كلما تأملت في سيرة الصحابي العبقري الداهية المسدَّد عمرو بن العاص ازددت إعجاباً به، وإكباراً له، وحسبه أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فرح بإسلامه فرحاً كبيراً، وأعلى منزلته، وبوأه منازل قيادية رفيعة فوراً، وأن عمر ابن الخطاب وهو العبقري الملهم كان معجباً به غاية الإعجاب، وحسبه أنه فاتح مصر العظيمة، وهي أهم بلد كسبه الإسلام بعد الجزيرة العربية.
له عقل سابق ألمعي، وخيال نافذ عملي، يجيد الحكم على الأمور وإن اشتبهت، ويبني النتائج على المقدمات فتأتـي كما قدر. أما الحلم، والنبل، والعدل، والحزم، والجود، والإدارة، والبيان، وكسب الناس فهو فيها في الذروة العليا. وأما شجاعته فهي الجرأة والحكمة معاً، كان يقدم حيث ينبغي الإقدام، ويحجم حيث ينبغي الإحجام، لذلك كان قادراً على النصر بأقل الخسائر.
ويرعى اليمام(
([1]) لأديب العربية الكبير مصطفى صادق الرافعي مقال نفيس بعنوان: (اليمامتان) في كتابه (وحي القلم) صور فيه روح عمرو السمحة الرفيقة حتى بالحيوان، حين أمر بترك فسطاطه ليمامتين اتخذتا منه مسكناً.
دعاني الحنين إلى القاهرةْ=فلبيت دعوته الطاهرةْ
وحب الكنانة بين الضلوع=يمور بأمواجه الفائرة
إذا ما خبت ناره في الفؤاد=تهيجها الخطرة العابرة
حللت بمصر وحلت عليّْ=فأشواقنا بيننا دائرة
يطوف علينا نبيل الوفاء=فتملكنا روحه الآسرة
أقول لها ما أشا أو تشا= وأنشق أنسامها العاطرة
وتصدقني ودها والحديث=وأصدقها القلب والباصرة
* * *=* * *
سألت الكنانة عن مجدها=وأكرم أيامها الظافرة
وأغلى صحائفها النيِّرات=فقالت وفرحتها غامرة
غداة أتى الطيبون الكرام=وأرواحهم بالتقى عامرة
وعمرو عليهم أمير نبيل=وفرسانه أنجم زاهرة
شباب لهم عفة الزاهدين=وشيب لهم همة هادرة
وتالون آيَ الكتاب العزيز=بألسنة رطبة ذاكرة
وخيل تلبي نداء الكماة=كما دمدمت موجة زاخرة
عليها من الصيد أكفاؤها=فوارس منصورة ناصرة
تمحض للَّه أعمالها=وترنو إلى ربها ناظرة
فيعبق منها الهدى والتقى=وتشرق كالروضة الناضرة
هي العدل والعدل ذو رحمة=لمن آثر اللَّه والآخرة
وذو قسوة للعتاة الذين=هم السوء والأنفس الخاترة
=
وبورك في الحالتين اللتين=تطيبان نافعة ضائرة
* * *=* * *
وعمرو- وأكرم به - سيد=أمير على عصبة آمرة
يطوف على مصر بالمكرمات=فتهنا به أمة صابرة
يفك القيود ويرعى العهود=ويبني البواديَ والحاضرة
ويجلو الكروب عن البائسين=ويحبو المرزأ والعاثرة