = صرحُ الأصالة إذ جاؤوا له قُدُما
على جباههم الآمالُ مشرقة = والفتحُ مستمطرٌ في أفقه ديما
كأنني ألمح الصحراء زاخرةً = والوحيُ من أفقها أحيا بها الرمما
ماماتَ مجدٌ رسولُ اللهِ مكَّنَه = بالبيِّناتِ ولن تلقاه منهدما
أراه يشمخ رغم البأسِ ذا ألقٍ = ويجمع العرب يوم الروع والعجما
ولن يخيبَ ولن يخزى بساحته = مَن عاشَ في دهرِه بالله معتصما
عن وارد الغربةِ العمياءِ ما كتما = بوحُ الحنين ولم يكسر لنا قلما
فصولُ غربتنا فصل نناجزه = ولم نجد غيرَه في وجهنا ابتسما
جئنا وغربتنا موجٌ به عصفت = رياحُه فعلى كل الفصول طمى
من ثلث قرن وفي أرزائها صبرت = بيضُ القلوبِ تعاني المرَّ والألما
لهيبُها زفراتٌ من لظى وهجٍ = ألقت على الصَّدرِ من إيذائها حمما
فمهجة لم تزل في الكرب غارقةً = وأضلع ضُمِّخَتْ مما تفيض دما
ولم يطق حاملُ الأنباء لوعتها = وإنها حسراتٌ أوقدت ضرما
وبعضها من مداد الصَّبرِ نمَّقَها = لأهلها قلمٌ ما لجَّ أو سئِما