جدي يحكي لي تاريخا
جدي
يحكي لي تاريخا
د. لطفي زغلول /نابلس
يَحملُ مسبحةً في يدِهِ
وعباءتُهُ السّوداءْ
تسكنُهُ صبحَ مساءْ
الشّيبُ يلوّنُ بالإجلالِ.. مُحيّاهُ
ما نالتْ منهُ صروفُ الدّهرِ..
ولا يوماً تَرحالُ الغربةِ أعياهُ
وأحدِّقُ فيهِ
أسافرُ في عينيهِ
أحطُّ على قمرينِ اتّشحا بالعلياءْ
وأتوقُ لأسمعَ منهُ..
جديدَ حكاياهُ
من إلاّهُ.. من إلاّهُ
من إلاّ جدّي يَحكي لي
تاريخَ الدارْ
تاريخَ الأرضِ مسطّرةً
بحروف الرفضِ..
مجلّلةً بلهيبِ النارْ
بجراحٍ تمطرُ ليلَ نهارْ
عن فردوسٍ مفقودٍ..
حلَّ بهِ الأغرابْ..
لم أقرأهُم في أيِّ كتابْ
وأنا ما بين يديْ جدّي
يسكنُني رفضٌ وتَحدِّ
وأحدّقُ فيهِ.. أقرأُ في عينيهِ
آياتِ الإصرارْ
ينسابُ على رئتيَّ
أريجُ البياراتِ..
نسيمُ البحرِ..
أحطُّ على رملِ الشُطآنِ
أعودُ إلى أحضانِ الدّارْ
جدّي لا ينسى.. يتذكّرْ
ويقولُ بصوتٍ..
يشبهُ نبراتِ العسكرْ
كانتْ قريتُنا
غابةَ سروٍ وصنوبرْ
تبسطُ عندَ ضفافِ الحُبِّ..
جناحيها
تتوضّأُ بالمطرِ الأخضرْ
أنسامُ التلاّتِ الفيحاءِ..
تُصلّي بينَ ذراعيها
الشّمسُ تقبِّلُ كُلَّ صباحٍ خدّيها
القمرُ العاشقُ ينزلُ..
آناءَ الّليلاتِ يناجيها
يغرقُ في بحرِ دواليها
جدّي لا ينسى.. يتذكّرْ
الزّمنُ توقّفَ بينَ يديهْ
الصّورةُ ظلّتْ تسكنُ..
حتّى أوجِ الّلحظةِ..
في عينيهْ
وتفاجئُني حبّاتُ القهرِ..
تغادرُ قسراً
من عينيهِ إلى خدّيهْ
جدّي لا ينسى.. يتذكّرْ
غربانَ الّليلِ..
تجيءُ من الجهةِ الأخرى
أسراباً أسراباً تَترى
تفرغُ أحمالَ حقائبِها
ناراً موتاً..
حقداً غدرا
تغتالُ الشّمسَ الضاحكةَ العينينِ..
تمزّقُ أحشاءَ القمرِ السّهرانِ..
على شُرفاتِ منازلِنا
وتسطّرُ بالدّمِ وجهَ لياليها
سطراً سطراً
جدّي لا ينسى.. يتذكّرْ
الرّملةَ.. والّلدَّ.. ويافا
يتذكّرُ بيسانَ وحيفا
الدّارَ هناكَ.. الأرضَ هناكْ
خلفَ الأسوارِ الشّائكةِ الأسلاكْ
وهنا المَنفى
جُرحٌ مدرارٌ لا يَشفى
يمطرُ نزفا
يورقُ جرحاً
يزهرُ نزفا
وتسيلُ على خدّيْ جدّي
عبراتٌ غاضبةٌ حرّى
ويعربدُ بينَ جوارحِهِ
جرحُ الذّكرى
وتعودُ لتضحكَ عيناهُ بِشراً
ويشيرُ بيمناهُ
في هذا الصّندوقِ الخشبي
مفتاحُ الدّارْ
قد أعطاني إيّاهُ أبي
وشهادةَ ميلادي
مكتوباً فيها تاريخُ بلادي
وبأنّي فيها
كنتُ ولدتُ وأجدادي
هذا المفتاحُ لكمْ بعدي
هذا المفتاحُ لكمْ بعدي
هذا المفتاحُ هو الوَعدُ الموعودُ
لعلَّ أيادي أحفادي
تصدقُ وَعدي